كان كتاب "مقاطع من كلام عاشق" واحداً من آخر الكتب الكبيرة التي أصدرها المفكر والناقد الفرنسي رولان بارت، قبل سنوات قليلة من رحيله المأساوي والمباغت في عام 1980 متأثراً بصدم سيارة له في "شارع المدارس" الباريسي، حيث كان يدرّس في "كوليج دي فرانس". والحقيقة أن أحداً لم يفاجأ في عام 1977 حين ظهر هذا الكتاب الذي كان كثر يتساءلون أصلاً متى سيكتبه هذا المفكر، الذي كثيراً ما كان دنا في بحوثه سواء كانت تعليقات أو دراسات مطولة أو مقالات صحفية، من موضوعات تبدو شديدة القرب من الموضوعة التي تسم هذا الكتاب: موضوعة الحب ولغاته وبخاصة كما تجلت في الآداب والفنون على مدى التاريخ الإنساني.
البحث عن لغة الحب
ونعرف طبعاً أن هذا الموضوع نفسه يشكل عادة القسم الأعظم من مواضيع تلك الأعمال سواء من ناحية تجليه في تطبيقاته العملية أو في طرحه موضوعاً للبحث. غير أن ما هو خاص لدى بارت إنما كان حصره الحديث في لغة الحب أو بالأحرى في كلام العشق. ومن هنا كان من الطبيعي له أن يقدم ما يشبه الأنطولوجيا لمواضيع العشق كما تلوح في لغته، وفي الأقل منذ "مأدبة" أفلاطون حتى عصورنا الحديثة، مروراً بأمهات النصوص والأعمال الفنية، بما فيها من ناحية الثقافة العربية كتابات الأندلسي ابن حزم، وفي زمن أقرب إلينا مساهمات التونسي الطاهر لبيب في أطروحته حول الغزل في التراث العربي التي باتت شهيرة بعد صدورها أولاً بالفرنسية قبل ترجمتها مرات عديدة إلى العربية، ناهيك بكتابات غوته وشكسبير...
صعوبة أقل
في ثمانين مقطعاً قصيراً وبلغة تقل في صعوبتها عما نعهده من صعوبة عادة في نصوص بارت السابقة، يقدم هذا الأخير نوعاً من "قاموس" لما يسميه كلام العشق، لغة الحب، وهو ما يقول عنه المؤلف: "أعرض هنا لعدة فصول بمقاطع صغيرة (...) وهي بالطبع ستأتي مبتسرة ومبسطة لأنها خارج السياق (وهو سياق خاص بالكتاب) إلا أنها قد تكون مفيدة في إعطاء فكرة عن طريقة الكتابة وذكاء الكشف والحب الذي يقرأ به الواحد هذا الكتاب الوحيد وهو يشعر بالوحدة، وحدة المحب لأنه يتواصل مع الحالات الغرامية عبر كلام ليس عن الحب بل في الحب. إنه كتاب - لا نقرأه تماماً بل نقرأ فيه بشكل يجعلنا بشكل ما ندخل في سياقه".
على لسان المحب
إذاً ما لدينا هنا هو ثمانون فصلاً جمع فيها رولان بارت ثمانين مقطعاً تعبر عن ثمانين كلمة، رأى أنها تشكل في مجموعها خطاب العشق بل بالأحرى الخطاب العاشق، ولكن دائماً على لسان المحب بدءاً من قوله "إني أغرق" وصولاً إلى حيرته إذ يقول "أريد أن أفهم"، معبراً عن "كل نشوات الأرض - حتى الامتلاء". محاولاً الوصول إلى "جسد الآخر"، متحسراً على "الواقع المغلوط" وتأكيده "إنني مجنون"، في خضم "الحب الذي لا تعبر عنه الكتابة"، مروراً بـ"إنني أحبك" المتناهية في البساطة. من دون نسيان التوقف عند نوازع مثل "الغيرة" و"الوحدة" و"فكرة الانتحار" و"الخناقة" و"الثوب" و"النفي ونفي الآخر" و"القلب" و"الوجع الذي يسببه الآخر" و"الانتظار" الذي هو أقسى الحالات، إذ يستفيض الكاتب هنا في تصوير ذلك الزمن المتواصل، زمن الانتظار الذي لا حدود لطوله. ولعل التوقف البارتي عند تيمة الانتظار هذه يعطي واحدة من أجمل وأعمق الأفكار حول تعاطيه مع موضوعه من خلال ما يرويه العاشق نفسه: "يحدث هذا إذاً مثل مسرحية تدور في ديكور داخل مقهى، وبما أنني ممثل المسرحية الوحيد لا بد أن أستنتج وأسجل تأخر الآخر. حتى الآن هذا التأخر ما زال معطى رياضياً ممكن حسابه. أنظر إلى ساعتي بضع مرات وتنتهي المقدمة هنا على موال يطلع في رأسي. أقرر أن أغضب ويبدأ قلق الانتظار. أبدأ الفصل الأول بالتكهنات: ماذا لو كان هناك سوء تفاهم على الوقت؟ على المكان؟ يبدأ القلق الفعلي. هل أغير المكان؟ هل أفعل؟. الفصل الثاني هو فصل الغضب. الفصل الثالث فصل أقصى درجات القلق ما يقودني إلى الإهمال إلى القرار بالترك. وهكذا أمر بثانية واحدة من الغياب إلى الموت. ولكن ماذا؟ إن الكائن الذي أنتظره ليس حقيقياً كما تزعم الأم لرضيعها. إنني أخلقه. وأخلقه لحاجتي إليه. الآخر يأتي من حيث أنتظره. من حيث أبتدعه. فإن لم يأت لا بد أنني أهذي به. الانتظار هذيان وأنا أحافظ على عادة الهذيان...".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من الإبداع إلى الحياة نفسها
من مثل هذه المقاطع يكوّن بارت كتابه هذا تكويناً شديد الخصوصية وبالغ الجمال، لأنه يستند هنا ليس فقط إلى قراءاته وتماسّه مع مئات الأعمال الفنية (المسرحية والموسيقية واللوحات التشكيلية) والأدبية، بل لأنه كذلك يغوص في تجاربه الخاصة وتجارب معارفه، ويكشف في بعض الأحيان عن نقاشات شديدة الخصوصية يستخدمها هنا ليس فقط لتوضيح فكرته حول العشق وخطابه، ولكن كذلك وبشكل خاص لتصوير كل ذلك الكلام الذي يكوّن دائرة الحب وأحواله وتفاعل المحبين - وغير المحبين معه. ولعل ما يلفت النظر حقاً في هذا الكتاب، أن بارت لا يغرق في التحليل والسرد بل يكاد يكتفي بعرض أمثلته معتمداً على لعبة الربط الذي يقيمه بين المثل والآخر، بحيث إن الترتيب التوليفي يلعب هنا دوراً رئيساً في توضيح أفكاره، وهذا على عكس ما يفعل مثلاً بالنسبة إلى موضوع يبدو أقل خطورة بكثير من موضوع العشق وكلامه: موضوع "الموضة"، إذ لا يتوقف في كتابه "نظام الموضة" الذي أصدره قبل "مقاطع من كلام عاشق" عن التحليل والاستطراد مقابل الاكتفاء بالربط والإكثار من الأمثلة التي ترد غالباً على لسان "العاشق" في الكتاب الذي نحن في صدده. وكأن المؤلف أحس هنا أن هذا الموضوع بما أنه يعني كل فرد من الأفراد، يبدو موضوعه مستقيماً وقادراً على الوصول إن هو اكتفى بسرد حالات العشق من خلال كلام أصحابه، حين يكفي ذلك في حد ذاته لإيقاظ "وعي" قارئه ووضعه في صلب المسألة المطروحة.
تطبيق نظرية ما...
ومن هنا ما اعتبره بارت دائماً لدى الحديث عن "مقاطع من كتاب العشق" من أنه يكاد يكون الكتاب الوحيد الذي طبق فيه نظريته حول ما سمّاه يوماً "موت المؤلف". فكتاب مثل هذا لا يحتاج في رأيه إلى مؤلف لأن "الكلّ شارك في تأليفه" وإن كان من الصعب القول إن "الكلّ يشارك في قراءته". فالحال هنا على عكس ما يحدث في النصوص الأخرى، حين يكون المؤلف فرداً والقراء متعددين، نجدنا أمام كتاب له ألوف المؤلفين متحلقين من حول فصوله/ خطاباته الثمانين، ليصل النصّ الجمعي في نهاية المطاف إلى ذلك القارئ الفرد الوحيد الذي هو العاشق، العاشق في كل فرد منا. وبهذا يكون رولان بارت (1915-1980) قد قدّم تطبيقاً عملياً لما كان يحلم دائماً بأن تكونه كتابته: كتابة تنطلق من موت المؤلف لإيصال اللغة إلى أعلى درجات حيويتها. ومن هنا نفهم بارت حين يقول: وُضع الكتاب انطلاقاً من المبدأ التالي: يجب ألا نرد العاشق إلى مجرد موضوع عارض، بل أن نسمع ما هو غائب في صوته، أي ذاك الذي لا يمكن مقاربته. ومن هنا اختيار طريقة دراماتيكية تلغي الأمثلة بوصفها أمثلة وتستند إلى فعل اللغة الأولى المتحولة إلى ميتا- لغة. ولهذا عرضنا البوح بديلاً من التحليل. ووصلنا إلى رسم بورتريه لكنه ليس بورتريهاً سيكولوجياً بل بورتريه بنيوي. بورتريه يعطينا مكان القول لنقرأه: مكان واحد يتكلم عن نفسه بغرام تجاه الآخر (المحبوب) الذي لا يقول شيئاً...".