تشكل جريمة الاتجار بالبشر، إحدى الظواهر الأكثر انتهاكاً، وإهانة للكرامة الإنسانية، بحيث يصبح الإنسان سلعة تُباع وتُشترى، ويتعرض لأبشع أنواع الاستغلال.
ويعرف بروتوكول الأمم المتحدة للاتجار بالأشخاص، تلك الظاهرة بأنها "تجنيد شخص أو نقله أو إيوائه أو استقباله، بواسطة التهديد بالقوة، أو استعمالها، أو غير ذلك، من أشكال القسر، أو الخطف، أو الاحتيال، أو الخداع، لغرض الاستغلال".
50 ألف ضحية في العالم
وتجرم معظم دول العالم، الاتجار بالبشر، لما يمثله من انتهاك صارخ لحقوق الإنسان، واستغلال للفئات الأكثر هشاشة، وبخاصة الأطفال والنساء.
ويقدر التقرير العالمي لمكافحة الاتجار بالبشر، الذي يصدر عن مكتب الأمم المتحدة، المعني بالمخدرات والجريمة كل سنتين، عدد ضحايا تلك الجريمة، بمختلف أنواعها، في عام 2018 وحده، بنحو 50 ألف ضحية، أُبلغ عنها من قبل 148 دولة، إلا أن العدد الفعلي لضحايا الاتجار بالبشر أعلى بكثير من تلك التقديرات.
"لا عبودية بمملكتنا"
وفي تونس، نص "الأمر العلي" المؤرخ في 23 يناير (كانون الثاني) 1846، على أنه "لا عبودية بمملكتنا ولا يجوز وقوعها فيها، فكل إنسان حر مهما كان جنسه، أو لونه، ومن يقع عليه ما يمنع حريته أو يخالفها، فله أن يرفع أمره للمحاكم".
وقبل ذلك، أصدر أحمد باي، في 6 سبتمبر(أيلول) 1841، أمراً يقضي بمنع الاتجار بالرقيق، وبيعهم في أسواق المملكة التونسية آنذاك، كما أمر بهدم الدكاكين التي كانت معدة في ذلك الوقت لإقامة العبيد في سوق البركة، (سوق المجوهرات حالياً)، ثم أصدر أمراً في ديسمبر (كانون الأول) 1842، اعتبر فيه أن "مَن يولد فوق التراب التونسي حر لا يباع ولا يشترى". وتعززت منظومة حقوق الإنسان في هذا المجال، بدستور يناير (كانون الثاني) 2014 الذي ينص في فصله الثالث والعشرين، على أن "الدولة تحمي كرامة الذات البشرية وحرمة الجسد".
كما صادقت تونس على الاتفاقيات الأممية التي تعزز الحماية القانونية ضد الاتجار بالاشخاص. ويعرف القانون التونسي عدد 61 المؤرخ في 3 أغسطس (آب) 2016، الاتجار بالبشر في فصله الثاني بأنه "استقطاب أو تجنيد أشخاص أو نقلهم أو تنقيلهم أو تحويل وجهتهم أو ترحيلهم أو إيواؤهم أو استقبالهم باستعمال القوة أو السلاح أو التهديد بهما أو غير ذلك من أشكال الإكراه أو الاختطاف أو الاحتيال أو الخداع أو استغلال حالة استضعاف أو استغلال نفوذ أو تسليم أو قبول مبالغ مالية أو مزايا أو عطايا أو وعود بعطايا، لنيل موافقة شخص له سيطرة على شخص آخر، وذلك بقصد الاستغلال أياً كانت صوره".
ويشمل الاستغلال بحسب القانون ذاته، "استغلال بَغاء الغير، أو دعارته، أو غيرها من أشكال الاستغلال الجنسي، أو الخدمة قسراً، أو الاسترقاق، أو الممارسات الشبيهة بالرق، أو الاستعباد، أو التسول أو نزع الأعضاء، أو غيرها من أشكال الاستغلال الأخرى".
لكن هل تحول هذه الترسانة من دستور وقوانين واتفاقيات أممية وقّعت عليها تونس، دون حصول حالات للاتجار بالبشر في البلاد، وكيف يمكن مجابهة تلك الظاهرة؟
أم تفرط بأبنائها
وهزت حالة اتجار بالبشر مارستها عائلة بحق أطفالهم، أخيراً، في إحدى ولايات الساحل التونسي، الرأي العام المحلي.
وأفاد الناطق الرسمي باسم محاكم المنستير والمهدية، فريد بن جحا، أن "النيابة العمومية أذنت بفتح بحث تحقيقي ضد مجموعة متورطة في الاتجار بالبشر، تتضمن امرأة وزوجها، فرّطا في أطفالهما، وأشخاصاً آخرين تلقوا الأطفال بطرق غير شرعية، سواء في إطار التبني بمقابل، أو في إطار تدليس الحالة المدنية بمقابل، إثر مثولهم أمام المحكمة". وأضاف بن جحا أن "ثلاثة أشخاص من المجموعة في حالة احتفاظ، وشخصان آخران في حالة تقديم"، مشيراً إلى أن الواقعة حصلت في معتمدية الجم من ولاية المهدية. وأضاف بن جحا أن "زوج المتهمة الرئيسة أفاد بأنه قبل زواجه بها، كانت قد أنجبت أربعة أطفال خارج إطار الزواج، وفرطت فيهم، اثنين منهم بمقابل، واثنين آخرين دون مقابل".
وأكد المتحدث باسم محاكم المنستير والمهدية، أن "الطفل الأخير الذي يبلغ من العمر سنة وثمانية أشهر، لم يُشترَ بمقابل مادي فقط، بل سجله المتبنيان أيضاً على اسمهما، وذلك إثر تدليس الأم الحقيقية هويتها، عند توجهها للولادة، لتسهيل عملية تسجيل الرضيع للزوجين المتبنيين".
أحكام تصل إلى 15 سنة سجناً
ولفت بن جحا إلى أن "المرأة تدعي أيضاً أن زوجها يستغلها جنسياً، وهي حالياً حامل بجنين مجهول الأب"، مضيفاً أن "الطفل بات في عهدة قاضي الأسرة، وتم إيداعه لدى جمعية تعنى بالطفولة المهددة في المهدية".
وبخصوص الأحكام، أفاد فريد بن جحا بأن "قانون 3 أغسطس لعام 2016 لمنع الاتجار بالبشر، يعاقب بالسجن 15 سنة وغرامة مالية تتراوح بين 50 ألف دينار (حوالى 17 ألف دولار) و100 ألف دينار (حوالى 33 ألف دولار) ضد كل من يتاجر بالبشر، وبخاصة إذا كان موضوع المتاجرة طفلاً، أو وقع تدليس الحالة المدنية أو وثائق الهوية، وهو ما حدث في هذه العملية".
أكثر من 1300 حالة في 2019
ولمقاومة هذه الظاهرة ورصدها في تونس، استُحدثت "الهيئة الوطنية لمكافحة الاتجار بالأشخاص"، وفقاً للفصل 44 من القانون الأساسي عدد 61 لعام 2016. وتسهر الهيئة على ضمان تطبيق القانون واحترامه، وحماية ضحايا الاتجار والتنسيق بين الجهات الفاعلة والتوعية بمخاطر تلك الظاهرة في تونس.
وكانت الهيئة أكدت في آخر تقرير لها، أنها سجلت 1313 حالة اتجار بالبشر خلال عام 2019، مسجلة بذلك ارتفاعاً كبيراً عن عام 2018، حين سجلت 780 حالة.
وقالت رئيسة الهيئة روضة العبيدي، إن "الإحصائيات المسجلة تميزت بثلاث خصائص على مستوى الضحايا، حيث إن نصفهم نساء ونصفهم الآخر أطفال، وبينهم أجانب يتم استغلالهم في العمل القسري".
وأكدت أن "أكثر من 83 في المئة من قضايا الاتجار بالبشر في تونس، مرتبطة بالتشغيل القسري، تورط فيها أكثر من 840 شخصاً، نصفهم تقريباً من النساء".
الاستغلال الجنسي للأطفال
وأفادت العبيدي بأن "نسبة الاستغلال الجنسي للأطفال، ارتفعت بشكل مفزع في عام 2020 إلى 180.6 في المئة مقارنة بعام 2019، بحسب التقرير السنوي للهيئة للعام الماضي، الذي صدر أواخر في أغسطس 2020. وأوضحت العبيدي أنه "خلال فترة الحجر الصحي لعام 2020، استغلت عصابات عدة تزايد إقبال الأطفال على استعمال تقنيات التواصل عن بُعد، لتنفيذ جرائمهم السيبرانية من خلال التغرير بالأطفال، وحثهم على إرسال صورهم في وضعيات مخلة بالأخلاق، ومن ثمة تهديدهم وابتزازهم للحصول على مبالغ مالية كبيرة منهم".
وأشارت إلى أن "هذه الفئة من الأطفال تضطر إلى سرقة أموال ومجوهرات العائلة لإعطائها لهذه العصابات، مقابل عدم فضح أمرهم، ثم تقوم بنشر صورهم المخلة بالأخلاق على شبكات التواصل الاجتماعي"، مؤكدةً أن "عدداً كبيراً من هؤلاء الأطفال باتوا يعانون اضطرابات نفسية، من شدة الضغوطات التي يتعرضون لها، انتهت في بعض الحالات بإقدامهم على الانتحار أو محاولة الانتحار".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تضاعف نسبة بيع الرضع
من جهة أخرى، كشفت الإحصائيات الوطنية تنامي ظاهرة بيع الرضع في تونس، باعتماد شبكات التواصل الاجتماعي حيث ارتفعت بنسبة 60.2 في المئة خلال عام 2020 مقارنة بعام 2019. وأكدت رئيسة "الهيئة الوطنية لمكافحة الاتجار بالأشخاص"، أن "الأمهات اللاتي يبعن أطفالهن لسن فقط الأمهات العازبات، وإنما تورطت بعض العائلات في هذه الجرائم، وجعلت من إنجاب الرضع ومن ثمة بيعهم، مهنة لها".
آليات أكثر فاعلية للرصد والمكافحة
تجدر الإشارة إلى أن إثبات عملية الاتجار بالأشخاص تتطلب وجود ثلاث قرائن، وهي الفعل (استقطاب أو تجنيد أو تنقيل) والوسيلة (استعمال القوة) والغرض (الاستغلال).
ويعتبر أستاذ القانون العام بكلية العلوم القانونية والسياسية والاجتماعية بتونس، هيكل محفوظ، أن "الترسانة القانونية في البلاد تطورت حيث صادقت تونس على الاتفاقيات والنصوص الدولية التي تمنع الاتجار بالبشر، وتكافح الجريمة على المستويين المحلي والدولي. كما تعززت المنظومة الوطنية بالقوانين والتشريعات، إلا أن آليات رصد ومكافحة جريمة الاتجار بالبشر، وبخاصة لدى الفئات الهشة والضعيفة من النساء والأطفال تبقى منقوصة".
ووصف محفوظ تلك التعديات بـ"الجرائم المنظمة التي تقوم على تعاون دولي وثيق لمكافحتها، من خلال تبادل المعلومات والرصد والتوثيق في هذا المجال"، داعياً إلى "وضع آليات وطنية في مستوى الرصد، تكون أكثر فاعلية وجدوى، وتتعاون مع المنظمات المدنية"، إذ يعتبر أنها من "الجرائم المعقدة، ذات أبعاد إقليمية إنسانية تتجاوز حدود الدول".
خطورة التطبيع مع الظاهرة
ولتفكيك الظاهرة اجتماعياً، أكد الباحث في مجال علم الاجتماع سامي نصر، أن "علم الاجتماع الإجرامي، يصنف جريمة الاتجار بالبشر كجريمة زئبقية يصعب تحديد قرائنها بسهولة، وتنقسم أيضاً إلى جرائم معلنة وجرائم خفية. وهي أيضاً جرائم منظمة تديرها شبكات مافيا".
وتُعتبر هذه الجرائم من أكثر المواضيع حساسية في تونس، بينما تتستر عليها الدول لما تحمله من وصم.
وانتقد نصر طريقة عمل الهيئة الوطنية لمكافحة الاتجار بالأشخاص، "لأنها تعتمد فقط على تقديم التقارير والإحصائيات، بينما تتطلب الظاهرة رصداً أكثر دقة وتواصلاً مباشراً مع الناس، عبر تحسيسهم بخطورة الظاهرة، ومظاهرها وتبعاتها القانونية".
ولفت إلى أن "تشغيل القاصرات في تونس، هو نوع من الاستغلال، ويدخل ضمن خانة الاتجار بالبشر"، مشيراً إلى أن "الطبقة البرجوازية، وفيها من النخب التي تتشدق بالدفاع عن حقوق الإنسان، تشغل قاصرات"، لافتاً إلى ما "تعانيه المساعِدات المنزليات في بعض الأحيان من استغلال من قبل بعض العائلات التي تستغلهن لساعات طويلة في العمل علاوةً على عدم ضمان حقوقهن".
ودعا نصر إلى "ضرورة خلق رأي عام رافض لهذه الظاهرة ولأي شكل من أشكال العبودية والاستغلال والاتجار بالبشر"، معولاً على المجتمع المدني من خلال "العمل الميداني وترسيخ ثقافة الرفض لمثل تلك الممارسات التي تستهدف الأطفال والنساء".
وحذر من تبعات نظرية "التشبع الإعلامي" حيث يتعود المتلقي على الظاهرة، ويصل إلى مرحلة التطبيع معها، وهو ما يهدد للنسيج المجتمعي.