قد يكون مفهوماً بل حتى مبرراً أن يُقدم كاتب من طينة ألكسندر دوما الأب على كتابة مسرحية عن ممثل إنجليزي كبير خلال الربع الثاني من القرن التاسع عشر، ولكن بالتأكيد سيكون مفهوماً ومبرراً أقل بكثير أن يكرس فيلسوف وأديب من مستوى جان بول سارتر بعد ذلك بقرن من الزمن، مسرحية للحديث عن جزء من تاريخ ذلك الممثل نفسه، حتى ولو كان الدافع صداقة عميقة بين سارتر والممثل الفرنسي المسرحي الكبير بيار براسور الذي أبدى يوماً أمام صاحب "الأيدي القذرة" و"خلف أبواب مغلقة" والذي كان يعيش في ذلك الحين (1953) ذروة ازدهار فلسفته الوجودية وصراعاته من حول انتمائه "الشيوعي" وخوضه صراعات ليس أقلها صراع الأجيال.
ففي نهاية الأمر ليست مسرحية "كين، الفوضى والعبقرية" جديرة بأن تحمل توقيع سارتر. غير أن ما يخفف من حدة المفارقة هو أن سارتر لم يفعل سوى اقتباس نفس المسرحية التي كان دوما الأب قد كتبها في عام 1836 من دون تغييرات تذكر فيها. وذلك تحديداً لأن الحوادث التي استند إليها دوما كانت حقيقية وتاريخية والمسرح في حد ذاته لا يسمح بالكثير من الإضافات على ما هو موثق.
لو كان كين حياً
وهنا ينطرح علينا من خلال هذا البعد الأخير سؤال لا بد منه: ترى لو عاش الممثل الإنجليزي إدوارد كين (1787 – 1833) والذي روى دوما وعلى خطاه سارتر ذلك الجزء من سيرته، عدة أعوام أخرى وشهد المسرحية تقدم على الخشبة الفرنسية قبل الإنجليزية، هل كان من شأنه أن يكون راضياً عنها؟ ثم لو أنه كان راضياً هل كان من شأنه أن يلعب على الخشبة دوره الخاص في الحياة لو عُرض عليه ذلك؟
الإجابة في علم الغيب طبعاً بالنظر إلى أن كين الحقيقي والذي كان معروفاً خلال حياته بأدائه الرائع لأبرز المسرحيات الشكسبيرية، مات قبل سنوات قليلة من ظهور مسرحية دوما وقبل قرن ونيّف بالطبع على الاقتباس الذي جققه سارتر.
غير أن ما يمكننا قوله هنا هو إن أصدقاء كين وأهله لم يبدوا أي اعتراض على ما جاء في المسرحية وكذلك لم يبد شيئاً من هذا مؤرخو المسرح الإنكليزي حين ظهر الاقتباس الذي أنجزه سارتر الذي لم يجعل في سياق المسرحية ما كان من شأنه أن يغضبهم.
ومن هنا في هذا السياق الأخير يمكننا القول بأن "كين..." أواسط القرن العشرين كانت من أقل مسرحيات سارتر ساترية بل إنها لتبدو كأنها مبدَع من مبدعات ساشا غيتري أو حتى هنري برنشتاين.
أما بالنسبة إلى مسرحية دوما فهي تأتي في سياق اهتمام صاحب "الفرسان الثلاثة" و"الكونت دي مونت كريستو" بكتابة السير، حقيقية أو متخيلة، ولم تكن تلك "السيرة المسرحية" التي كتبها لكين من أفضل أعماله على أية حال.
المسرح داخل المسرح
لكنها ربما تكون في المقابل مسرحية قوية ومقنعة في الدنو من سيرة فنان مسرحي في مسرحية مكرسة له بحيث تبدو النتيجة، وبخاصة لدى سارتر، أشبه بلعبة مرايا والبحث عن الإنسان الحقيقي وراء الفنان المتقمص لألف دور ودور.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولربما يكون ذلك هو المغزى الحقيقي لاهتمام اثنين من كبار الكتاب الفرنسيين، بفارق قرن من الزمان بينهما، بذلك العمل. أو على الأقل كان ذلك ما برر به سارتر مراراً وتكراراً عودته إلى تلك الشخصية وحكايتها: شخصية كين الذي كان معبوداً لجماهير المسرح الإنجليزي في زمنه، بحيث أنه كان واسع الشهرة ليس فقط انطلاقاً من عمله المسرحي المعتبر استثنائياً، بل كذلك انطلاقاً من مغامراته العاطفية والفوضى التي وسمت حياته وأرسلته في نهاية المطاف إلى منفى أميركي وقد باتت اللعنات والأخطار تلاحقه في لندن التي كان ملك المسرح فيها، أو هذا ما تخبرنا به سيرته المعروفة وكذلك المسرحية سواء كما كتبها دوما، أو كما استعادها سارتر.
علماً بأن الاشتغال السارتري عليها هو الأشهر اليوم والذي يقدم بين الحين والآخر بنجاح، فيما نعرف في المقابل أن السينما الأوروبية قد اقتبست نصّ دوما مرات ومرات ومنذ بدايات السينما بحيث يمكن إحصاء اقتباسات سينمائية عدة له. وذلك من دون أن ننسى إقدام الراحل حديثاً جان بول بلموندو على إنتاج فيلم يتأرجح بين النصين قام بالدور فيه بنفسه.
ورطة اسمها العلاقات الغرامية
ولكن كيف تتناول مسرحية "كين" وفي الحالتين تلك السنوات التي ترويها من سيرة ذلك الممثل الكبير؟ ببساطة وربما بشكل خطّي أيضاً. ومن دون أن تغوص طويلاً في تاريخ الرجل. فهو هنا حين يفتتح الفصل الأول في لندن سنوات الثلاثين من القرن التاسع عشر، قد بات ذلك النجم المسرحي الكبير الذي سرعان ما نكتشف الفوضى "الغرامية" التي تعم حياته جراء ثلاثة ارتباطات عاطفية له مع ثلاث نساء من صفوة المجتمع والفن في العاصمة البريطانية: الأولى كيتي تلك المرأة الطيبة المتواضعة التي تحبه لذاته وتريد التمسك به مع أنها تعرف أن منافساتها كثيرات ولكل منهن ميزاتها ونقاط قوتها، والثانية هي السيدة الثرية آنا دامبي التي من الواضح أنها تريد من خلال الارتباط به تعزيز مكانتها الاجتماعية، أما الثالثة والأكثر خطورة وتطلباً في العلاقة معها فهي الكونتيسة كوفيلد زوجة سفير دولة الدنمارك في باريس.
منذ البداية نفهم كيف أن السيدات الثلاث بين أخريات، يردن من كين شيئاً واحداً وهو أن يحبّهن وكل واحدة تعتقد أن في إمكانها أن تكون حبيبته الوحيدة.
أما هو فيبدو أن من يميل إليها أكثر هي الكونتيسة التي لن يسهى عن باله أنها في الوقت نفسه عشيقة البرنس أوف ويلز وريث العرش البريطاني.
لكن الأدهى من ذلك والذي يزيد من تعقّد الأمر وصعوبته هو الصداقة العميقة والود المتبادل الذي يجمع بين كين والأمير. وهنا تعطينا المسرحية مؤشرات تقترح أن رغبة كين بالكونتيسة قد لا تكون حباً حقيقياً بل نوعاً من كبرياء ناتج من رغبة في الوقوف موقف الند من ذلك الصديق الملكي.
لقاء عاصف في حانة
ويحدث ذات مرة أن يعطي كين موعداً للكونتيسة كي تلاقيه في إحدى الحانات مباشرة قبل تقديم العرض الأول لمسرحية "روميو وجولييت" التي يقوم فيها بدور روميو.
ولكن في الموعد المحدد تصل آنا بدلاً من الكونتيسة وتطلب من كين أن يساعدها بنفوذه على التخلص من مطاردها اللورد ميويل أحد كبار رجال السلطة الذي سرعان ما يصل إلى الحانة بدوره مع رجاله وهو يطارد آنا، وهنا إذ يحاول كين حماية السيدة من تحرش اللورد ومحاولته سحبها من المكان، يصطدم الرجلان ولكن اللورد يعلن بكل تبجح واستعلاء أنه ليس من الضعة بحيث يتشاجر مع "مهرج وضيع" تاركاً الأمر لرجاله، فيقوم الحضور وهم جميعاً من معجبي كين وأنصاره المنتمين إلى عامة الشعب، مدافعين عن نجمهم الكبير الذي تثير المسألة كلها ثائرته ويبقى على تلك الحال حتى يتوجه إلى المسرح.
وفي مقصورته هناك يزوره الأمير أوف ويلز فيتشابكان لفظياً وقد راح كل منهما يطالب بحقه في العلاقة مع الكونتيسة. وعلى ذلك تزداد حدة غضب كين وحين ينهمك على الخشبة قائماً بدوره، يلتفت صوب مقصورة الأمير فإذا بهذا هناك وإلى جانبه الكونتيسة يتناجيان ولا يباليان به، فيزداد سخطه ويحول حديثاً عنيفاً كان يجب أن يوجهه الى أعدائه في المسرحية، إلى حديث حافل بالإهانات والشتائم يوجهه إلى الأمير نفسه ناعتاً إياه بأحقر الصفات. وذلك قبل أن يتهاوى فاقداً رشده.
دوما وسارتر دائماً معاً بفضل "كين"
صحيح أن الأمير سيسامحه بعد حين، فهما صديقان في النهاية، ثم أن الكونتيسة تؤثر الأمير على الممثل، وهكذا ينتهي الأمر بكين العظيم إلى أن يسلك درب المنفى إلى أميركا حيث تقول لنا سيرته إنه لن يلبث أن يرحل عن عالمنا هناك، تحت رعاية آنا التي ستكون الوحيدة التي تبقى له وترافقه محبة عطوفاً حتى النهاية... وحتى حين راح مجده يخبو في أيامه الأخيرة في المنفى ولا يتبقى له سوى ذكرياته التي عرف ألكسندر دوما (1803 – 1870) ومن بعده جان بول سارتر (1905 – 1980) كيف يخلدانها كل على طريقته في مسرحيتين لا بد دائماً من الحديث عنهما معاً...