لازَم تكوين الدولة السودانية على مدى تاريخها فشل أن تخرج بصيغة واضحة بعيدة من التوتر الإثني والعنف القبلي والصراع السياسي بين الأحزاب المختلفة. وذكر أبو القاسم حاج حمد، في كتابه "السودان المأزق التاريخي وآفاق المستقبل"، عبارةً لاذعة "إنه بلد يعيش وحدة سطحية في تنوع عميق". ظهر ذلك بشكل أكثر وضوحاً في عهد نظام عمر البشير، لأنه استغل التعدد والاختلاف في تأجيج الصراعات مع بقائه لمدة ثلاثة عقود، ما شكّل تهديداً استراتيجياً بعيد المدى لإمكانات صوغ الوحدة في البلاد. وبعد سقوطه وإتاحة مساحة من حرية التعبير وتسليط الضوء على هذه الانقسامات العميقة، بدأت الحكومة الانتقالية تعمل نحو وحدة البلاد ومعالجة انقساماتها بتدارك إخفاقات النظام السابق، مستجيبةً لمطالب إزالة التهميش، ولكن بدلاً من أن تكون المطالب وتلبيتها شعبيتين، تحوّلت إلى مطالب جهوية صارخة، ظهرت معها التحديات والمظالم المؤجلة بشكل متزايد في بيئة اجتماعية وسياسية واقتصادية هشة. وفي الوقت الذي يطمح كثيرون لاستثمار مناخ الحريات للتخلص من الانقسامات، فإنها لن تكون مهمة سهلة نسبة إلى التناقضات بين الهويات المتعددة وتشابكها وعمق خطوط الصدع من جهة، وأزمة الحكم الانتقالي من جهة أخرى.
هزة عنيفة
ليس السودان القطر الوحيد في المحيط الأفريقي الذي يتصارع مع الانقسامات السياسية العميقة، فمثلاً في شمال أفريقيا، أدت أحداث "الربيع العربي" في 2011 وتداعياتها إلى ظهور حالات الاستقطاب الحاد، وأدى صعود التيارات الشعبوية إلى زيادة عجز التنظيمات السياسية سواء كانت أحزاباً معارضة أو موالية لجهاز الدولة، كما تفاقم الصراع الثقافي والاجتماعي من الانقسامات المتجذرة وأسهم في خلق انقسامات جديدة. ثم أصبحت هذه البلدان تواجه مزيداً من الضغوط الاقتصادية نتيجة للهزة العنيفة في الأوضاع السياسية. أما في الحزام الأفريقي الممتد من شرق القارة إلى غربها، فظلت هذه المنطقة تعاني التقلبات السياسية التي يصنعها العنف ما بين انقلابات وديمقراطية قصيرة. ظل السودان خلال هذه الفترة يعاني في صمت، فإضافة إلى المشكلات الداخلية، هو محاط بنزاعات إقليمية وتوترات حدودية، في ظل انقسامات ظاهرة وكامنة تحت الرماد. وبعد ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018، كان يُرتقب أن يسهم الحراك السياسي والاجتماعي الكبير والتوقعات الكبرى لإنجازات الثورة بأن تتكيف مؤسسات الدولة مع بعضها. ولكن ما حدث هو العكس، إذ إن الدولة الجديدة في ظل الحكم الانتقالي لا تزال تحتفظ بمفاهيم عتيقة راسخة في المجتمع السوداني، ولم تستطِع تحمّل حالات التنوع المتزايد التي برزت من الأعماق إلى السطح، إضافةً إلى أنها خارجة للتو من عزلة اقتصادية، وتعاني ضمن دول الإقليم من عجز التنمية.
هوية سياسية
من الفترات القليلة التي دُمجت فيها التوترات المجتمعية في ثلاثة معسكرات هي الجبهة الإسلامية وحزب الأمة والحزب الشيوعي، كانت في الفترة الانتقالية القصيرة بعد سقوط نظام جعفر النميري في 6 أبريل (نيسان) 1985، إذ لم تكُن أقل عنفاً أو زعزعة للاستقرار مما يحدث الآن. وفي عهد النظام السابق، كان الصراع الحزبي صامتاً نسبياً، بسبب بقاء المعارضة في الخارج لمدة طويلة بعد التنكيل بها في بدايات الانقلاب. وبعد مجيئها بدعوة من النظام الحاكم لتكوين حكومة الوفاق الوطني، بقيت خارج الفاعلية السياسية. وحتى بعد استقطاب النظام الحركة الشعبية لتحرير السودان وتوقيع اتفاق السلام الشامل (نيفاشا) 2005 ومشاركة الحركة في الحكومة، لم تنتهِ الاضطرابات الداخلية في الجنوب ودارفور ومنطقة جبال النوبة والنيل الأزرق، بل أدى عدم معالجة جذور المشكلة إلى اضطراب حول ما تم التوافق عليه بشأن العلاقة بين البلدين بعد الانفصال والاستعداد له، وكأنّ كل شيء حصل على عجل. أما خلال الفترة الانتقالية الحالية، فهناك توترات متصاعدة بين حزب الأمة والحزب الشيوعي، إضافة إلى أحزاب أخرى مكوِّنة لائتلاف قوى الحرية والتغيير، الذي تأسس بعد سقوط النظام السابق، بينما انزوى حزب المؤتمر الوطني مفسحاً المجال لحزب المؤتمر الشعبي. ويمكن ملاحظة أنه في الفترة الانتقالية قبل الديمقراطية الثالثة، تماشى انقسام الهوية الحزبية مع انقسام الأيديولوجيا والإثنية. أما في الفترة الانتقالية الحالية، فلم يفلح تكوين الائتلاف في تحقيق وحدة الهوية السياسية، بل لا تزال الهويات الحزبية متنافرة، والتوتر الإثني متحفزاً. ومن ناحية أخرى، ربما لا يُستغرب أن يكون الارتباط بقوى الحرية والتغيير هو المؤدي إلى شغل مناصب معينة في الحكومة نتيجة لمحاصصات سياسية وترضيات جهوية، بينما يُستبعد آخرون غير قريبين من هؤلاء أو أولئك. مع ذلك، فإن اختزال أي من أسباب الانقسامات في إطار سياسي دون الاجتماعي يغفل كثيراً من الفروق الدقيقة الموجودة في الوسط السياسي.
وحدة مغايرة
برز مفهوم الوحدة بشكل مغاير كوحدة جنوبية شمالية، إذ لم يكّن يكبلها عطب البرنامج السياسي وصراع الصلاحيات فحسب. فقد واكبت خلافاً قديماً حول تنزيلها إلى أرض الواقع. كان جون قرنق دي مابيور، مؤسس الحركة الشعبية لتحرير السودان ورئيسها السابق من دعاة الوحدة حتى إنه تفاخر بالعمل مع حكومة "الإنقاذ" بعد اتفاقية السلام الشامل في 2005 وتعيينه نائباً أول للرئيس البشير في حكومة الوحدة الوطنية، وذلك لإظهار أنه يستطيع جمع شتات السودانيين شماليين وجنوبيين. وعندما طرح فكرة الوحدة ضمن "مشروع السودان الجديد" عام 1983، تجاهل قضية دارفور وأمعنت فكرته في الذاتية، إذ كان مشغولاً بسيطرة القوى الطائفية المتمثلة في حزبي الأمة والاتحادي الديمقراطي، والأيديولوجية الدينية المتمثلة في الجبهة الإسلامية. وفي مواجهته مع القوى الشمالية، كان يصارع في الجانب الآخر القوميين الجنوبيين المتمسكين بفكرة أن الجنوبيين مهما حصلوا على مكاسب سياسية سيظلون مواطنين من الدرجة الثانية، وكانوا يرون الحل في تقوية جيشهم ثم محاربة المكونات العربية في الشمال وطردهم من السودان. لم ترَ فكرة قرنق النور وتوفي في 30 يوليو (تموز) عام 2005، بعد تحطم مروحيته عندما كان عائداً من أوغندا. ويشير بعض الاتهامات إلى ضلوع النظام السابق في مقتله، نظراً إلى بروز شعبيته في الاستقبال الحاشد الذي قُدِّر بنحو مليون ونصف المليون شخص لدى وصوله إلى الخرطوم في 9 يوليو 2005 بعد غياب دام عشرين عاماً.
مجالات حساسة
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، فرض النظام السابق رقابة عالية على الإنترنت وكان يحجب عدداً من التطبيقات الناشطة، خصوصاً في الأعوام التي شهدت احتجاجات محدودة في 2009، وانتفاضة سبتمبر (أيلول) 2013، وذلك بعد أيام من رفع الحكومة السودانية الدعم عن السلع الاستهلاكية والوقود. ثم تواصل الحجب المتقطع ونشّط من امتلاك السودانيين مهارات اختراق الإنترنت عبر تطبيقات معينة، ما أسهم في تنظيمهم وتجمعاتهم. وبلغ حجب الإنترنت أوجه في احتجاجات 2018 واستمر بين حظر وفكّ حتى مارس (آذار) 2019 حين حجب النظام مواقع شهيرة للتواصل الاجتماعي استُخدمت في تنظيم حركة الاحتجاجات التي شهدتها البلاد مطالبة الرئيس البشير بالتنحي، ثم وصولاً إلى اعتصام أمام مقر القيادة العامة للقوات المسلحة في 6 أبريل (نيسان) 2019 وتنحّي البشير في 11 أبريل من العام ذاته. وبعد ذلك، لم يستطِع المجلس العسكري مواجهة الهدير الثوري والناشطين على وسائل التواصل الاجتماعي الذين وصفوا تسلّم المجلس العسكري السلطة مؤقتاً بأنه قفز على السلطة واستبدال نظام عسكري بآخر، فكانت قوات الأمن والشرطة تهاجمان المتظاهرين بالعنف. ثم قطعت السلطات الإنترنت حتى صارت البلاد معزولة عن الشبكة العنكبوتية. ودان ذلك مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، وصنّفته "هيومن رايتس ووتش" كـ"انتهاك صارخ لحقوق متعددة، منها الحق في حرية التعبير والحصول على المعلومات، وعرقلة حقوق أخرى، منها الحق في حرية التجمع"، وأمرت بإيقافه فوراً.
هذا النشاط على الرغم من إيجابيته أتاح الطرْق على مجالات حساسة بأن أصبح الناشطون والهواة الآن جزءًا من منصات وسائل التواصل الاجتماعي التي تعمل على الاستقطاب والانقسام على أساس إثني وقبلي وحزبي، فتعالت وجهات النظر المتطرفة والمتعصبة.
انقسام مجتمعي
يغذّي العنف القائم في مناطق مختلفة، الانقسام الواضح بين مكونات المجتمع السوداني على أساس قبلي. وبعد الثورة وحركة جماعات كثيرة من الأقاليم نحو الخرطوم بما فيها الحركات المسلحة من دارفور ومنطقة جبال النوبة، اختلط نكوص الحكومة عن ترتيب وضع هؤلاء وفقاً للترتيبات الأمنية المنصوص عليها في اتفاق السلام وإدماجهم في الجيش والقوات المختلفة، وتركهم يدبرون أمر سكنهم ومعيشتهم وسط الأحياء السكنية بعتادهم العسكري إلى حدوث اشتباكات مسلحة بينهم والمواطنين من جهة، وبينهم والقوات النظامية الأخرى في الخرطوم من جهة أخرى. وبرز للعيان إحساس هؤلاء بعدم تقبّلهم نسبة لإثنياتهم المختلفة، ومع عدم إنكار رائحة العنصرية التي أفرزها إهمال الحكومة، فإن هذه اللهجة هي وسيلة ضغط تُستخدم كثيراً للحصول على المطالب.
وربما يُعتبر الانقسام المجتمعي الحاد الذي يؤدي إلى خصومات سياسية، لدرجة تأثير التنوع الحزبي في تيارات ثقافية ونخبوية سلبياً، أحد كوابح الوحدة أيضاً. ويرتبط هذا النوع من الانقسام بعدم تقبّل الآخر وسط نخبة تنادي بالتعددية. وتستوي نتيجته مع نتيجة الانقسام المجتمعي الحاصل بسبب انعدام الأمن وغياب قوانين وتشريعات واضحة لملاحقة أعمال النهب، وعدم قيام الشرطة بدورها. وهنا، لا يمكن حدوث توافق وطني بلا مصالحة مجتمعية حقيقية عبر عدالة انتقالية إلى حين سن التشريعات وإقرارها، ودعم المبادرات الشعبية والإصلاح المؤسسي لدعم سيادة القانون والحقوق الأساسية والحكم الرشيد.
وهناك عقبات اجتماعية أخرى تتجاوز مجرد الخلاف حولها. فما من مكان يتجلى فيه الإسراع بحسم مواضيع خلافية، وتأجيل مواجهة أزمات واقعية، أكثر من خوض الحكومة الانتقالية فيما كان بإمكانها انتظار الاحتكام حوله لرأي الشعب بعد تكوين المجلس التشريعي. خلق ذلك استقطاباً اجتماعياً حول مواضيع اجتماعية ودينية حساسة كان مسكوتاً عنها ولا يُتوقّع أن يكون هناك إجماع بشأنها. وفي حين أن البلاد تتنسم الحريات فقد يظنّن ظانٌّ، خصوصاً المعارضين للحكومة، بأن الأمر خرج عن الضوابط الأخلاقية، ما يسهم في توسيع رقعة التباعد الاجتماعي. وكان في الإمكان التركيز على الروابط الأخرى المشتركة حتى تنقذ علاقة المجتمع السوداني ببعضه أو تقوّيها.