تشهد الحملات الدعائية بين القوى الحاكمة في إقليم كردستان تصعيداً في حدة الخطاب، بعيداً عن البرامج الانتخابية مع اقتراب موعد الانتخابات النيابية العراقية المبكرة.
وتتصدر هذه الحملات خلافات على مستوى الجهة صاحبة النفوذ الأكبر في السلطة والإدارة، وتهم بارتكاب "الخيانة" وتقويم نتائج الاستفتاء على الانفصال، لتطغى على ملفات آنية ملحة تتعلق بسوء الإدارة وأزمة الرواتب وملف الفساد.
ويتقاسم الحزب "الديمقراطي الكردستاني"، بزعامة مسعود بارزاني، مع نظيره "الاتحاد الوطني"، الذي كان يتزعمه الراحل جلال طالباني، إدارة حكم الإقليم الكردي شبه المستقل عن بغداد منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي، حيث يحظى الأول بنفوذ أكبر في منطقته التي تعرف بـ"الصفراء"، وتضم العاصمة أربيل ومحافظة دهوك والمناطق المحاذية مع تركيا، فيما تعرف منطقة حزب الاتحاد بـ"الخضراء" والمحصورة ضمن نطاق محافظة السليمانية وتوابعها، وصولاً إلى الحدود مع إيران.
وخاض الحزبان في منتصف تسعينيات القرن الماضي حرباً أهلية في صراع على السلطة والموارد، قبل أن يتوصلا إلى اتفاق بوساطة أميركية لتوحيد الإدارتين، اللتين لا تزالان تواجهان عقبات في استكمال عملية التوحيد على عدة مستويات، في مقدمتها المؤسسات الأمنية والعسكرية.
الحزب الأقوى
وفي احتفال ضمن حملة حزبه "الديمقراطي" الذي يتولى فيه منصب نائب الرئيس، قال رئيس الإقليم، نيجيرفان بارزاني، إن حزبه "مؤسس النظام الديمقراطي في الإقليم على الرغم من نواقصه، منذ أن دعا رئيسه عام 1992 إلى تأسيس دولة القانون، واليوم، فإن النجاحات في الإقليم تعود لوقوف الشعب إلى جانبنا".
وأضاف خلال الحفل الذي أقيم في مدينة أربيل، "في أيام الحرب على تنظيم (داعش)، فإن المقاومين كانوا أولئك البيشمركة الذين تربوا على مبادئ حزبنا، وكذلك ثبات رئيس حزبنا الذي نام داخل سيارة في خنادق المواجهة لنحو ثلاثة أشهر".
واتهم بعض القوى من دون أن يسمها بـ"كيل شتى التهم ضدنا لتحقيق مكاسب انتخابية، وأفضل طريق هو أن نرد". ولم يخف نيجيرفان اختلاف "الرؤى" داخل أروقة الحزب في شأن بعض الأزمات، لكنه أكد أن "قوة ومتانة الحزب تكمنان في وحدته، وإذا نظرنا إلى الخريطة السياسية في الإقليم، فإن حزبنا وحده فقط يحسب له الحساب على الصعيد الخارجي".
وحصد حزب بارزاني في الانتخابات السابقة 25 مقعداً مقابل 18 لمنافسه "الاتحاد"، وهي الانتخابات التي اتهمت فيها المعارضة الكردية الحزبين بارتكاب عمليات تزوير "واسعة النطاق".
"أغلبية مزيفة"
تصريحات نيجيرفان أثارت ردود فعل غاضبة وشداً وجذباً من القوى الكردية في مقدمتها حزب طالباني. وقالت القيادية فيه، ريواز فائق، التي تتولى منصب رئاسة برلمان الإقليم، "هذا الأسلوب في محو الآخر، ونظرة الاستصغار تجاهه، باتت جزءاً من سياسة الحزب الديمقراطي لتهميش الآخرين، في حين كان يفترض به (نيجيرفان) أن يكون جامعاً وحامياً للقوى السياسية والشعب عموماً، لكنه حطم هذا المبدأ ونسفه، بعد أن كانت الجماهير تتأمل في أن نذهب موحدين إلى بغداد".
وشددت فائق، خلال مؤتمر صحافي، على أن "نيجيرفان تناسى من نجح في إقناع بغداد بإطلاق أموال لدفع رواتب موظفي الإقليم، وكيف أن مقاتلينا هبوا لحماية أربيل من خطر (داعش) الذي كان على مشارف المدينة".
وأضافت، "أما في شأن الادعاء بامتلاك حزبكم الأغلبية، فمعلوم أنها مزيفة ومزورة، وأي جهة لا تعمل لنا حساباً، سنعاملها بالمثل".
وكانت قوات البيشمركة قد اضطرت للانسحاب من مناطق موضع خلاف مع بغداد أثناء اجتياح تنظيم "داعش" لمحافظة نينوى عام 2014، ووصوله إلى مشارف مدينة أربيل قبل أن يتوقف بفعل ضربات جوية أميركية.
وجاء رد القيادي في "الديمقراطي" ونائب رئيس البرلمان هيمن هورامي على تصريحات فائق سريعاً، متسائلاً، "كيف لمن يتولى منصباً رفيعاً في مؤسسة دستورية أن ينطق بنفس حزبي، ألستم بأنفسكم تعملون الحساب لحزبنا في كل عبارة تنطقونها، وتعلمون جيداً أن الرئيس لم يقصد قط أن يقلل من شأن بقية الأحزاب، لكننا في الواقع نملك جماهيرية أوسع، ولدينا أكثرية الأصوات تجعلنا في المقدمة. خلال الفترة الماضية أجرى نحو 40 وفداً دولياً مباحثات مع رئاسات الإقليم والحكومة والحزب حصراً".
ونوه بأن "هؤلاء يصفون الأغلبية التي نقودها في البرلمان بالمزيفة، والكل يعلم من الذي ارتكب عمليات تزوير. شعب الإقليم ذاكرته ليست ضعيفة، وقد تعب من سماع الخطابات المتشنجة".
مزايدات دعائية
ويرى محللون أن هذا "التراشق" لن يتخطى حدود النطاق الدعائي، إذ سبق أن شهدت الحملات الدعائية السابقة خطاباً أشد حدة سرعان ما انتهى إلى تفاهمات عقب فترة وجيزة من إعلان نتائج الانتخابات، سواء على شكل تكتل، أو ضمن صيغة متفق عليها ضمنياً لتوزيع الأدوار "حفاظاً على المصلحة القومية" في بغداد.
ويبلغ عدد المرشحين الأكراد أكثر من 200 مرشح، وسط توقعات بأن تحتفظ القوى الكردية بمقاعدها في البرلمان الاتحادي البالغة 59 مقعداً من أصل 329.
وقال القيادي السابق في "الديمقراطي" أدهم بارزاني في منشور في "فيسبوك"، "إذا كانت رئيسة البرلمان ونائبها يعلمان بحصول عمليات تزوير في الانتخابات السابقة، فبأي منطق يتوليان قيادة أهم منصب حساس في سلطة الإقليم". وزاد أدهم، وهو ابن عم مسعود بارزاني، "هل بإمكانهم القول إلى الآن أمام الجماهير إنهم شرعوا القوانين بصدق نابع عن ضمير حي؟ وماذا يمكن تسمية أنشطة الإعمار والتنمية التي تتحقق بفعل التزوير؟".
خيار الانفصال
الاستفتاء من أجل الانفصال الذي تبناه بارزاني عام 2017 كان له نصيب في الحرب الدعائية، إذ يحمل حزب "الاتحاد" نظيره "الديمقراطي" مسؤولية العقوبات و"الخسائر" التي لحقت بمكاسب الإقليم من جراء "التعنت" في خوضه، فيما يتهم الأخير قادة في "الاتحاد" بـ"الخيانة" في تسليم محافظة كركوك إلى القوات العراقية بغية إفشال الاستفتاء.
وصرح الرئيس المشترك لحزب "الاتحاد"، بافل طالباني، في اجتماع للقيادة بمحافظة كركوك، بأن "تداعيات الاستفتاء وعدم الانصياع لنصائح الدول الصديقة بعدم إجرائه كانت لها آثار سلبية، لكننا لم نفقد الأمل، ولم نترك المحافظة لآخر ساعة، وهذه كانت مسؤوليتنا التاريخية، وسنبقى فيها من أجل خدمتها".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في المقابل، رد سكرتير المكتب السياسي في "الديمقراطي"، فاضل يراني، في كلمة أمام مجلس قيادة الحزب بالقول، إن "الاستفتاء أحد مكتسبات الشعب الكردي، ولا يُعد ملكاً لأحد، لكن حزبنا دائماً من يقود القضايا القومية والوطنية".
وأضاف، "الذي يقول إن إجراء الاستفتاء لم يكن ضرورة، هو بنفسه رفع إصبعه الملونة بحبر التصويت وألقى شعارات الاستقلال، والصور موجودة".
ووجه القيادي في "الديمقراطي"، نجات حسن، انتقادات شديدة اللهجة ضد تصريحات زعيم "جماعة العدل" الإسلامية، علي بابير، لوصفه الاستفتاء "بالفاشل".
وقال في تصريحات نقلتها وسائل إعلام الحزب، إن "بابير معروف بتناقضاته. بالأمس كان يصف المشاركة في الحكومة والبرلمان بالكفر والشرك، واليوم يصارع للفوز بمقعدين في بغداد من أجل المكاسب"، مشيراً إلى أن "بابير صوت بنفسه لصالح الاستفتاء، لمعرفته المسبقة بأن الرافضين سيلعنهم التاريخ".
اتهامات بمصادرة الرأي
من جانب آخر، اتهم بافل طالباني "الديمقراطي" بممارسة "انتهاكات وقمع لحرية الرأي" في مناطق نفوذه. وقال إن "المعتقلين من الصحافيين والنشطاء في منطقة بادينان، تعرضوا لأحكام بالسجن لدفاعهم عن قول الحقيقة والحق العام".
وأكد أن "قمع حرية الرأي والتدخل بشؤون القضاء، وتلفيق تهم باسمه، قد يلحق الضرر بتجربة الإقليم، على مستويات عدة".
وتعهد شقيقه، قباد طالباني، الذي يتولى منصب نائب رئيس حكومة الإقليم، "بعدم السماح بالتعرض لأي صحافي في مدينة السليمانية كما يحصل في منطقة بادينان... طالما بقيت حياً".
التغطية على الإخفاقات
وفي تقييم لحيثيات الحملة الدعائية ودوافع اتباع خطاب متشدد، يرى المحلل السياسي الكردي جمال بيرة أن "الهدف هو الترويج للبرامج الانتخابية، لكن ما يحدث في هذه الانتخابات هو تبادل للتهم والتشهير بغية تأجيج وشحن مشاعر الناخبين المقسمين وفق انتماءات وولاءات شتى. ومن الواضح أن هناك ثقافة قائمة لمحو الآخر".
ويعتقد أن "هذه الظاهرة مؤشر إلى إفلاس سياسي، يدفع القوى إلى إيجاد حيل لإبعاد الناخب اليائس عن مطالبه الأساسية كالخدمات والحقوق، نحو الصراع الأيديولوجي والعقلية الحزبية الضيقة. والملاحظ أن خطاب القوى، وبخاصة الحاكمة، يركز على ملفات خلافية غالبيتها قديمة، بينما يتقصدون عدم التطرق إلى ملفات أساسية كتلك المتعلقة بالفشل الإداري والفساد وأزمات الرواتب والخدمات عموماً".
ووفقاً لبيرة، فإن هذا الأسلوب "لم يعد ينطلي على الناخب الذي خاض تجارب لا بأس بها، وبدأ يدرك أدوات اللعبة، على الرغم من أن هذه القوى لا تزال قادرة على تحقيق مكاسب، بفعل توغلها في مفاصل الدولة وتحكمها بالمال العام والأجهزة الأمنية والعسكرية".
واستبعد بيرة "حدوث تغييرات في موازين القوى، وبخاصة بين القوى الكبرى الحالية المسؤولة عن هذا الفشل، في ظل توقعات بتدني نسبة مشاركة الناخبين في عملية التصويت".
وعلى مستوى الشارع الكردي، يرى هوشيار أحمد (47 عاماً)، وهو مدرس، أن "المواطن اعتاد هذا النوع من الخطابات الحادة والحروب الإعلامية التي تتكرر في كل انتخابات، ما يوحي بنوع من العدائية السياسية، لكن كل ذلك يتبخر بمجرد انتهاء يوم التصويت، حيث تجلس الأحزاب على طاولة واحدة لتتقاسم المغانم، وكأن شيئاً لم يحصل".
يختلف رشوان طه (43 عاماً)، وهو أحد مناصري "الديمقراطي"، مع رؤية أحمد بالقول، إن "حزبنا حقق مكاسب لا يمكن التغافل عنها، وهي واضحة للعيان، على الرغم من أن هناك سلبيات وإخفاقات، لكن إذا أجرينا مقارنة بسيطة بين مناطق نفوذ حزبنا وبقية المناطق، سنلاحظ فرقاً شاسعاً في العمران والخدمات، والشعبية التي يحظى بها حزبنا دليل حي على ما أقول".
وكتب القيادي في "الاتحاد الإسلامي" المعارض أبو بكر هلدني، عبر حسابه في "فيسبوك"، "يبدو أن حزبي السلطة اتفقا على مستويات عليا على تبادل التهم وتبني خطاب متشنج خلال فترة الحملة الدعائية، بغية شحن الجماهير، ثم يعودان بعدها لتقاسم المكاسب، كل ضمن نطاقه الإداري، ولنا تجارب سابقة في ذلك".