مع هيمنة أجواء الانقسام السياسي في تونس، حذر البنك المركزي من انهيار اقتصادي ومالي قد يدخل البلاد في نفق مظلم، منبهاً الساسة وصناع القرار إلى أهمية التغيير السريع لإصلاح الوضع الحالي.
واعتبر عدد من المحللين بيان المركزي التونسي صفارة إنذار أخيرة، وأن هناك إمكانية واردة لإعلان إفلاس الدولة في ظل الصعوبات المالية التي تنتظرها في الأشهر المقبلة وتوقف المفاوضات مع صندوق النقد الدولي تماماً، في ظل تأخر الإعلان عن تشكيل الحكومة على الرغم من تكليف الرئيس قيس سعيد نجلاء بودن تشكيلها.
وشدد البنك المركزي على خطورة الوضع المالي، معرباً عن قلقه بشأن "الشح الحاد في الموارد المالية الخارجية مقابل احتياجات مهمة لاستكمال تمويل موازنة الدولة لعام 2021". وهو ما يعكس تخوف المقرضين الدوليين في ظل تدهور الترقيم السيادي للبلاد وغياب برنامج جديد مع صندوق النقد الدولي.
وتحتاج تونس إلى موارد بقيمة 3.5 مليار دولار لإنهاء السنة، بين سداد أجور الموظفين (نحو 1.8 مليار دولار) ونفقات التسيير، وسط تحذير متواصل من خبراء اقتصاديين من تدهور إضافي في مالية البلاد.
تفعيل التعاون المالي الثنائي
ويستدعي الوضع المالي الحرج الذي تعيشه تونس، وفق البنك المركزي، تفعيل التعاون المالي الثنائي خلال الفترة المتبقية من عام 2021 لتعبئة ما أمكن من الموارد الخارجية، وذلك لتفادي التمويل النقدي لما يتضمنه من تداعيات لا على مستوى التضخم فحسب، بل على الاحتياطي من العملة الأجنبية وإدارة سعر صرف الدينار أيضاً، إضافة إلى أثره السلبي في علاقة تونس بالمؤسسات المالية المانحة ووكالات الترقيم السيادي.
وفي السياق نفسه، انخفضت الموجودات الصافية من النقد الأجنبي إلى حدود 7.5 مليار دولار أو 127 يوم توريد في أواخر سبتمبر (أيلول) 2021، مقابل 8.2 مليار دولار أو 162 يوم توريد في نهاية 2020.
وأكد البنك المركزي أن تدهور المالية العمومية، التي تعاني وضعية هشة علاوة على تداعيات ارتفاع الأسعار العالمية للنفط (نحو 80 دولاراً للبرميل) من شأنه المساس باستدامة الدين العمومي، إلى جانب التأثيرات السلبية لارتفاع مديونية القطاع العمومي تجاه القطاع البنكي، بخاصة في قدرته على تمويل المؤسسات الاقتصادية.
وأضاف أن استمرار هذا الوضع ستكون له تداعيات جد سلبية على التوازنات الخارجية وسوق الصرف.
مؤشرات اقتصادية هشة
ووفق البنك المركزي، شهد الناتج المحلي الإجمالي خلال الثلاثي الثاني من عام 2021، ارتفاعاً بـ16.2 في المئة، مقارنة بالثلاثي نفسه من عام 2020، وتراجعاً باثنين في المئة مقارنة بالثلاثي السابق نتيجة، بخاصة، التأثير القاعدي لانخفاض النشاط الاقتصادي خلال الفترة نفسها من عام 2020.
وتبرز هذه النتائج تعافياً نسبياً لبعض القطاعات، بخاصة الصناعات المعملية المصدرة بسبب تواصل تحسن الطلب من منطقة اليورو، إضافة إلى التحسن الملحوظ لإنتاج المحروقات نتيجة مساهمة حقلي نوارة وحلق المنزل في الإنتاج والعودة التدريجية لقطاع الفوسفات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي المقابل، لا تزال بعض القطاعات تشكو من استمرار تأثير الأزمة الصحية "كوفيد-19" عليها، لا سيما قطاع الخدمات.
وفي ما يتعلق بتطور الأسعار، لاحظ البنك المركزي استقرار نسبة التضخم في حدود 6.2 في المئة في سبتمبر الماضي للشهر الثاني على التوالي، مقابل 5.4 في المئة خلال الشھر نفسه من عام 2020.
وسجل البنك المركزي تقلص العجز الجاري خلال الأشهر الثمانية الأولى من عام 2021، ليصبح في حدود 3.5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، مقابل 4.8 في المئة قبل سنة.
السير نحو الإفلاس
وتعليقاً على بيان البنك المركزي، قال وزير التجارة الأسبق والمحلل المالي محسن حسن، إن موقف أهم سلطة نقدية يعد رسالة واضحة ومباشرة إلى سعيد بأن البلاد تسير بخطى سريعة نحو الإفلاس، وأنه يتعين تدارك الأمر بسرعة.
وأكد لـ"اندبندنت عربية" أنه في ظل صعوبة لجوء تونس إلى الأسواق المالية الدولية، فإن الحل الوحيد هو طلب المساعدة المالية من الدول الشقيقة والصديقة، من خلال الحصول على قروض ميسرة أو هبات من شأنها أن تخفف وطأة الوضع المالي الحرج.
واعتبر أن تونس أضاعت كثيراً من الوقت في التجاذبات والصراعات السياسية، بدل التركيز على الخروج من الأزمة المالية الخانقة.
الإسراع بتشكيل حكومة
وإذ أقر فتحي النوري، أستاذ الاقتصاد بالجامعة التونسية والعضو السابق بمجلس إدارة البنك المركزي، بصعوبة الوضع الاقتصادي والمالي، فإنه حصر الإشكالية في وجوب تشكيل حكومة في أسرع وقت ممكن من أجل الدخول مباشرة في مفاوضات مع صندوق النقد الدولي.
واشترط في تصريح له أن تكون الحكومة الجديدة ثابتة ولها برنامج واضح في المعركة المالية لتونس، مشدداً على أهمية تعيين وزراء "غير متربصين" وفق تصنيفه، بل لهم دراية بالملفات المالية تخولهم حسن التفاوض مع المانحين الدوليين.
كما اشترط إقناع وكالات التصنيف "موديز" و"فيتش رايتنغ" بعدم الحط من التصنيف السيادي إلى مستوى متدنٍّ، من خلال الحرص على أنه تم تشكيل حكومة جديدة ستقوم بالعديد من الإصلاحات، كاشفاً في هذا الصدد عن أن التصنيف المقبل لهذه الوكالات سيكون في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل.
أما أستاذ الاقتصاد في الجامعة التونسية آرام بلحاج، فقد اعتبر بيان البنك المركزي التونسي بمثابة تحذير أخير لكل المكونات السياسية والاقتصادية، يتطلب يقظة تامة ووعياً بالخطر المحدق بالبلاد.
وحذر من فخ الوقوع في إصدار الدينار التونسي من دون مقابل، أي التمويل المباشر لموازنة الدولة وما يصطلح عليه بطباعة الأوراق المالية، الذي سيؤدي إلى ارتفاع مستويات التضخم وتدهور قيمة صرف الدينار، علاوة على أن وكالات التصنيف الدولية ستحط من مستوى التصنيف إلى مستويات دنيا.
ودعا بلحاج إلى ضرورة الإسراع بتشكل الحكومة والدخول مباشرة في مفاوضات مع صندوق النقد الدولي وتفعيل التعاون المالي الثنائي بالحصول على دعم من الدول الشقيقة والصديقة لغلق موازنة 2021 في ظروف مريحة.
وبالنسبة إلى موازنة 2022، اعتبر بلحاج أن الأسئلة ستظل قائمة بشأن طرق تعبئة الموارد المالية الضرورية، منبهاً إلى أنه في حال التعسر العام المقبل في تأمينها، فإن تونس قد تعلن إفلاسها رسمياً.