بحلول 2022، ستكون تركيا قد دخلت في الأجواء الانتخابية بالكامل، ويصر الرئيس رجب طيب أردوغان على إجراء الانتخابات في موعدها، أي صيف 2023. لكن أحزاب المعارضة، من جانبها، تطالب كل يوم بإجراء انتخابات مبكرة.
وسواء جرى ذلك في وقت مبكر أو في الوقت المحدد، فإن حكومة حزب العدالة والتنمية ستتخذ جميع خطواتها بعد الآن، في إطار استراتيجية "الاقتصاد الانتخابي".
وفي الأيام المقبلة، سيسمع الجمهور مراراً وتكراراً من أردوغان قائمة طويلة من الوعود الوردية، على رأسها تصنيع السيارات المحلية، والطائرات المحلية، والدبابات المحلية، وحقول الغاز المكتشفة حديثاً، والوعود الاستثمارية من الشركات العالمية.
ومن المؤكد أن خطوات أردوغان لن تؤدي إلى تعافي الاقتصاد بأي حال من الأحوال. وحتى لو أراد ذلك فلن يستطيع تحقيقها. وكل ما يرمي إليه هو محاولة شرح هذا الفشل الاقتصادي للجماهير قبل الخوض في الانتخابات. تُرى هل سيستطيع أردوغان شرح هذه الأزمة الاقتصادية للجمهور؟
في السنوات الخمس عشرة الأولى من حكم حزب العدالة والتنمية لم يتغير وزير المالية سوى ثلاث مرات فقط. بينما في السنوات الثلاث الماضية، اضطر إلى تغيير ثلاثة وزراء مالية. كما أنه في السنوات الخمس عشرة الأولى، تولى ثلاثة من محافظي البنوك المركزية المسؤولية، في حين أنه في السنوات الثلاث الماضية، جرى تغيير أربعة محافظين للبنك المركزي، وأيضاً فقدت الليرة التركية 83 في المئة من قيمتها مقابل الدولار في الأيام العشرة الماضية. فكيف يمكنه التستر عليها؟
أردوغان غير قادر على استعادة الاقتصاد والسيطرة على فقدان الثقة به، الذي لا يزال في تدهور وانخفاض. وأصبح الأمر كما يقول المثل العربي: اتسع الخرق على الراقع!
دعونا نُلقي نظرة على الاقتصاد التركي من خلال البيانات التي تنشرها الدولة نفسها. فبحسب تلك البيانات ارتفع معدل التضخم الاستهلاكي في البلاد إلى 20 في المئة، وتضخُّم المنتجين إلى 46 في المئة.
صحيح أن التضخم آخذ في الارتفاع في جميع أنحاء العالم، لكنهم يرفعون أسعار الفائدة كإجراء وقائي لحماية عملاتهم المحلية، أما في تركيا فقد نشأ مناخ من الفوضى العميقة عن طريق خفض أسعار الفائدة بهذا المستوى.
ويمكننا مراقبة انعدام الثقة لدى المواطن من خلال بيانات كل من مؤشر ثقة المستهلك (TGE) التي تُنشر كل شهر، ومن الاندفاع للهروب من الليرة التركية واللجوء إلى العملات الأجنبية. إذ انخفض مؤشر ثقة المستهلك، الذي ينشر شهرياً منذ عام 2004 من قبل معهد الإحصاء التركي، ويشارك فيه البنك المركزي أيضاً، بمقدار 7.3 نقطة في نوفمبر (تشرين الثاني) مقارنة بالشهر السابق، وهو الأسوأ منذ 2004.
بمعنى آخر، حتى المؤسسة التابعة للرئيس رجب طيب أردوغان تكشف لنا عن مدى تدني أداء حكومة حزب العدالة والتنمية، وذلك من خلال البيانات التي تشير إلى أنها شهدت أسوأ ركود اقتصادي في تاريخها، وهذه البيانات حديثة ومحدثة ومتاحة على موقع الوزارة على شبكة الإنترنت.
ويبلغ مقدار العينات الخاضعة لهذا المسح الشهري للاتجاهات الاستهلاكية 4884 أسرة. ويجري تقييم مؤشر ثقة المستهلك، المحسوب من نتائج الدراسة الاستقصائية، في حدود 0-200.
والقاعدة هي أنه إذا كان مؤشر ثقة المستهلك أكبر من 100، فهذا يشير إلى التفاؤل في ثقة المستهلك، وإذا كان أقل من 100 فيشير إلى تدني ثقة المستهلك وتشاؤمه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي ضوء ذلك، نرى أنه في النصف الأول من عام 2004، أي في العام الثاني لتولي حزب العدالة والتنمية سلطة البلاد، كان مؤشر ثقة المستهلك دائماً فوق 100، وفي الأشهر التالية كان يقاس بما يقرب من 100، إن لم يكن أكثر من 100.
بينما في نوفمبر 2021، انخفض إلى 71، وهو أدنى مستوى بين جميع الأشهر. والهبوط، الذي كان أعلى من سبع نقاط مقارنة بالشهر السابق، لافت للنظر. فقد كان هذا هو أدنى تصنيف لثقة المستهلك شهده أردوغان في حياته السياسية بأكملها.
ويكشف مؤشر الثقة، الذي يعتبر "مؤشراً رسمياً" على الثقة بأردوغان، بخاصة الثقة الاقتصادية، أن توقعات المستهلك، الذي هو أيضاً من الناخبين، تتدهور بسرعة. ومما يزيد هذا "المسح الحكومي" أهمية وخطورة اعتبارُه من أهم المؤشرات في وصف الوضع السياسي لأردوغان.
ومن المؤشرات المهمة الأخرى على تآكل الثقة، الهروب من العملة المحلية (الليرة التركية) والاتجاه نحو الأجنبية. هذه العملية، التي تسمى باختصار "الدَّوْلرة"، تتسارع بخطى واسعة. وبالأخص بسبب رفض أردوغان رفع معدل الفوائد من قِبل البنك المركزي، الذي من شأنه أن يخفف الهروب من الليرة التركية، بالتالي يخفض من التوجه نحو العملة الأجنبية.
يشعر أردوغان بالقلق من أن تؤدي زيادة أسعار الفائدة على الليرة التركية إلى ركود في الاقتصاد فترة من الوقت، ويتسبب في استياء الناخبين من هذا الركود.
لذلك، يغض أردوغان النظر عن ارتفاع التضخم، والتوجه إلى النقد الأجنبي الناجم عنه، لأنه يراهن على أن يؤدي خفض أسعار الفائدة إلى تلبية طلبات القروض الرخيصة والانتعاش الذي سيجلب رضا الناخبين ولو بصورة مؤقتة.
لكن، خاب ظنه في ذلك، فأدى خفض أسعار الفائدة على الرغم من التضخم إلى مزيدٍ من انهيار الثقة في الليرة التركية. بالتالي انهارت النظرية التي أصر أردوغان عليها بأن "التضخم هو نتيجة الفائدة"، مناقضاً بذلك جميع المعايير الاقتصادية العالمية.
لا يؤدي هذا الإصرار إلى زيادة انعدام الثقة في تركيا فحسب، بل يزيد أيضاً من صعوبة إدارة البلاد. وأصبح الرأي العام التركي يؤيد أكثر من أي وقت مضى الفكرة القائلة إن المشكلة تتطلب الآن تغييراً سياسياً، وانتخابات مبكرة أو حتى عاجلة بدلاً من أي تدابير اقتصادية فحسب.
اسمحوا لي أن أنهي حديثي ببيان أدلى به زعيم المعارضة الرئيسة كمال كيليجدار أوغلو مخاطباً الرئيس أردوغان "لقد أصبحتَ من الآن فصاعداً، مشكلة أمن قومي أساسية لجمهورية تركيا".