يستعيد الفنان السوري أيمن زيدان مسرحيته "سوبر ماركت" للمرة الثالثة على التوالي، فبعد تقديمها لمرتين متتاليتين بين عامي 1992 و2008، هاهو اليوم يحقق صياغة جديدة منها عن إعداد مشترك مع الكاتب محمود الجعفري.
في هذه المقاربة يسعى الممثل والمخرج السوري إلى نقل حكاية النص الأصلي"لا تدفع الحساب" للكاتب داريو فو (1926-2016) من مدينة ميلانو الإيطالية إلى مدينة دمشق، لكن من دون تغيير في أسماء شخصيات المسرحية وأماكنها الأصلية، وهذا ربما نوع من التمويه والمواربة لمخاتلة الرقابة ورغبة في تحقيق عرض لاذع وسليط اللسان ضد أرباب الفساد وطغمة التجار، وتصوير مدى صعوبة الأزمة المعيشية الخانقة التي تعيشها البلاد منذ سنوات دونما أفق لحلول قريبة.
يروي "سوبر ماركت" حكاية واقعية جرت عام 1984 لمجموعة من النساء الإيطاليات اللواتي يسطين على متجر لبيع المواد الغذائية، احتجاجاً منهن على غلاء الأسعار، وعدم قدرتهن على تدبر أبسط أمور العيش.
الزوجتان السارقتان
تبدأ القصة من عودة كل من زوجتي عاملين صالحين من العمل، وقد سطتا كالأخريات على ما طالته أيديهن من بضائع، لنكتشف أن بعضها مخصص كطعام للكلاب والقطط، وتحت ضغط الخوف ورهبة السيدتين من افتضاح أمرهما من قبل زوجيهما، تقوم أنطونيا (لمى بدور) بإخفاء المسروقات في حقيبة قماشية معلقة على صدرها، فتبدو وكأنها حامل، لتضطر جارتها مارغريتا (سالي أحمد) إلى مجاراتها في ما ذهبت إليه، لا سيما بعد وصول الزوجين الصديقين، وتطويق البوليس المنزل بحثاً عن البضائع المسروقة.
تبدأ هنا مجموعة من المفارقات والقفشات الضاحكة التي اعتمد عليها مخرج العرض ومُعده لتقديم جرعة عالية من الكوميديا الشعبية ذات الطابع السياسي، فالنساء يحبلن بالمكرونة والجيران نعرف ما يأكلونه من صوت شد (السيفون) في دورات مياه تعلو أنابيبها رؤوس الممثلين على الخشبة، فيما تحبل نساء المدينة دفعة واحدة في تورية لتخبئة الطعام المسروق تحت فساتينهن.
وبين ذهاب وإياب كل من جيوفاني (حازم زيدان) ولويجي (قصي قدسية) بين مستشفى التوليد والبيت والشارع ومحاولة زوجتيهما إخفاء أوتخبئة أكياس الرز والسكر والمكرونة تارة تحت السرير، وتارة أخرى تحت فساتينهن، تتداعى ملابسات عدة يدعمها دخول وخروج حسام سلامة (رجل الأمن) الذي تنقل بسلاسة بارعة بين أدوار رجل البوليس وشرطي المرور وعنصر الشرطة العسكرية، ومنها إلى شخصيتي الحانوتي ووالد جيوفاني، لتكون هذه الشخصية بمثابة صلة وصل ماكرة بين أحداث ووقائع ضاحكة لم تخل من السخرية المريرة، ومن تلك النبرة القوية في توجيه سبابة الاتهام لشخصيات نافذة في الحكومة والأحزاب، وتجار الأزمات، فعلى الرغم من إصرار المخرج على تظهير الأحداث وكأنها تجري في مدينة إيطالية، إلا أن اللهجة الشامية البيضاء التي وظفها العرض هنا لتمرير إسقاطات ماهرة على الوضع المحلي كانت كفيلة لتسمية الأسماء بمسمياتها، والتملص من حذافير البيئة الأصلية للنص الإيطالي.
ساعة ونصف الساعة هما زمن العرض الذي مضى بخفة تبعاً للإيقاع الرشيق الذي حاول زيدان تحقيقه في رسم حركة الممثلين والمجاميع على خشبة مسرح الحمراء الدمشقية، مقسماً ديكور العرض (ريم الماغوط) إلى ثلاثة مستويات بين ممرات خلفية وبيت وشارع، لكن ظلت هذه المستويات متداخلة وغير منفصلة تماماً بعضها عن بعض، وذلك ربما في إشارة إخراجية إلى انفتاح الشارع وكائناته الغاضبة على البيوت وأماكن المعيشة.
ومن دون أن تحسم الإضاءة (علاء الكيزاوي) وتفند هذه المستويات من الديكور لمصلحة المناخ اللافت الذي أشاعته أزياء وأقنعة ودمى (ريم الماغوط) المقتبسة من أجواء الكوميديا "دي لارتي"، إذ بقي التنفيذ الفني لهذه العناصر مشوشاً وليس بجودة تنفيذهما في النسختين السابقتين من "سوبر ماركت".
"المهرج الملحمي"
عول الفنان زيدان بخبرته الكبيرة على تقديم الممثل ضمن نمط "المهرج الملحمي" كما كان يطلق عليه داريو فو (نوبل آداب-1997)، فالنبرة الصوتية والسلاسة الحركية تكاثفت في العرض لتمرير المقولة، وجعلها زاخرة بحضور هذا الممثل عضلياً ونفسياً، وإتقانه فن التنكر بالأقنعة وأزياء النساء، تماماً كما في أداء الفنان خوشناف ظاظا في أدوار المسؤول والشرطي والمرأة الحامل، مما ضاعف من تفاعل الجمهور مع مجريات العرض وجعله منشداً إلى ما سيحدث مع الرجلين وزوجتيهما، لا سيما عندما تقود النساء تظاهرة على المسرح ويصرخن بعلو الصوت أنهن لن يدفعن ثمن ما سرقنه، في إحالة لاستشراف قيام ثورة جياع باتت تلوح في البلاد التي مزقتها الحرب وأعياها الحصار الاقتصادي وانهيار العملة الوطنية، وتسلط اقتصاد التهريب ومافيا الحرب على قوت الناس وأرزاقهم.
صرخة يطلقها مخرج العرض اليوم على مقربة من مبنى البرلمان السوري، متابعاً عروضه ذات الطابع الثوري التحريضي، ومشتغلاً ببراعة على إدارة الممثل وتمكينه من السيطرة على أدواته، وزيادة خبراته في التقاط اللحظة الساخنة مع الجمهور.
تلك اللحظة التي دفعت كثيرين إلى توجيه انتقادات حادة للمسرح الذي يسعى أيمن زيدان لتقديمه منذ 40 عاماً، ولعل أبرز هذه الانتقادات هو جلب لغة المسرح التجاري إلى خشبات المسرح القومي، وهذا ما جعل العديد من العاملين في المسرح الجاد يناصبون العداء لتجربة هذا الفنان، معترضين منذ تقديم النسخة الأولى من "سوبر ماركت" في تسعينيات القرن الفائت على إدخال "المحكية" إلى المسرح القومي، والذي جرت العادة منذ تأسيسه عام 1960 أن تقدم معظم عروضه باللغة العربية الفصحى، فيما بقيت "المحكية" حكراً على المسارح التجارية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هذه المواجهة الدامية بين مسرح متجهم وآخر ساخر وسياسي يسمي الأشياء بمسمياتها، أنتجت العديد من التجارب المسرحية في البلاد التي رفضت الانصياع للنبرة الخشبية، وأتاحت التفكير بمسرح مضاد وراهن يشتبك مع الواقع، ويولي اهتماماً خاصاً لهواجس الجمهور وتطلعاته، ولهذا أتت "سوبر ماركت" في وقتها، فعلى الرغم من تكرار العرض الذي مضى عليه 30 عاماً من تحقيقه للمرة الأولى، إلا أنه بقي راهناً بفعل حال الستاتيك (الجمود) الذي ترزح البلاد تحته منذ ذلك الحين، فمن أزمة الثمانينيات إلى أزمة العشرية الثانية من الألفية الثالثة لم يطرأ الكثير على قضايا الشأن العام، ولم تتراجع الأزمات بل زادت حدتها وتفاقمت سطوة ذوي النفوذ والمتنفعين منها.
مقاربة قديمة جديدة يعكسها عرض "سوبر ماركت" ويفتح الباب واسعاً على مشروعية عرض لم يمت ويتقادم بتعاقب ثلاثة عقود، بل ظل حاضراً على الرغم من نبرة بعض حواراته ذات الطابع الخطابي المباشر، لا سيما في المقطع الأخير من العرض التي يتوجه فيه الممثلون إلى الجمهور، أو حتى في مرافعة الزوجة مع زوجها المناضل وتبرمها من خطاباته البالية وإيمانه بعدالة النظام الاشتراكي، في حين يتلذذ الرفاق بعطايا التهريب ونعمة الفساد، إلا أن الإشارة الأكثر حرفية كانت في التابوت الذي خبأه الزوجان في الخزانة، تابوت الشرطي الميت الذي سيصبح هنا تابوتاً للسلطة، وضريحاً للفاسدين على الرغم من كل التخفي خلف ستائر الدين والتحالف خلف التقيات الممجوجة.