في عام 1898 لم يكن النحات الفرنسي الكبير أوغست رودان شاباً في مقتبل العمر، وما كان فناناً ناشئاً، بل كان وهو في الثامنة والخمسين من عمره، اسماً راسخاً في عالم الفن الفرنسي. كان أشبه بأن يكون "نصف إله" في مجاله الفني لا يمكن لأحد أن يدنو منه أو أن يرفض عملاً من أعماله. ومع ذلك ها هي جمعية "أهل الأدب" العريقة وذات السلطة المطلقة تعقد يوم التاسع من مايو (أيار) من ذلك العام نفسه اجتماعاً استثنائياً تتخذ على إثره قراراً بدا في ذلك الحين، في غاية الخطورة، بل بدا بالنسبة إلى بعض المعلقين الذين استبد بهم الذهول، أشبه بالمجازفة غير محمودة العواقب. فكيف يمكن لتلك الجمعية أن ترفض المنحوتة التي عرضها رودان في صالون "شان دي مارس" بين أواخر أبريل (نيسان) من ذلك العام وأواسط يونيو (حزيران) من العام نفسه وهي أصلاً التي أوصت رودان على المنحوتة ناهيك عن أن المنحوتة نفسها تمثل علماً كبيراً آخر من أعلام الحياة الأدبية الفرنسية؟ كانت المسألة أقرب إلى خرق المحظورات وباتت قضية تلامس حرية الفنان في إبداعه.
الفنان يسحب عمله
مهما يكن من أمر فإن ما عرضه رودان في الصالون الباريسي حينها لم يكن المنحوتة نفسها بل هو نموذج لها من الجص بالحجم النهائي والتصور النهائي، ولعل ذلك ما ساعد في ازدياد حجم الصخب حول القضية علماً أن نتيجة ذلك كله كانت أن غضب رودان وسحب المنحوتة إلى داره في ميدون حيث بقيت منصوبة بذلك الشكل البدائي حتى عام 1938 حين صبت في قوالب من البرونز لتحتل منذ ذلك الحين المكان الذي تشغله الآن بالقرب من محطة مترو فافان في حي مونبارناس وسط باريس، علماً أن عشرات التفاصيل والدراسات الأولية التي اشتغل عليها رودان تمهيداً لتركيب المنحوتة النهائية البالغ ارتفاعها ثلاثة أمتار، والتي يرى كثر أنها أضخم منحوتة حققها فنان أوروبي في ذلك الحين، تعرض الآن موزعة على أكثر من دزينة من المتاحف في مشارق الأرض ومغاربها. غير أن هذا النجاح لا يمكنه أن ينسي محبي رودان تلك الصدمة التي تسببت فيها جمعية الأدباء في ذلك الحين.
أصل الحكاية
ولكن قبل هذا لا بد من العودة بضعة عقود من السنين إلى الوراء للتعرف على الحكاية من بداياتها. وكانت البداية في عام 1850 حين رحل بلزاك عن عالمنا وهو واحد من كبار المبدعين الروائيين في فرنسا والعالم. فمنذ ذلك الحين راحت جمعية الأدباء التي كان بلزاك واحداً من مؤسسيها وثاني رئيس لها، تفكر في إقامة نصب وطني هائل يليق به. وكان من غلاة المتحمسين للمشروع زميله الكاتب ألكسندر دوما الأب. غير أن السجالات راحت تتابع سنوات طويلة حتى كان عام 1891 واتخذ القرار بإقامة النصب، أخيراً، وعهد بالمشروع إلى أوغست رودان الذي لم يكن، على أي حال، الخيار الأول للجمعية. فهذه كانت منذ البداية تخشى أن يقودها في تجريبية تفقد النصب دلالاته الوطنية، لكن الاختيار عاد واستقر عليه بدعم من إميل زولا الذي كانت رئاسة الجمعية قد آلت إليه في ذلك الحين، والذي كان يرى في رودان اسماً كبيراً محلياً وعالمياً، رغم أن هذا الأخير سيتقاعس عن دعمه بالنسبة إلى قضية درايفوس التي كان زولا يتبناها وكأنها قضيته. وهكذا بدأ رودان يحضر مشروعه وشعاره منذ البداية أن ما يسعى إلى التعبير عنه إنما هو روح بلزاك وجوهر أدبه ورسالته في الحياة دون أن يتوخى الوصول إلى أي مطابقة مع ملامح الكاتب. وكان ذلك بالفعل ما انتهى إليه المشروع حين عرض النحات الكبير "مسودته" في معرض شان دي مارس الذي أشرنا إليه.
رفض مباشر لمشروع محير
كانت النتيجة أن أجمع النقاد والجمهور وحتى من تبقى من المقربين من بلزاك على أن النتيجة لا علاقة لها لا بالشكل المعروف لبلزاك ولا بجوهر فكره وأدبه. وراحوا يطالبون بسحب النموذج الجصي من المعرض وعدم الإمعان في خوض المغامرة بتحويل النموذج إلى نصب من البرونز إذا كان النصب سيستقر على تلك الشاكلة. انتهى الأمر إذاً إلى فضيحة فنية واجتماعية لم يعرف رودان كيف يتلقاها بروح رياضية. لا سيما حين اجتمعت اللجنة المركزية لجمعية أهل الأدب في 9 مايو (أيار)، والمعرض لا يزال قائماً لتتخذ بعد سجالات ومداولات سادها الصراخ والتهديدات، إلى إصدار قرار مبرم يقول: "إن من واجب الجمعية وبكل أسف أن تحتج على مسودة المشروع التي عرضها السيد رودان في الصالون معلنة أنها لم تتعرف في النصب الجصي على أي ملمح من ملامح الأديب الكبير الذي تحتفل به". من فوره هنا أعلن رودان أنه واثق من أنه قد حقق حلمه الخاص المتعلق ببلزاك. وبالتالي أرسل إلى الجمعية رسالة غاضبة يعلن فيها إلغاء العقد الموقع معها، ويستعيد المشروع لحسابه الخاص.
اكتتاب مرفوض
والحقيقة أن رودان لم يكن وحده في تلك المعركة، فقد وقف إلى جانبه عدد من أصدقائه المبدعين والصحافيين من أمثال أوكتاف ميربو وغوستاف جوفروا وأوجين كاريير الذين أطلقوا اكتتاباً غايته جمع المبالغ اللازمة لشراء المشروع وتمكين رودان من إنجازه على أكمل وجه وكما يحلو له. ولقد شارك في التوقيع على بيان الاكتتاب عدد من كبار الفنانين الانطباعيين مثل تولوز لوتريك وفالوتون وكلود مونيه ورينوار وسيسلي وسيزان والكاتبان أندريه جيد وبول فاليري. وكذلك بخاصة إميل زولا رغم خيبته تجاه رودان الذي كما أشرنا وقف في الجانب الآخر بالنسبة إلى قضية درايفوس، حيث إن موقف رودان لم يمنعه من أن يشارك في الاكتتاب بل يكون في مقدمة المشاركين. وكانت النتيجة أن تم يومها جمع الثلاثين ألف فرنك الضرورية لاستكمال المشروع في رد واضح وقاس على جمعية أهل الأدب. لكن المشكلة الإضافية أتت هنا من طرف رودان نفسه. فهو وبعد أن تم تحقيق الاكتتاب أعلن أنه يفضل أن يكون هو وحده صاحب المشروع من أوله إلى آخره؛ لذلك سيستكمله لحسابه شاكراً بقدر كبير من العجرفة كل الذين أسهموا في محاولتهم إنقاذ النصب!
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الكرامة الفنية حين تتحرك
كان من الواضح يومها أن رودان يتحرك من منطلقين أولهما منطلق الجرح الذي أصابه به الجمهور والنقاد خلال المعرض ومن بعدهم مسؤولو جمعية أهل الأدب؛ وثانيهما منطلق حرية الفنان المطلقة في التعبير عن فنه ورؤيته بصرف النظر عما قد يريده منه الآخرون ويسعون إلى فرضه عليه. فهو، وكما قال للمحيطين به، يعرف حياة بلزاك جيداً وقرأ كل كتبه فيما كان يصمم المشروع وتوغل في العلاقة بين فكره وحياته وكيف انعكس هذان على سماته الشخصية؛ ومن هنا لم يكن ليريد بأي شكل من الأشكال أن يصور بلزاك تصويراً واقعياً أو طبيعياً بل أن يصوره ممتزجاً بالشخصيات التي أبدعها بل أبدع المئات منها في "كوميدياه الإنسانية" وبالتالي لا بد أن تكون كل واحدة من تلك الشخصيات قد باتت تشكل جزءاً ليس فقط من وجوده بل حتى من ملامحه وسماته الشكلية. وهو أمر، قال رودان، لم يفهمه مناوئو مشروعه ولا حتى مؤيدوه الذين "إنما تحركوا" في رأيه من منطلق "التضامن الرفاقي وليس من منطلق التناغم الإبداعي بالتأكيد".
انتصار كبرياء الفنان
وبالتالي فضّل رودان أن يحتفظ بنصبه في دارته في ميدون حيث واصل العمل عليه طوال السنوات المتبقية من حياته، بل إنه رحل في خريف عام 1917 من دون أن يكون قد حول المشروع الجصي إلى تلك المنحوتة البرونزية الضخمة التي كان عليها أن تنتظر حتى عام 1938 قبل أن تنجز نهائياً لتنقل إلى مقرها الدائم وسط العاصمة الفرنسية شاهدة على كبرياء فنان وتمسكه بفنه التجريبي غير مبال بالمكاسب المالية.