نقرأ في التراث قصصاً يُفترض أن تعجبنا وأن نتغنى بها ونمجدها، وما أكثر تلك الحوادث والنوادر التي تستحق الفخر وتعلّم الدروس، لكن ما أكثر القصص التي تستوجب التوقف عندها وتمحيصها ونخلها بل و"شخلها". من تلك القصص قصة النعمان بن المنذر، ملك الحيرة الذي تاه في رحلة صيد عن أصحابه وحرسه وحاشيته، فلجأ إلى بيت أعرابي من طيء، فأكرمه الأعرابي وذبح له شاته الوحيدة وفرش له فراشاً وقضى الليلة عنده من دون أن يعرف من هو. وعندما أصبح، قال للأعرابي "تمنَّ ما شئت فأنا ملك الحيرة النعمان بن المنذر"، فقال له الأعرابي "أنا أكرمتك بدافع الواجب وإكرام الضيف ولست في حاجة أو ضيق". ودّعه النعمان ودارت الأيام، فمرّ الأعرابي بضنك وعوز، فاتجه إلى النعمان لعله يفرّج عسرته، فدخل على النعمان الذي كان له يومان بالسنة: يوم بؤس ويوم فرح، فمن دخل عليه في يوم البؤس قتله، ومن دخل عليه في يوم الفرح أعطاه ما يشاء. ولسوء حظ الأعرابي أنه دخل على النعمان في يوم بؤسه، فأمر النعمان بقتله، ولكنه قال له تمنَّ ما تشاء قبل قتلك، فقال الأعرابي "وما حاجتي للدنيا إن متّ، أمهلني حولاً -أي سنة- كي أنظر في حال أهلي بعد موتي، فطلب النعمان كفيلاً، فكفله قراد بن أجدع، ومضى الحول ولم يبقَ منه إلا يوماً واحداً، فقال النعمان لقراد وكان يريد قتله بدلاً من الأعرابي الذي أكرمه، "هيا لتواجه القتل فإني قاتلك". فأنشد قراد بيتاً مشهوراً أصبح مثلاً:
فإن بك صدر هذا اليوم ولى
فإن غداً لناظره قريب
فأمهله النعمان للغد، وبعصر اليوم الأخير، تهيّأ النعمان لقتل قراد، وقبل تنفيذ العقوبة بدت عجاجة في الأفق، فانتظرها النعمان وإذ بها عجاجة الأعرابي، فقال له النعمان: ماذا أتى بك لموتك؟ فقال: الوفاء، وما حملك على الوفاء: قال ديني -وكان مسيحياً، وسأل النعمان قراداً: ماذا دفعك لكفالته وأنت لا تعرفه ولا تعرف إن كان سيعود؟ فقال قراد: المروءة. فأمر النعمان بالعفو عنهما وأكرمهما وألغى يوم البؤس السنوي، ودخل المسيحية وقومه وقد كان وثنياً.
كنا نقرأ هذه القصص من دون أن نتساءل: لماذا كان لدى النعمان يوم بؤس ويوم فرح؟ وأي مرض نفسي كان يعاني منه ذلك الملك الذي يذكره تاريخنا بالوقار والإجلال وهو قاتل وسفاك دماء؟ وماذا لو لم يرجع الأعرابي لإنقاذ حياة من كفله؟ وكيف تأكد قراد بأن الأعرابي سيعود؟ ولماذا لم يفكر النعمان بإلغاء يوم البؤس قبل هذه القصة؟ ولماذا سقط اسم هذا الأعرابي الكريم الوفي سهواً من هذه القصة وهو البطل الحقيقي فيها وليس النعمان المريض نفسياً؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في الكويت، لا صوت يعلو على صوت "العفو" هذه الأيام، أمير الكويت، الشيخ نواف الأحمد الجابر الصباح، إنسان مخلص ومتسامح، فمنذ تسلّمه قيادة البلاد العام الماضي والناس تستبشر خيراً في عهده وتتطلع لمصالحة وطنية شاملة بعفو من سموّه على مجموعة من النواب والناشطين السياسيين وبعض المغردين، بعضهم في السجن، وآخرون طلبوا اللجوء السياسي في بلاد الغرب، وأشهرهم نواب ونشطاء غادروا البلاد إلى تركيا تجنّباً للسجن بأحكام في قضية اشتهرت بقضية دخول مجلس الأمة - كما يسمّونها، ويسمّيها خصومهم "اقتحام المجلس".
أدرك أمير الكويت بحكمته أن سجن أو هجرة أو لجوء أحد من أبناء شعبه يُعدّ نقيصة كبرى في حق بلاده الكويت، التي اشتهرت بالحريات والديمقراطية، فأصدر مرسوماً بالعفو عن بعض هؤلاء وما زال الأمل قائماً بمزيد من مراسيم العفو عن بقيتهم. تفاصيل هذا المرسوم -الذي صدر قبل ساعات من كتابة هذه الكلمات- ما زالت غير واضحة الآلية التنفيذية من قبل الحكومة، بالتالي فالصورة عندي وعند كثيرين ما زالت غامضة.
الشاهد أن الناس تتمنّى العفو اليوم ولم تدخل في تفاصيل الأحكام التي صدرت ضد السياسيين بموجب قوانين سنّها بعض النواب الموجودون في تركيا، فالمحاكم تحكم بموجب قانون، والقانون يشرّعه المشرعون- أي النواب بمجلس الأمة، وبعض هؤلاء النواب كان من أشد المتحمسين لسنّ قوانين تقمع الحريات وتعاقب أصحاب الرأي، طبعاً كل ذلك بذريعة حماية الدين والعقيدة والعادات والتقاليد إلخ. تسعى البرلمانات في العالم غالباً إلى سن قوانين تعزز الحريات، وتنتصر لحرية الرأي والتعبير، إلا في البرلمان الكويتي- للأسف الشديد، فمنذ هيمنة التيارات الدينية والمحافظة عليه، وهو يسنّ قوانين تقيّد الحريات وتحدّ من حرية التعبير، والمفارقة أن بعض هؤلاء قد اكتوى بنار تلك القوانين التي سنّها، وكأنما "جنت على نفسها براقش".
مراجعة تلك القوانين، كالتفكير في يومَي النعمان: البؤس والفرح! لماذا سنّهما لنفسه أصلاً كي يصل إلى ذلك اليوم الذي ألغاهما فيه؟ وكذلك بالنسبة إلى العفو بالكويت: ستتكرر المواجهات ذاتها بمطالب الحريات مع قوانين ما زالت قائمة، وما لم تُلغَ، فسيأتي اليوم الذي تسترحم الناس فيه أميرها من أجل العفو.
"فمَن عفا وأصلح فأجره على الله" (القرآن الكريم)، وقد عفا أمير الكويت وأجره على الله، ولكن هل تصلح الحكومة والبرلمان قوانين تقييد الحريات؟