ساعدت السياسات الحمائية في التعجيل بانهيار التجارة الدولية في ثلاثينيات القرن الماضي، وكان الانكماش التجاري بمثابة بذرة الحرب العالمية الثانية. واليوم، يهز الرئيس الأميركي دونالد ترمب أُسس التجارة العالمية بحرب تجارية، عبر فرضه رسوماً جمركية على منتجات أوروبية وصينية ومكسيكية وكندية، تقدّر بمليارات الدولارات، ما حدا بالدول المعنية إلى اعتماد مبدأ المعاملة بالمثل، وفرض رسوم جمركية على مئات السلع الأميركية. الحمائية بلا شك، آخذة في التصاعد، مدفوعة بتزايد الحواجز غير الجمركية في ظل تراجع الدعم الشعبي للعولمة.
مفاعيل اقتصادية
الحمائية المتزايدة، التي تنتهجها الدول لتعزيز صناعاتها المحلية وتحصينها من المنافسة الأجنبية عبر قيود التعريفات، أثّرت في النشاط الاقتصادي عبر مسارات عدة، مثل رفع رسوم الاستيراد المرتفعة في تكلفة التجارة، ما قد يغير كمية البضائع وأسعارها المتداولة دولياً، كما أن وجود سلاسل التوريد العالمية المعقدة للإنتاج يمكن أن يضاعف هذا التأثير، إضافة إلى ذلك يمكن أن تؤثر تكاليف التجارة المرتفعة في التدفقات المالية وشروط الائتمان، وقد يحدث هذا على سبيل المثال، إذا ما تعمّق الإحساس بعدم اليقين في السياسات التجارية المستقبلية، ما يقود إلى ضغوط مالية، وإعادة تقييم واسعة للمخاطر، إلى جانب أن ممارسات الأطراف في النزاع التجاري قد تكون لها تداعيات على النشاط الاقتصادي، بما في ذلك التوجهات الانتقامية للشركاء التجاريين وانحصار النزاع بين عدد محدود من البلدان، عوضاً عن تحوّله إلى حرب تجارية كاملة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تنامي وتيرة الحمائية يضر بطبيعة الحال بالانفتاح التجاري في ظل إجماع الاقتصاديين على المنافع الإجمالية للانفتاح، والحاجة إلى التخفيف من التأثير السلبي، الذي أحدثته الحمائية على فئات معينة. فالتجارة الحرة هي نقيض الحمائية، لأنها تدعم أقل مقدار ممكن من التعريفات، ما يمنح الناس حريّة شراء منتجات أرخص أو أفضل من أي مكان في العالم، وهو أمر مهم بالنسبة إلى الشركات، التي تحاول خفض تكاليفها، وتالياً خفض الأسعار، وهذان العاملان يعززان الاقتصاد العالمي.
تباطؤ النمو
ويرى "البنك المركزي الأوروبي" أن السياسات التجارية شهدت تحولاً كبيراً خلال العقد الماضي في ظل تلاشي التوجهات نحو التكامل الاقتصادي، الذي تميّزت به العقود السابقة، وهو ما يتضح في بطء وتيرة النمو التجاري، الذي شهدته اقتصادات العالم في الأعوام الأخيرة، بعدما توسّعت بنحو ضعف معدل الناتج المحلي الإجمالي العالمي في الأعوام، التي سبقت الأزمة المالية العالمية، وبالتالي هناك إجماعٌ متزايدٌ على أن تراجع نمو التجارة أصبح سمة دائمة للاقتصاد العالمي.
ويشكل تزايد الحمائية عاملاً إضافياً في انخفاض النشاط التجاري، فمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، اتّبعت التعريفات اتجاهاً تنازلياً استقر في كل من اقتصادات السوق المتقدمة والناشئة خلال الجزء الأول من القرن الـ21، قبل البدء في مسار تصاعدي، كالذي حدث في الأشهر الأخيرة.
وفي الوقت نفسه، زاد استخدام التدابير التنظيمية، مثل إعانات التصدير، والقيود المفروضة على التراخيص أو الاستثمار الأجنبي المباشر، والبنود المحلية في المشتريات العامة، ما حدا بـ"البنك المركزي الأوروبي" وGlobal Trade Alert (مؤسسة مستقلة تراقب السياسات التي من شأنها أن تؤثر في التجارة العالمية)، إلى التحذير من أن الحمائية تسببت على نحو ملحوظ بتشوّهات تجارية تتزايد تدريجياً على مستوى التجارة العالمية.
نتائج عكسية
المتابع مسار التجارة في العالم يلمس الآن انخفاض الدعم للانفتاح التجاري، في وقت ترتفع فيه الممارسات الحمائية على مستوى العالم. فيما أضيفت تصورات المخاطر المرتبطة بالتجارة المفتوحة إلى قائمة أوسع من المخاوف المتعلقة بالعولمة.
وخلصت دراسة أولية أجراها "مركز أبحاث السياسات الاقتصادية" في لندن CEPR إلى أن "حمائية ترمب لا تُؤتي ثمارها، إذ وجدت أنه خلال العام 2018، استجابت أسعار السلع المتأثرة بسرعة للتعريفة الجمركية، بزيادة تتراوح ما بين 10٪ و30٪. وتتطابق القفزة عن كثب مع مستويات التعريفة، ما يوحي بأن المشترين والمستهلكين والمستوردين الأميركيين استوعبوا الزيادة، وفي الوقت نفسه رفعت الشركات الأميركية أسعار سلعها، نظراً إلى ارتفاع أسعار منتجات منافسيها الأجانب. ومع ارتفاع الأسعار، انخفض الطلب على المنتجات الخاضعة للضريبة، وتراجعت القيمة الإجمالية للسلع المستوردة بنسبة تتفاوت ما بين 25٪ و30٪، كذلك انخفض التنوّع في أنواع السلع المصدّرة إلى الولايات المتحدة، ما يعني أن خيارات الشركات الأميركية والمستهلكين أصبحت أقل".
وحسب الباحثين دفع الأميركيون رسومات إلى حكومتهم حتى اليوم بقيمة 12.3 مليار دولار، وخسروا قرابة 6.9 مليارات دولار من إجمالي مداخيلهم بسبب اضطرابات السوق، نتيجة الحرب التجارية القائمة بين بلدهم والصين.
وفي المقابل، استجاب الشركاء التجاريون للولايات المتحدة بإدخال تعريفة خاصة بهم تضرب المصدّرين الأميركيين. وحوّلت الرسوم الجمركية نحو 2.4 مليارين دولار من الصادرات الأميركية، وقرابة 11.4 مليار دولار من الواردات شهرياً، ما يعادل 165 مليار دولار في السنة. وطبقاً للدراسة، إذا ما استمر فرض مزيد من التعريفات الجمركية، فمن المحتمل أن تعيد الشركات التفكير في سلاسل التوريد الخاصة بها، إلى جانب تزايد حال عدم اليقين المرتبط بالتعريفات الجمركية، الذي يضر بالأعمال.
تحذيرات "صندوق النقد"
الإيرادات، التي تجمعها الولايات المتحدة من فرض رسوم جمركية لا تكفي، حسب الدراسة، لتغطية الخسائر التي لحقت بالمستهلكين والشركات على حد سواء. حتى ولو حققت الحرب التجارية أهداف ترمب بالضغط على الصين لدفع مزيد من الإتاوات لحكومته، فإن تعزيز الوظائف في قطاع التصنيع سيكون عملية مكلفة.
وفي دراسة لـ"صندوق النقد الدولي" شملت الغالبية العظمى من البلدان المتقدمة والنامية في العالم، وراجعت نصف قرن من بيانات الاقتصاد الكلي، ورصدت ردود ستة متغيرات رئيسية، شملت الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي والإنتاجية ومعدل البطالة وسعر الصرف الحقيقي، والتوازن التجاري وعدم المساواة، وجدت الدراسة أن الزيادات الجمركية لها عواقب سلبية على الاقتصاد الكلي، وبالتالي تستحق معالجة آثارها من الناحية الاقتصادية اهتمام صنَّاع السياسات.
جوناثان د. أوستري نائب مدير "صندوق النقد الدولي"، أوضح أن تلك الدراسة "خرجت بحقيقة أن انخفاض إجمالي الناتج المحلي يحصل عقب ارتفاع التعريفات بسبب الانخفاض الكبير في إنتاجية العمل".
وأضاف أن "الشركات في القطاعات المنافسة للاستيراد تلمس الحمائية، عندما يُعيد تخصيص الموارد داخل الاقتصاد لاستخدامات غير منتجة نسبياً، ما يضر بالقيمة المضافة الناتجة من الاقتصاد، وهذا يعني أن الآثار المهدرة للحمائية تؤدي إلى انخفاض حقيقي في كفاءة استخدام العمل، وبالتالي انخفاض الإنتاج".
الحمائية والإنتاج
الدراسة لم ترصد تحسناً في الميزان التجاري بعد ارتفاع التعريفات ما يعكس بشكل معقول النتيجة التي وُصِلَ إليها، ومفادها أن "سعر الصرف الحقيقي يميل إلى الارتفاع نتيجة لارتفاع الرسوم".
ووجدت الدراسة أيضاً أن "الحمائية تؤدي إلى زيادة بسيطة في البطالة، في حين أن الزيادة في الرسوم الجمركية تعزز عدم المساواة".
وانتقد أوستري، استخدام التعريفات أداة للاقتصاد الكلي في الظروف الاقتصادية المزدهرة، وفي الاقتصادات المتقدمة، ورأى أن "الحمائية تضعف الاقتصاد الكلي".
ويقول "رغم وجود دعوات مناهضة للحمائية تُرصد من خلال الأدلة النظرية أو الاقتصادية الجزئية، فإن قضية الاقتصاد الكلي للتجارة الليبرالية قوية أيضاً. وفيما يبدو، إن الرسوم المرتفعة تؤدي إلى انخفاض الإنتاجية مع زيادة البطالة وعدم المساواة وترك الميزان التجاري بلا تغيير. نتائج الدراسة تتوافق تماماً مع الحكمة التقليدية من الاقتصاد القياسي، وتعزز قضية التجارة الحرة".
يُنظر اليوم إلى الأسواق المفتوحة والتنافسية على أنها تعزز الإنتاج عبر توجيه الموارد إلى إنتاجية أكبر، من جانب آخر تشجّع الزيادات في التعريفات الجمركية على انحراف التجارة عن مسار المنتجين وفتح الباب أمام أعمال التهريب.