قررت النيابة العامة في القطب القضائي الاقتصادي والمالي بتونس الإثنين الماضي منع السفر لأكثر من 12 مسؤولاً سابقاً مشتبه في تورطهم بفساد مالي وإداري. وتعلقت الشبهات بملف استخراج ونقل الفوسفات على خلفية شكوى سابقة تقدم بها "مرصد رقابة"، وهي منظمة مستقلة، طالب فيها بكشف الحقيقة وتحقيق العدالة في الملف المتعلق بنقل الفوسفات من موقع المنجم في مدينة قفصة جنوب غربي البلاد إلى وحدة التحويل في مدينة قابس بالجنوب الشرقي.
وفتح الملف في إطار الإجراءات التي اتخذت من الرئيس قيس سعيد في حملة محاربة "الفساد والفاسدين" وفق تعبيره، منذ قراره تجميد البرلمان وإقالة رئيس الحكومة قبل أكثر من أسبوعين.
600 ألف طن
وتتعلق القضية الحالية باستخراج ونقل 600 ألف طن من الفوسفات في منجم "المكناسي" بمحافظة قفصة بين عامي 2013 و2019 ووجود شبهات فساد حول عقود النقل.
وشمل قرار منع السفر الوزير الأسبق للصناعة والمؤسسات الصغرى والمتوسطة والمدير العام الأسبق لشركة فوسفات قفصة والكاتب العام الأسبق للحكومة والمدير العام السابق للشركة ومراقب دولة عام للفترة من 2013 إلى 2017 ونائب برلماني حالي وصاحب شركة وشقيقه.
وكان المرصد قدر في شكواه الأضرار التي لحقت بشركة فوسفات قفصة بمبلغ لا يقل عن 70 مليون دينار (24.5 مليون دولار).
عقود مشبوهة
وكشفت منظمة "أنا يقظ" المستقلة أن مجمع مقاولات يشارك فيه مستثمر وعضو في البرلمان غنم عبر شركة يمتلك ربع حصصها 17 مليون دينار (5.96 مليون دولار) من عقود نقل الفوسفات عبر الشاحنات إبان 2014، من مجموع 23 مليون دينار (8 مليون دولار) حصل عليها بين عامي 2012 و2017، وذلك وفق وثائق حصلت عليها المنظمة من الشركة.
ووفق الوثائق نفسها، ظفر النائب رفقة شركائه بعقدين لشحن الفوسفات ونقله من قفصة إلى المجمع الكيمياوي التونسي في قابس أو صفاقس أو لمصنع الشركة التونسية - الهندية للأسمدة.
ويذكر أن عملية نقل كميات الفوسفات المستخرج كانت تتم في السابق عبر السكك الحديد، لكن نقل الفوسفات تحول إلى أزمة تحوم حولها شبهات فساد، واتهمت شركات خاصة بتمديد هذه الأزمة بواسطة تخريب السكك الحديد أو قاطرات النقل على غرار حادثة حريق قاطرة، أو الدفع بمحتجين لمنع مرور القطار بهدف الحصول على عقود نقل الفوسفات بواسطة الشاحنات.
وتعاني شركة فوسفات قفصة معضلة منذ سنوات في نقل المادة المستخرجة، بسبب تعطل النقل عبر السكك الحديد بسبب الاعتصامات والاحتجاجات واهتراء البنية التحتية للسكك مع محدودية الكميات المنقولة، وهو ما يؤدي إلى الاستعانة بشاحنات خاصة للنقل.
تراجع
ولم يتجاوز حجم إنتاج الشركة خلال الأشهر الستة الأولى من عام 2021 1.25 مليون طن من الفوسفات التجاري.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وذكر الوزير السابق للصناعة والطاقة والمناجم محمد بوسعيد أن الوضعية المالية الصعبة للشركة تعود جذورها إلى عام 2012، إذ تتالت الأزمات وتراكمت الديون إلى أن أضحت غير قادرة على تغطية نفقاتها، وبلغت خسائر الشركة 400 مليون دينار سنة 2020 (140.3 مليون دولار)، في حين فاقت الخسائر المتراكمة 1200 مليون دينار (421 مليون دولار). ويعود ذلك إلى الاحتجاجات وارتفاع أسعار المواد الأولية المعتمدة في استخراج الفوسفات، ولا يتجاوز نشاط الشركة الحالي 30 في المئة من حجم النشاط العادي المفترض بحكم الثروة الموجودة.
وأضاف الوزير أن على الشركة استعادة نسق إنتاج بنسبة 75 في المئة لتتمكن من تحقيق توازنها المالي.
فقدان الأسواق
وأشار الاقتصادي حسين الديماسي إلى الانعكاس السيئ لتراجع إنتاج الفوسفات على الاقتصاد التونسي، مما أدى إلى تراجع إسهام قطاع المناجم إجمالاً بالناتج المحلي الإجمالي من 0.8 في المئة سنة 2010 إلى 0.5 في المئة عام 2020.
وكشف في حديثه إلى "اندبندنت عربية" أن الصادرات التونسية في هذا المجال ليست من الفوسفات الخام، بل تتمثل في الأسمدة المحولة منه.
واحتلت تونس سابقاً المرتبة الرابعة عالمياً في هذا المجال، بحكم حجم الثروة الباطنية لمناجم الفوسفات. وتمثل هذه الأسمدة 40 في المئة من الصادرات التونسية في الوضعية العادية قبل ضرب منظومة الإنتاج بأكملها، وما جدّ في العشرية الأخيرة كبد تونس خسائر فادحة من العملة الصعبة بسبب توقف الصادرات وحرمان السوق الداخلية من الأسمدة أيضاً، بخاصة القطاع الفلاحي، كما أدى إلى فقدان تونس للأسواق الخارجية، حيث تحول العملاء إلى الاقتناء من بلدان مجاورة مثل المغرب.
بنية مهترئة
كما وقعت عقود مشبوهة لنقل الفوسفات من موقع المناجم بقفصة إلى المجمع الكيماوي في قابس، حيث زاد النقل بواسطة الشاحنات كلفة الإنتاج.
وارتفعت كلفة النقل من 5 دنانير (1.7 دولار) للطن الواحد بواسطة القطار إلى 25 ديناراً (9 دولار) بواسطة الشاحنات.
ويضاف إلى هذه العوامل اهتراء البنية التحتية وأجهزة استخراج الفوسفات في المناجم، إذ لم يتم تجديدها طوال 15 سنة، وأدت كل هذه المعطيات إلى تراجع إنتاج الفوسفات في تونس من 8 مليون طن عام 2008 إلى 3 مليون طن خلال السنوات الأخيرة.
انتدابات عشوائية
ويفسر الاقتصادي غازي معلى لـ "اندبندنت عربية" المصاعب المالية لشركة فوسفات قفصة بالانتدابات العشوائية وتضخم كتلة الأجور، إضافة إلى الملفات المذكورة آنفاً، وهو ما حصل خلال سنوات العشر السابقة من سوء تسيير وإرباك للشركة من طريق انتداب 8 آلاف عامل وموظف، بما تجاوز طاقة الشركة وأرهق موازنتها، وزاد من حجم المصاريف مقابل المداخيل التي تراجعت بدورها، مشيراً إلى أن كتلة الأجور تتجاوز القدرة الإنتاجية العالية في حال بلوغها أقصى حد وهو 8 مليون طن في أفضل الحالات.