بعد القفزة الكبيرة التي شهدتها أسعار النفط عالمياً لتكسر حاجر الـ70 دولاراً للبرميل، تتزايد التساؤلات بشأن إمكانية استثمارها عراقياً لتجاوز الأزمات الاقتصادية الكبيرة التي خلفها التراجع السابق في أسعار النفط نتيجة تفشي فيروس كورونا.
وعلى الرغم من مؤشرات التفاؤل التي يبديها مسؤولون وبرلمانيون في إمكانية أن تؤثر في سياق ضبط السوق العراقية وإعادة السيطرة على أسعار الصرف، فإن متخصصين في الاقتصاد يرون أن الفساد وسوء الإدارة يقفان عائقاً كبيراً في طريق استثمار تلك الزيادة في أسعار النفط.
نهاية أزمة الاقتراض
وعلى الرغم من زيادة أسعار النفط، فإن المخاوف مستمرة من إمكانية تذبذبها مرة أخرى، الأمر الذي سيزيد من الإشكالات الاقتصادية التي تعانيها البلاد.
في المقابل، توقع وزير النفط العراقي إحسان عبدالجبار، ألا تتجاوز أسعار النفط حدود 75 دولاراً للبرميل، ولا تقل عن 68 دولاراً خلال النصف الثاني من العام الحالي مع التزام "أوبك" وحلفائها بسقف الإنتاج.
وارتفعت أسعار النفط، الجمعة 10 يونيو (حزيران)، إلى أعلى مستوى لها منذ سنوات لتصل إلى حدود 72 دولاراً للبرميل.
ويتزايد الحديث بشأن إمكانية أن تسهم تلك الزيادة في عدم اقتراض العراق مرة أخرى لسداد النفقات الضرورية وعدم التوجه نحو الاقتراض مرة أخرى.
في غضون ذلك، استبعد مستشار رئيس الوزراء العراقي للشؤون المالية، مظهر محمد صالح، أن يحتاج العراق إلى اقتراض لتمويل عجز الموازنة العامة في حال استمرار أسعار النفط على هذا النحو حتى نهاية العام.
وقال المستشار في تصريح صحافي، إن "العراق سيحتاج فقط إلى السحب من قروض قديمة مرتبطة بمشاريع يجري تنفيذها حالياً ضمن برامج تمويل دولية، لا سيما مع البنك الدولي والاتحاد الأوروبي واليابان، وغيرها".
وتابع أن "مبالغ هذه القروض السنوية محدودة في الموازنة، ولا تتعدى 15 في المئة من إجمالي التخصيصات الاستثمارية في الموازنة العامة الاتحادية 2021".
عودة الحديث عن أسعار الصرف
ومنذ بداية صعود أسعار النفط، عاد الجدل في الأوساط السياسية حول العديد من القضايا الخلافية، وعلى رأسها قضية سعر صرف الدولار أمام الدينار العراقي، خصوصاً بعد ارتفاع سعر الصرف في الأسواق المحلية إلى نحو 1500 دينار للدولار الواحد.
ويتحدث نواب في البرلمان العراقي عن ضرورة استثمار الزيادة في أسعار النفط لضبط أسعار صرف الدولار في السوق المحلية، أو إعادتها إلى ما كانت عليه.
وقال النائب منصور البعيجي في بيان، إن "ارتفاع اسعار النفط بالأسواق العالمية يجب أن ينعكس إيجاباً على اقتصاد البلد، والذي شهد تدهوراً كبيراً خلال الفترة السابقة بسبب جائحة كورونا وقرار رفع سعر صرف الدولار"، معبراً عن أمله بأن تتخذ الحكومة "الخطوات المناسبة للحد من الضرر الذي خلفه رفع سعر الصرف للدولار".
في المقابل، يرى متخصصون في السياسة المالية أن زيادة أسعار النفط غير مرتبطة بأسعار الصرف في السوق العراقية.
ويقول المدير العام السابق للعمليات المالية في البنك المركزي، محمود داغر، إن الزيادة في أسعار النفط لا علاقة لها بضبط أسعار صرف الدولار مقابل الدينار العراقي، مبيناً أن "سعر الصرف في البلاد مرهون بنظام السعر الثابت، والذي يرتبط بسياسات البنك المركزي".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويبين أن الإشكالية التي تعانيها السوق العراقية في ما يتعلق بأسعار الصرف ترتبط بـ"عدم طمأنة السوق العراقية فيما يتعلق بالطلب على الدولار، على الرغم من توفر احتياطيات من الدولار في البنك المركزي قادرة على تلبية الطلب".
ويلفت إلى أن الإشكالية في عدم السيطرة على أسعار الصرف تتعلق أيضاً بـ"عدم الاستقرار السياسي، والذي بات يخلق موجة مضاربات تؤثر على استقرار الدينار العراقي".
ثلاثة مسارات لاستثمار زيادة أسعار النفط
ويدور حديث المتخصصين في الاقتصاد بشكل عام حول إمكانية استثمار تلك القفزة في أسعار النفط ضمن مسارات عدة ترتبط غالبيتها في التقليل من الضغوط التي تعانيها البلاد بسبب شح الموارد المالية خلال السنة الأخيرة.
ويشير داغر إلى ثلاثة أبواب يمكن استثمار زيادة أسعار النفط فيها، وتتمثل بـ"تقليل العجز في الموازنة العامة وسداد الديون المترتبة على الدولة، وزيادة احتياطيات البنك المركزي من الدولار".
وفي شأن إمكانية أن تحدث الزيادة في أسعار النفط انتعاشة للاقتصاد العراقي، يبين داغر أن أسعار النفط تجاوزت حدود الـ100 دولار في أعوام سابقة، لكنها لم تستثمر في سياق اقتصادي سليم، مبيناً أن الإشكالية ترتبط بـ"السياسات الاقتصادية للدولة العراقية".
ويوضح أن من بين العوامل الأخرى التي تمنع استثمار تلك الموارد الإضافية هي "عدم وجود استقرار سياسي وأمني وتفشي ظاهرة الميليشيات"، مردفاً "من غير المتوقع أن يقدم أي مستثمر محلي أو أجنبي على إقامة مشاريع من دون توافر عوامل الاستقرار في البلاد".
ولعل الإشكالية في استثمار الموارد الاقتصادية تتعلق بـ"غياب العقلية الاقتصادية للحكومات المتعاقبة"، كما يعبر داغر الذي يلفت إلى أن كل ما يفعله ارتفاع أسعار النفط هو "زيادة الإيرادات التي تتزامن معها زيادة في النفقات".
موازنة تكميلية
وكانت اللجنة المالية في البرلمان العراقي قد تحدثت عن أبواب عدة يمكن استثمار زيادة أسعار النفط فيها، وعلى رأسها إعداد موازنة تكميلية.
وكان عضو اللجنة المالية في البرلمان العراقي، جمال كوجر، قد صرح الشهر الماضي بأنه بالإمكان الاستفادة من ارتفاع اسعار النفط عالمياً ضمن أبواب أساسية، أولها "إعداد موازنة تكميلية على اعتبار أن إجراء الانتخابات في أكتوبر (تشرين الأول) المقبل سيجعل من الصعب على الحكومة والبرلمان إعداد موازنة للعام المقبل، ما يجعلنا بحاجة إلى موازنة تكميلية".
وأضاف أن الباب الآخر يتمثل في "إمكانية الاستفادة من الفائض المتوقع لتسديد القروض الخارجية المستحقة التي استحقت الدفع وتم تأجيلها في الموازنة، ومن بينها أسعار الغاز المصدر من إيران إلى العراق لتشغيل محطات الكهرباء".
أما الباب الثالث، بحسب كوجر، فهو "تغذية احتياطي البنك المركزي الذي سحب منه كمية كبيرة في الفترات السابقة من المبالغ الفائضة بحال ارتفاعها إلى أرقام كبيرة بغية إنعاشه لأهميته في السياسة النقدية والمالية للبلد".
اختبار حقيقي للحكومة
وعلى الرغم من تصاعد الجدل حول إمكانية أن تؤدي زيادة أسعار النفط إلى انتعاشة للاقتصاد العراقي، يرى متخصصون أن الإشكالية ترتبط بغياب العقلية الاقتصادية عن التحكم في مسارات المال في البلاد.
وترى أستاذة الاقتصاد سلام سميسم أن ما جرى من زيادة في أسعار النفط يمثل "اختباراً حقيقياً للحكومة العراقية التي كانت تعلل عدم تنفيذ مشاريع تنموية بغياب التمويل والعجز في الموازنة العامة للبلاد".
وتضيف لـ"اندبندنت عربية"، "الموازنة العراقية تخلو من البصمات التنموية وتتجه في الغالب إلى النفقات الجارية للرواتب والاستهلاك، وهذا بالإمكان تغييره وفق الزيادة المتوقعة في الإيرادات"، مبينة أن ما جرى يمثل "فرصة لتحويل بوصلة الاقتصاد العراقي إلى الجوانب التنموية".
ويبدو أن تفشي الفساد وسيطرة الأجواء السياسية على إدارة الموارد الاقتصادية للبلاد "تعرقل إمكانية نشوء تنمية حقيقية"، بحسب سميسم، التي تعتقد أن بناء النظام العراقي بعد 2003 ارتبط بـ"تغييب الرؤية الاقتصادية عن إدارة الموارد، وأصبح الاقتصاد مرهوناً بالفعل السياسي للمتحكمين بالبلاد، الأمر الذي يدفع باتجاه التوقعات التشاؤمية بشكل دائم".
وكان البرلمان العراقي قد صوت على موازنة عام 2021 نهاية شهر مارس (آذار) الماضي، بعد خلافات عميقة بين الكتل السياسية، بلغ حجمها 129 تريليون دينار (88 مليار دولار) بعجز متوقع بلغ 28 تريليون دينار (19 مليار دولار).