شهدت الأراضي الفلسطينية خلال اليومين الماضيين موجة "اعتقالات غير مسبوقة"، استهدفت عشرات الشخصيات الأكاديمية والمثقفين والنشطاء السياسيين، في خطوة رفضها الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، مطالبين السلطة الفلسطينية "باحترام حرية الرأي والتعبير وفق التزاماتها الدولية".
وتأتي الاعتقالات التي طالت نحو 40 فلسطينياً خلال محاولة عشرات الفلسطينيين التظاهر وسط مدينة رام الله يومي السبت والأحد، للمطالبة بمحاسبة قتلة الناشط السياسي نزار بنات، قبل أن يمنعهم الأمن الفلسطيني "لعدم امتلاكهم تصريحاً رسمياً بالتجمهر" وفق بيان الشرطة.
وكان بنات توفي خلال اعتقاله من قبل الأمن الفلسطيني في يونيو (حزيران) الماضي، إثر "ضربه بشكل عنيف وغير مبرر"، بحسب تقرير الطب الشرعي.
ومنذ ذلك الوقت يواصل القضاء العسكري الفلسطيني احتجاز 14 رجل أمن شاركوا في عملية اعتقال بنات، من دون أن يوجه إليهم تهماً حتى الآن.
إحالة إلى القضاء
وأعلن المتحدث الإعلامي باسم الشرطة لؤي ارزيقات "إحالة الأشخاص المشاركين في التجمع إلى القضاء لاتخاذ المقتضى القانوني بحقهم، وفق أحكام قانون الاجتماعات العامة رقم 12 لسنة 1998".
وقال إن "منظمي التجمع رفضوا التوقيع على شروط التجمهر"، مشيراً إلى "عدم وجود أي تصريح أو إذن من الجهات الرسمية بإقامة التجمع".
وأفرجت النيابة الفلسطينية عن معظم المعتقلين وبعضهم بكفالة مالية، لكن مع استمرار إجراءات محاكمتهم بتهم إثارة النعرات الطائفية والتجمهر غير المشروع، وهي تواصل احتجاز أربعة آخرين سبق أن أعلنوا إضرابهم عن الطعام.
لكن الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان أشارت إلى أن منظمي التظاهرة "أكملوا الإجراءات القانونية اللازمة بتقديم إشعار مكتوب لمحافظة رام الله والبيرة بموجب قانون الاجتماعات العامة لسنة 1998"، مضيفة أن تلك "التجمعات هدفها سلمي".
وطالبت الهيئة المستقلة الرئيس الفلسطيني محمود عباس ورئيس وزرائه محمد اشتية "بتحمل مسؤولياتهما الدستورية والقانونية بوقف التدهور في حقوق الإنسان، وإصدار تعليمات مشددة لمديري الأجهزة الأمنية باحترام ذلك، وإسقاط جميع التهم التي وجهتها النيابة العامة ضد الموقوفين، والإفراج الفوري عنهم وفتح تحقيق جنائي في جميع ادعاءات انتهاكات حقوق الإنسان التي تعرض إليها بعضهم".
بدوره، جدد اشتية تأكيده على "صون حرية الرأي والتعبير انسجاماً مع القانون الأساسي والاتفاقات الدولية والإعلان العالمي لحقوق الإنسان".
وأوضحت الهيئة المستقلة أن تهمة إثارة النعرات العنصرية أو المذهبية " تهمة سياسية هدفها فقط توفير غطاء قانوني للاعتقالات التعسفية"، مشيرة إلى رصدها "اعتداء عناصر الأمن بالضرب المبرح على بعض النشطاء أثناء اعتقالهم".
وروى الأكاديمي الفلسطيني خلدون بشارة شهادته عقب الإفراج عنه بكفالة مالية حتى محاكمته بعد ثلاثة أشهر بتهمة "إثارة النعرات الطائفية والمذهبية".
وقال بشارة إنه شاهد "اعتداء رجال أمن بملابس مدنية بالضرب والشتم على الشيخ خضر عدنان في مركز الشرطة"، مضيفاً أن ظروف الاعتقال "تقشعر لها الأبدان ومهينة".
قلق أممي
وعبرت الأمم المتحدة عن "قلقها العميق إزاء استمرار الضغط على أولئك الذين يسعون إلى ممارسة حقوقهم في حرية التعبير والتجمع في فلسطين"، داعية إلى "الإفراج الفوري عنهم من دون توجيه اتهامات إليهم".
كما أصدر الاتحاد الأوروبي بياناً طالب فيه السلطة الفلسطينية "بالالتزام بمعايير الاتفاقات الدولية لحقوق الإنسان التي انضمت إليها، بما في ذلك حرية التعبير فضلاً عن حرية تكوين الجمعيات والتجمع".
وعبر الاتحاد عن "قلقه من تصاعد حملة الاعتقالات والتقارير عن سوء المعاملة خلال الأشهر القليلة الماضية"، مشيراً إلى أن "العنف ضد المدافعين عن حقوق الإنسان والنشطاء والمتظاهرين السلميين غير مقبول".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ودعا الاتحاد السلطة الفلسطينية إلى "الانتهاء بسرعة من التحقيق في مقتل نزار بنات بطريقة شفافة بالكامل، وضمان محاسبة المسؤولين".
وقال مسؤول في الاتحاد الأوروبي لـ "اندبندنت عربية" إن "الاتحاد لم يحول إلى السلطة الفلسطينية هذا العام دعمه المالي الذي يبلغ 150 مليون دولار سنوياً لأسباب فنية".
لكن المسؤول أشار إلى أن ذلك يعود إلى "ممارسات السلطة الفلسطينية ووضعها الداخلي غير المقبول" أيضاً.
واعتبر مدير المركز الفلسطيني لأبحاث السياسات والدراسات الاستراتيجية هاني المصري أن "حملة الاعتقالات غير المسبوقة" تأتي ضمن "التنافس على المراكز عشية التعديل الحكومي والتغييرات في السفراء والمحافظين"، مضيفاً أن ذلك "وثيق الارتباط بالصراع على خلافة الرئيس عباس، وحمى الصراع لرسم خريطة موازين القوى للمرحلة المقبلة، وما يتضمنه ذلك من تصفية حسابات وتغيير وتعزيز مواقع بين مراكز القوى".
وأَضاف المصري أن حملة الاعتقالات لا يمكن رؤيتها بمعزل عن "خفض السقف السياسي الفلسطيني إلى مستوى خطة بناء الثقة مع إسرائيل"، مشيراً إلى أن ذلك "محاولة لإعادة إنتاج أوسلو بشكل أسوأ من دون عملية سياسية، وإنما خطة سلام اقتصادي وأمني وإنساني لمنع انهيار السلطتين في الضفة وغزة مع بقاء الانقسام".
وأوضح المصري أن السلطة الفلسطينية وجدت نفسها "عارية بعد فقدان مصادر شرعيتها الداخلية، إذ لم يبق لها سوى مصادر الشرعية الخارجية والقوة والأمن، بعد أن فشل مشروعها السياسي ولم تتبن مشروعاً جديداً".
وتابع المصري بأن السلطة الفلسطينية تسعى إلى "تأبيد الوضع القائم مع تجميع الصلاحيات في السلطة ومنظمة التحرير الفلسطينية في يد شخص واحد وعدد من المساعدين، وتغول الأجهزة الأمنية على كل السلطات، لا سيما القضائية".