على الرغم من الرهانات الأميركية بأن الرئيس الجديد في إيران إبراهيم رئيسي وغيره من المتشددين في البرلمان والقضاء سيكونون في حاجة إلى التهدئة والتوافق مع الولايات المتحدة، للعودة إلى الاتفاق النووي بغية ترتيب البيت الداخلي، استعداداً لخلافة متوقعة لمقعد المرشد الأعلى لـ"الثورة الإسلامية"، فإن هجمات السفن الأخيرة في خليج عمان وقصف شمال إسرائيل والهجمات السابقة ضد مصالح واشنطن في العراق، توحي بأن التيار المتشدد في طهران يقود البلاد إلى سلوك أكثر عدوانية، انطلاقاً من اعتقاده أن أميركا أصبحت قوة متراجعة في المنطقة، وهذا يعني أن الرئيس الأميركي جو بايدن قد لا يتمكن مثل أسلافه من تقليل الأهمية الاستراتيجية للشرق الأوسط كما يوشك أن يفعل الآن. فكيف ستتعامل إدارة بايدن مع سيناريو كهذا؟
سياسات تصعيدية
حتى قبل أداء الرئيس الإيراني المتشدد الجديد، إبراهيم رئيسي، اليمين الدستورية أمام البرلمان، يوم الخميس الماضي الخامس من أغسطس (آب)، كانت "الجمهورية الإسلامية" تمارس سياسة تصعيدية واضحة على جبهات عدة في الشرق الأوسط، فقد انسحبت طهران من طاولة مفاوضات الاتفاق النووي في فيينا، بعد التقدم بمطالب مستحيلة، وشنّ الإيرانيون هجمات بطائرات مسيرة على أهداف أميركية وناقلة نفط تديرها شركة مملوكة لإسرائيل في الخليج العربي وخليج عُمان، فضلاً عن احتمال تورطهم في أعمال قرصنة على سفن أخرى، وهو سلوك يفسره البعض في واشنطن على أنه يعود إلى شعور عدائي يغذيه اعتقاد لدى المتشددين في إيران، بأن أميركا أصبحت قوة متراجعة في الشرق الأوسط، لأنها لم تعد تمتلك رغبة في الصراع، بسبب تركيزها الاستراتيجي على منافسة الصين وتحويل اهتمامها إلى المحيطين الهندي والهادي.
ويستند هؤلاء إلى أن الرئيس الأميركي جو بايدن أشار إلى رغبته في وقف التصعيد في العراق وأفغانستان، على الرغم من أنه أمر بشنّ هجمات جوية ثانية، الشهر الماضي، ضد الميليشيات التي تدعمها إيران على الحدود العراقية السورية، كما أخبر بايدن رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي أن القوات الأميركية المقاتلة ستنسحب من العراق بحلول نهاية العام، على الرغم من أن القوات الأميركية تقوم بأدوار غير قتالية مثل التدريب والاستشارة وتقديم المعلومات الاستخبارية لقوات الأمن العراقية.
إيران أكثر عدوانية
لكن جهود بايدن لتقليل انخراط الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، تذكر بمفارقة قديمة في الدبلوماسية الأميركية، فوفقاً لمجلة "فورين بوليسي"، سعت كل إدارة أميركية تقريباً على مدى عقود إلى تجنب الانزلاق في وحل العمليات العسكرية الواسعة في الشرق الأوسط، والتركيز على التهديدات التي يمكن التحكم فيها من أماكن أخرى، ولكن مع فوز التيار المتشدد الآن في إيران وسيطرته على كل مفاصل الدولة في البرلمان والقضاء والحكومة، قد يجعل إيران أكثر عدوانية.
وكما يقول دنيس روس، المفاوض الأميركي السابق في الشرق الأوسط، فإنه إذا كان الإيرانيون لا يتجاهلون الولايات المتحدة، فلا ينبغي لواشنطن أن تتجاهلهم، لأنه من الأفضل تشكيل الدور الذي ينبغي أن تقوم به أميركا بدلاً من أن يُفرَض عليها هذا الدور.
وعلى الرغم من سحب إدارة بايدن بطاريات صواريخ باتريوت وطائرات مقاتلة بالإضافة إلى مئات القوات من عدد من دول الخليج، التي كانت جزءاً من حشد أميركي لمواجهة إيران في المنطقة خلال عهد دونالد ترمب، فإن الدبلوماسيين المطلعين على تفكير فريق بايدن يقولون إن الإدارة تطمئن حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، بأن واشنطن ستظل منخرطة في المنطقة وسترد على إيران بقوة عند الضرورة.
احتمالات المواجهة
يتفق العديد من خبراء الشرق الأوسط في واشنطن على أن حاجة المرشد الأعلى لـ"الثورة الإسلامية"، علي خامنئي، لتعزيز بقاء النظام أكبر من رغبته في التخلص من العقوبات الأميركية عبر العودة إلى الاتفاق النووي، وأن أفضل وسيلة لضمان استقرار النظام الإيراني هي اتباع سياسة معادية للولايات المتحدة، والتي طالما كانت أفضل سبب أيديولوجي مضمون لاستمرار النظام منذ عام 1979 حينما انطلقت الثورة التي أسقطت شاه إيران.
وبعد أن تمكن خامنئي من الدفع بحليفه إبراهيم رئيسي المتماثل معه في الرؤية والمنهج للفوز بهذا المنصب، لن يكون لدى النظام حاجة بعد الآن إلى التظاهر بالاعتدال، لأن خامنئي يرى بالفعل أن الغرب يبتعد عن طريق إيران، وأن رئاسة رئيسي ستكون أداة لترسيخ إرث خامنئي المتمثل في العداء مع الغرب، والحروب بالوكالة خارج حدود إيران، والبقاء على المسار الثوري من خلال استخدام أساليب القوة في الداخل وسحق المعارضة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبينما تظل احتمالات نشوب حرب كبرى بين إسرائيل وإيران منخفضة في الوقت الحالي في الأقل، ستزداد احتمالات وقوع اشتباكات خطيرة في عدد من الجبهات عبر الوكلاء، سواء كان ذلك بشكل مباشر أو غير مباشر، وهذا بدوره من المرجح أن يجعل أي عودة إلى الاتفاق النووي لعام 2015، المعروف باسم خطة العمل الشاملة المشتركة، أكثر صعوبة.
حقبة جديدة
ولا شك أن التغييرات الجديدة في إيران تعد بإطلاق حقبة جديدة في تاريخ "الجمهورية الإسلامية"، فالرئيس الإيراني الجديد ستكون إحدى أولوياته إحكام سيطرة المرشد الأعلى على الوكالات الإدارية للحكومة، وتمهيد الأجواء أمام مرحلة انتقالية من المحتمل أن تؤدي إلى صعود رئيسي إلى رأس "الجمهورية الإسلامية" في إيران باعتلاء مقعد المرشد الأعلى خلفاً لخامنئي، ومع تلاشي العديد من القادة والحركات التي حددت السياسة الإيرانية على مدى العقود الثلاثة الماضية، أصبح لدى السلطة المتشددة فرصة لإعادة تشكيل السياسة والمجتمع في إيران بطرق من شأنها توسيع سيطرة الحرس الثوري الإيراني على اقتصاد البلاد، وتضييق الحريات السياسية، والدفاع عن القومية الإيرانية لتوسيع قاعدتها الشعبية الداخلية والاعتماد على الأيديولوجيات الشيعية والمعادية للولايات المتحدة لإظهار القوة إقليمياً.
ويمكن لهذه التغييرات أن تعيد تشكيل علاقة إيران بالعالم، وبخاصة مع الولايات المتحدة، فمع دعم الحرس الثوري الإيراني الواثق من نفسه، واختفاء الخوف من العصيان المدني وعمليات التخريب الداخلية بعد سحق المعارضين، لن تتردد الحكومة الجديدة في مواجهة التهديدات الوجودية التي تتصورها من الولايات المتحدة، وعلى الرغم من أن رئيسي قد يوافق على العودة إلى الاتفاق النووي للتخفيف من الأزمات الاقتصادية المتصاعدة في الداخل، فإن فريق السياسة الخارجية المقبل سوف يتجاهل تطلعات الرؤساء السابقين في التقارب مع الغرب، وبدلاً من ذلك سوف يسعى النظام، حسب كثير من التحليلات، إلى إقامة تحالفات استراتيجية مع الصين وروسيا والتي تركز على الشرق الأوسط، إذ ستسعى إيران إلى توقيع اتفاقات أمنية وتجارية ثنائية مع جيرانها، وتضاعف جهودها في تقوية شبكة وكلائها في العراق ولبنان وسوريا واليمن وغيرها.
في الوقت نفسه، يرى بعض المراقبين مثل محمد آيات الله طبر، أستاذ الشؤون الدولية في كلية بوش للإدارة الحكومية بجامعة "تكساس أي آند أم"، أن العلاقات الأميركية الإيرانية ستدور حول مخاوف أمنية فورية، بينما لن يجد الوعد الجذاب بتقارب أوسع بين الطرفين أرضاً خصبة في طهران، إذ من المحتمل أن تكون فرصة عقد صفقة كبرى بين البلدين قد أغلقت.
عكس أسلافه
وسيحاول رئيسي قلب تطلعات أسلافه الفاشلة في التقارب مع الغرب، إذ توصل الرؤساء السابقون لإيران إلى الاعتقاد بأن أفضل طريقة لتشكيل إيران آمنة ومأمونة هي جعل البلاد جزءاً من الاقتصاد العالمي، بينما يعتقد رئيسي عكس ذلك تماماً، فهو يرى أن إيران القوية التي تتمتع بنفوذ إقليمي بلا منازع هي وحدها القادرة على ردع القوى الخارجية وتحقيق الازدهار الاقتصادي، لذا من المتوقع أن يعزز القدرات العسكرية للحرس الثوري الإيراني لمواجهة الضغط الأميركي، وهذا يعني تعزيز شبكة الوكلاء التابعة لفيلق القدس التابع له في العراق ولبنان واليمن وخارجها.
وربما كان رئيسي بحاجة إلى نجاح دبلوماسي في الاتفاق النووي للتعامل مع بحر من المشاكل الداخلية، لكنه على عكس الرئيس السابق حسن روحاني، فهو يرى أن الولايات المتحدة مصرة أيديولوجياً على تدمير "الجمهورية الإسلامية"، ويفترض أن واشنطن ستحاول التراجع عن أي اتفاق إما بشكل صريح، كما فعل ترمب وإما بمهارة، كما فعلت إدارة أوباما من خلال عدم إزالة العقوبات المالية على إيران بشكل صحيح.
مسار تصادمي
وقد يؤدي توقيع اتفاق نووي جديد إلى إنشاء منطقة أكثر قابلية للاشتعال، إذ تخشى طهران من أن تمنح الولايات المتحدة عبر هذا الاتفاق حرية مطلقة لملاحقة نفوذها الإقليمي، ويخشى أعداء طهران من أن واشنطن ستزود إيران بالمزيد من الموارد لتعزيز قوة وكلائها وبرنامجها الصاروخي.
ومن الواضح أن المعضلة الأمنية الناتجة عن ذلك مهيأة لتصعيد التوترات بين إيران والولايات المتحدة، إذ إن البلدين متورطان بالفعل في صراع منخفض المستوى ولكنه مستمر في العراق، حيث تصطدم القوات الأميركية والميليشيات الموالية لإيران بشكل متقطع.
وعلى الرغم من أن رئيسي أصر على احتمال إجراء محادثات مع القوى الإقليمية لخفض التوترات في المنطقة، فإن القيادة الموحدة الناشئة في إيران ترى نفسها في وضع جيد، فهي واثقة من جيشها، وعرفت منذ فترة طويلة كيف تزدهر في النزاعات وتوسيع حلفائها، ولهذا، فإن إيران والولايات المتحدة تسيران على مسار تصادمي.