ذهبتُ إلى فندق أوزو في مدينتي بنغازي، ما كان مقراً للصحافيين، وقد جاؤوا من كل أنحاء العالم، لتغطية أحداث الثورة الليبية. كنت رفقة الصديق الشاعر سالم العوكلي، وقد دفعني بيده، حيث لم أنتبه إلى رتل سيارات، الذي فجأة اندفع أمام الفندق. ونزل من سيارة عجولاً اللواء عبد الفتاح يونس، من كان وزير داخلية في حكومة القذافي، ثم انضم إلى الثورة في أيامها الأولى، ليكون بمثابة القائد العسكري للثوار.
لم أكن أعرف أنه جاء ليعقد مؤتمراً صحافياً، حتى غصّت قاعة الفندق الرئيسة بالصحافيين. ثم سمعته عبر الميكرفون يصرخ: "حلف الناتو أو التحالف الدولي، ما جاء لنصرة المدنيين، يضربنا بنيرانه الصديقة، إني أتهمه بأنه يعمل من أجل إطالة عمر النظام الذي تهاوى، بالتالي المزيد من معاناة الليبيين". أو هكذا قال اللواء عبد الفتاح يونس، في آخر مؤتمر صحافي له، حيث اغتيل في الـ 28 من يوليو (تموز) 2011، وحتى الساعة لم تُعرف ملابسات قتله. لكن الصحيفة الإيطالية الشهيرة: "الكوليرا ديلا سيرا"، ذكرت بعد أيام من مقتله أن المخابرات الإيطالية هي من قامت بتصفيته! وفي خضم الربيع العربي، ذهبت أشياء كثيرة، وقتل كثر، ودفنت حقائق جمة.
هذا ما تداعى في الذاكرة من دون أي دوافع مسبقة لمّا كنت أتابع المؤتمر الصحافي، ما عقد عقب ختام مؤتمر باريس حول ليبيا، الجمعة 12 نوفمبر (تشرين الثاني) 2021. المؤتمر الصحافي عقدهُ رؤساء مؤتمر باريس: الرئيس الفرنسي ماكرون، والمستشارة الألمانية ميركل، ورئيس الوزراء الإيطالي دراجي، وعن ليبيا رئيسان: دولة رئيس مجلس الرئاسة المنفي، ودولة رئيس مجلس الوزراء دبيبة.
سأل صحافي إيطالي الرئيس دراجي: هل إيطاليا وفرنسا تجاوزتا خلافاتهما حول ليبيا؟ فأجاب: إنه بالنسبة للمؤتمر غير متفق معه على موعد الانتخابات، لأن هناك استحقاقات قانونية لازمة لم تنجز بعد. فيما صحافي ليبي سأل الرئيس دبيبة، هل سيسلم السلطة بعد إنجاز الانتخابات؟ فأجاب: إذا كانت انتخابات نزيهة وقانونية، أو كما قال.
وبهذا اتفق كل من دراجي ودبيبة في تحفظهما. وعليه اختلفا مع الرئيس ماكرون والرئيس المنفي، على قيام الانتخابات في موعدها، ومن دون أن يبديا أية تحرزات.
أمّا السيدة المستشارة، فكانت بمثابة طرف ثالث، أو كما شاهد لم يشاهد شيئاً. وعلى الهامش، كان رئيس المجلس الأعلى الليبي، من هو بمثابة سفير تركي في ليبيا، قد صرح: أن تركيا وإيطاليا غير موافقتين على موعد الانتخابات الليبية 24 ديسمبر 2021.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مؤتمر باريس هذا ما تمخض عن فأر، لم يكن الأول ولا الأخير، فالمسألة الليبية، أصبحت مسألة دولية منذ 12 مارس (آذار) 2011، عقب صدور قرار مجلس الأمن 1973. ثم بدأ سلسال المؤتمرات منذ ذاك، فعقد في عام 2011 مؤتمر في لندن وآخر في باريس، وحاولت إيطاليا عقد مؤتمر غير أنها فشلت! ومن ذاك تعددت المؤتمرات، والعواصم التي عقدت فيها، حتى باتت المسألة الليبية تنافس المسألة الفلسطينية كمسألة دولية، وكما فلسطين كانت ليبيا تحصد الحنظل من هكذا اهتمام.
الملاحظ والمتابع يستغرب هذا التركيز في الاهتمام الدولي، فالتداعك على عقد المؤتمرات حول المسألة الليبية، ما لا تختلف كثيراً عن أخواتها في الربيع العربي، بل ثمة أقوال ليست بالقليلة، في التقليل من أهمية ليبيا الاستراتيجية، والثروات الليبية النفطية.
بالتالي هذه الحظوة الإقليمية والدولية غير مبررة، أو كما يطرح إعلامياً على الأقل، ثم إن الأمر يبدو كجعجعة من دون طحين، فقد مرّ عقد من الزمان، لم يتغير حال ليبيا فيه كثيراً. والمهتم بالمسألة الليبية الموضوعي، سيجد ليبيا منذ انقلاب 1969 على الهامش، لكنها في قلب العالم في الوقت نفسه، فالقذافي كان صداعاً، لم تنفع معه أنواع المسكنات المعروفة، ولهذا كان سقوطه مدوياً، تكتب حوله الروايات والسيناريوهات.
وليكتمل سيناريو فيلم باريس، الجزء الثالث، ظهر على الشاشة العاجلة القذافي الابن، في مشهد هوليوودي، فهو كان مختفياً، وتأتي به الأخبار من خلف حجاب. ثم بغتة في سبها بقلب الصحراء الليبية بدا كما زعيم طالباني، متدثراً عباءة وغطاء رأس، وملتحياً يقرأ آية قرآنية. وهو ويوقع على أوراق الانتخابات الليبية، باعتباره مرشحاً للرئاسة، من هو مطلوب حتى الساعة، من المحكمة الجنائية الدولية كمجرم حرب، ومحكوم من محكمة ليبية بالإعدام.
فهل يمكن في المشهد السريالي الليبي أن يعتبر هذا ما تمخض عنه مؤتمر باريس. فقد تفاقمت نتائج باريس، فصدح دبيبة: إن الانتخابات، ما مُزمع إقامتها في 24 ديسمبر 2021، غير قانونية، وبحرف لسانه "معيبة". مردداً عبارة رئيس المجلس الأعلى. فيما المفتي الليبي من إسطنبول، طالب بإيقاف الانتخابات، تحت صليل الرصاص.
وهكذا الانتخابات كما المسألة الليبية، السهل الممتنع، فقد تصدق باريس، من دون خبر يقين، فتكون الانتخابات الليبية في موعدها 24 ديسمبر 2021، وقد تصدق باريس أيضاً فلا تكون ثمة انتخابات. وهذا في الحقيقة ما تمخض عنه مؤتمر باريس، ما ليس عندها الخبر اليقين، فهي باريس وليست جهينة!