تقارب جزائري تركي مقابل نفور جزائري فرنسي، هو عنوان المشهد السياسي الذي بات يميز محور "الجزائر- تركيا - فرنسا"، في تحوّل أثار انتباه المتابعين الذين أجمعوا على أن الجزائر تبحث معاقبة باريس بتوطيد العلاقات مع أنقرة بشكل يجعل الأبواب مفتوحة أمام جميع الدول التي تملك توجهاتها ذاتها، بعيداً من أية وصاية أو ضغط.
تيار لا يهدأ تركياً وتراجع رهيب فرنسياً
أصبح التيار بين الجزائر وأنقرة لا يهدأ من تحركات سياسية واقتصادية وتجارية وسياحية، ولم يتوقف الأمر عند تصريحات "المغازلة والود" بل تعدّاه إلى إبرام اتفاقيات لم تكُن متوقعة إلى وقت قريب، بسبب استحواذ باريس على مختلف المجالات والقطاعات، ولعل وجود الرئيس رجب طيب أردوغان، خلال توقيع اتفاقيات مع شركة "سوناطراك" البترولية الجزائرية الأسبوع الماضي، دليل على الأهمية التي توليها أنقرة لعلاقاتها مع الجزائر في ظل التراجع الرهيب لخط "فرنسا - الجزائر" الذي استغلته تركيا لتمتين تقاربها ورباطها مع الجزائر في فرصة لن تتكرر مرة أخرى.
ومنذ تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون "المسيئة" للجزائر، تشهد العلاقات الجزائرية الفرنسية توتراً سياسياً واقتصادياً لم تشهده العلاقات الثنائية على مر 60 عاماً، وبعد استدعاء السفير بباريس وحظر عبور الطائرات العسكرية للمجال الجزائري باتجاه منطقة الساحل، جاء الدور على الاقتصاد، فيرى البعض أنه ورقة ضغط سترهق باريس التي تذكر التقارير أنها احتلت المرتبة الثانية ضمن قائمة الشركاء الاقتصاديين للجزائر خلف بكين، بصادرات تقدربـ 3.6 مليار دولار.
الجزائر تقف على المسافة ذاتها من الجميع
في السياق ذاته، يعتقد أستاذ الاقتصاد أحمد الحيدوسي أن الجزائر تقف على المسافة نفسها من جميع الدول ما عدا الدول التي تكنّ العداء والحقد، وعقيدة عدم الانحياز لأي طرف راسخة في الفكر الدبلوماسي الجزائري، لذلك البلاد لا ترتمي في أحضان أي طرف لا تركيا ولا فرنسا ولا إيران ولا حتى روسيا التي تعتبر شريكاً استراتيجياً في ميدان التسلح أو حتى الصين الشريك التجاري، مضيفاً أن الجزائر تريد التعامل مع الجميع وفق مبدأ الاحترام وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول.
ويواصل الحيدوسي أن إجراء مقارنة بين الاستثمارات التركية والفرنسية يؤدي إلى تسجيل فرق شاسع، فالاستثمارات الفرنسية ترتكز على قطاع الخدمات مثل البنوك والتأمين، أو قطاع توزيع المياه، أو تسيير بعض المؤسسات، لذلك "أعتقد أن الاستثمارات الفرنسية في الجزائر لا تخلق الثروة بقدر ما تتحصل عليه من عوائد، ما عدا الإنتاج الصيدلاني وقطاع المحروقات، أما الاستثمارات التركية فأكثر جدية سواء من خلال عدد المناصب التي أوجدتها أو طبيعة النشاطات المنتجة والتي تخلق ثروة حقيقية مثل قطاع النسيج والحديد والصلب والصناعات الغذائية أو الصناعات التحويلية في قطاع المحروقات، وعليه فالشراكة مع الطرف التركي تخضع لقاعدة ’رابح – رابح‘ وأفضل بكثير من الاستثمارات الفرنسية".
الاستثمارات الفرنسية تبقى موجودة
في المقابل، يؤكد أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية إبراهيم حرزولي أن الاستثمارات الفرنسية في الجزائر بلغت إلى وقت قريب، حوالى 500 مشروع، تنخرط فيها 400 شركة تشغّل نحو 40 ألف منصب عمل مباشر، شملت قطاع الطاقة والصناعات الميكانيكية والصيدلانية، وصولاً إلى الخدمات في المرتبة الأخيرة، مبرزاً أن فرنسا تفضل أن تبقى الجزائر سوقاً لمنتجاتها عوض الاستثمار فيها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وختم أن الاستثمارات الفرنسية كانت تحظى بامتيازات لا تتلقاها أي دولة أخرى قبل تصريحات ماكرون، وعلى الرغم من تراجعها أمام الاستثمارات الصينية والتركية إلا أنها تبقى موجودة.
مرحلة جديدة من العلاقات الاقتصادية
ويظهر في الفترة الأخيرة أن صراع النفوذ الفرنسي - التركي في الجزائر يتجلّى من خلال الاقتصاد والتجارة، مع تناوب البلدين على المرتبة الثانية في قائمة الشركاء، بعد أن انفردت الصين بالمرتبة الأولى، غير أن بلوغ العلاقات بين الجزائر وباريس حد حظر عبور الطائرات العسكرية الفرنسية المجال الجوي الجزائري، يؤسس إلى مرحلة جديدة في العلاقات الاقتصادية الجزائرية التي يبدو أنها تتجه لـ"طلاق" من دون رجعة مع سيطرة باريس، مقابل فتح الأبواب أمام مختلف الشركاء الدوليين.
دولة محل أطماع
إلى ذلك، يقول الناشط السياسي مراد بياتور أن الجزائر كانت دوماً دولة محل أطماع قوى عالمية عدة، وهذا عائد إلى الثروات التي تزخر بها البلاد، مضيفاً أنه كلما ضعف نظام الحكم ازدادت هذه الأطماع بروزاً بهدف بلوغ امتيازات والحصول على حصص من الثروات، وذلك يكون حتماً مقابل مساندة السلطة ومساعدتها في البقاء.
وأشار إلى أن التدخلات المتكررة في الشأن الداخلي للبلاد من قبل فرنسا، والمحاولات التركية للعب دور وقلب الموازين لصالحها، كله يصب في الاتجاه ذاته، موضحاً أنه للقضاء على كل أنواع التبعية والتدخلات الخارجية، هناك حل واحد يتمثل في إرساء الديمقراطية التي تنبثق على أساسها سلطة شرعية تتمتع بالمشروعية الشعبية، وتحدث القطيعة مع التعيينات بإيعاز خارجي.
الضغط على فرنسا بورقة تركيا
وتواصل الجزائر الضغط على فرنسا بورقة تركيا، إذ دعا وزير الصناعة أحمد زغدار إلى تعزيز التعاون الاقتصادي بين الجزائر وأنقرة من خلال استغلال كل فرص الشراكة المتاحة بين البلدين، مؤكداً في كلمته خلال افتتاح منتدى الأعمال والاقتصاد تركيا- أفريقيا، في إسطنبول، أن الجانبين أمام فرصة تاريخية لتعزيز العلاقات التجارية والاقتصادية في ظل الإرادة السياسية لقيادتي البلدين الشقيقين، وأشار إلى إرادتهما لتمتين العلاقات الاقتصادية والتجارية الثنائية.
واستدلّ الوزير بحجم المبادلات التجارية الثنائية التي وصلت إلى 4 مليارات دولار في 2018 و2019، قبل أن تنخفض إلى 3 مليارات دولار في 2020 بسبب جائحة كورونا، وهو ما جعل من تركيا خامس أكبر شريك تجاري للجزائر، بينما تُعتبر الأخيرة ثاني أكبر شريك تجاري لأنقرة في أفريقيا.