Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

لبنان العالق في عنق زجاجة الأزمات

فخامة القاضي ووباء السلطة ووطن بلا ميناء خلاص

يواجه لبنان الأزمة المصيرية الأخطر في تاريخه (رويترز)

لم يكن ليل 18 فبراير (شباط) 2021، عادياً في لبنان. ستة أشهر كانت مضت على انفجار العنبر رقم 12 في مرفأ بيروت في 4 أغسطس (آب) 2020 الذي دمر ميناء المدينة وأحياء واسعة منها، وقتل نحو 215 شخصاً وجرح نحو ستة آلاف وهجّر نحو 300 ألف من منازلهم المتضررة، ودمر السلطة القائمة التي بدت عاجزة عن إدارة الأزمات الكثيرة التي غرقت فيها منذ بدأت ثورة 17 أكتوبر (تشرين الأول) 2019.

كانت وزيرة العدل في الحكومة السابقة، ماري كلود نجم، تبحث عن تعيين محقق عدلي جديد بعد كف يد المحقق العدلي الأول، القاضي فادي صوان، ورغبته الشخصية بترك الملف نتيجة تهديدات تلقاها. تحت ضغط تحركات أهالي ضحايا التفجير الكبير، أعادت الوزيرة تصويب بوصلة الخيار نحو القاضي طارق البيطار. تواصلت الاجتماعات ذلك الليل. كان البيطار قد رفض في أغسطس 2019 أن يتولى هذه المهمة بعدما أحال مجلس الوزراء تلك الجريمة إلى المجلس العدلي، ولكنه هذه المرة وافق على الرغم من معرفته بخطورة القضية التي يتسلمها. وافق مجلس القضاء الأعلى على التكليف، فصدر القرار في اليوم التالي، في 19 فبراير.

كانت الباخرة "روسوس" المحملة بنحو 2750 طناً من نيترات الأمونيوم قد دخلت بطريقة مشبوهة إلى مرفأ بيروت، في 21 نوفمبر (تشرين الثاني) 2013، وأُفرغت حمولتها الشديدة الخطورة في أكتوبر 2014. بين دخولها وتفريغها، كان لبنان يدخل عهد الفراغ في السلطة مع انتهاء عهد رئيس الجمهورية ميشال سليمان، وتشكيل حكومة الرئيس تمام سلام التي تسلمت إدارة الفراغ. بعد سبعة أعوام، يواجه لبنان الفراغ من جديد. سلسلة من الأزمات تنسل في الليل والنهار لتضع البلد أمام أخطر أزمة مصيرية في تاريخه، بينما يستمر التحقيق في قضية تفجير مرفأ بيروت محل خلاف سياسي كبير كاد أيضاً أن يفجر البلد. إنه خلاف يصل إلى حد الانشقاق، إذ يتم البحث في تغيير المحقق العدلي بينما البلد عاجز عن عبور المرحلة التي يتهددها الفراغ في الحكومة ورئاسة الجمهورية ومجلس النواب. خطورة هذه المسألة تكمن في أن اسم المحقق العدلي يكاد يوازي أو يتفوق على اسم رئيس الجمهورية الجديد مثلاً. صار طارق البيطار بمثابة فخامة القاضي الذي يعلو على فخامة الرئاسة، ويتعلق مصيره بمصير الجمهورية والدولة التي تتحلل وتتفكك في ظل أزمات كثيرة عالقة لا حل لها ولا أفق لهذا الحل بعد. بقدر ما حكي عنه، وبسبب جرأته في الادعاء على رئيس الحكومة السابق وثلاثة نواب ووزير سابق، وبسبب تصدي الأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصر الله له ومطالبته بتغييره وتعطيل مجلس الوزراء حتى يتم هذا الأمر، يمكن أن يكون شخصية العام في لبنان.

التحقيق وطريق البحث عن رئيس

عندما تجرأ القاضي السابق فادي صوان على توسيع دائرة الاتهامات والشك والادعاء لتشمل رئيس الحكومة السابق حسان دياب والنائبين علي حسن خليل وغازي زعيتر من حركة "أمل" والوزير السابق يوسف فنيانوس من تيار "المردة"، وكلهم من الحلفاء لـ "حزب الله"، تعرض للتشكيك والطعن بمناقبيته وادعى خليل وزعيتر عليه بالارتياب المشروع، وطلبا كف يده ورده قبل نهاية عام 2020. تجمد التحقيق وتجمدت الجمهورية في ظل حكومة تصريف أعمال لا تعمل، وفي ظل تحركات شعبية كانت تستكمل حركة 17 أكتوبر، وفي ظل انهيار اقتصادي ومالي وإداري وأمني وتفلت اجتماعي وسوء إدارة الحرب الصحية ضد وباء كورونا، بحيث ضاعت السلطة بين الإقفال العام وفتح البلد على المجهول، بينما كان الناس يموتون على أبواب المستشفيات التي عجزت عن استيعاب الأعداد المتزايدة من المصابين. في ظل تلك الأزمة، بدا أن لبنان الدولة مصاب بوباء كبير لا شفاء منه ولا مناعة داخلية عنده لمواجهته. في ظل ذلك الانهيار الكبير، بدا وكأن تعيين القاضي طارق البيطار يكاد يكون فسحة الأمل الوحيدة أو الضوء الخفيف في داخل نفق طويل لا تعرف نهايته.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

منذ بدأت ثورة 17 أكتوبر، فُقِد التوازن الداخلي الذي بدا لوهلة أنه ممكن مع انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية في 31 أكتوبر 2016. بعد خمسة أعوام، بدا كأن العكس هو ما حصل. التسوية الرئاسية التي وضعت رئيس الحكومة سعد الحريري في خانة التحالف مع العهد ورئيس التيار "الوطني الحر" جبران باسيل انهارت. في 29 أكتوبر 2019، كان الحريري مضطراً إلى الاستقالة تحت ضغط الشارع، وذلك خلافاً لرغبة الرئيس عون وباسيل و"حزب الله"، الذين تمسكوا به، وحاولوا إعادة تسميته لتشكيل حكومة جديدة، ولكن المحاولة فشلت. لذلك، اختاروا أن يكون حسان دياب رئيساً لحكومة يعينون له وزراءها، فتشكلت في 19 ديسمبر (كانون الأول) 2019.

في 10 أغسطس 2020، تحت ضغط عصف انفجار مرفأ بيروت، استقال دياب ودخلت حكومته مرحلة تصريف الأعمال. بدأ البحث عن حكومة جديدة وعن رئيس لها يقبل التكليف في ظل هذه الكارثة المستمرة والعالقة. تريث الحريري، فتمت تسمية السفير مصطفى أديب في 30 أغسطس 2020. ولكن، بعد اشتراط الثنائي الشيعي، حركة "أمل" و"حزب الله"، تسمية الوزراء الشيعة، وأن تكون لهما وزراة المالية، تعقدت عملية التأليف، فاعتذر أديب في 26 سبتمبر (أيلول).

سمير الخطيب ومحمد الصفدي وبهيج طبارة... أسماء سقطت على طريق البحث عن رئيس حكومة. في 22 أكتوبر 2020، بعد عام كامل على استقالته، عاد الحريري رئيساً مكلفاً بعدما اعتبر أنه مرشح طبيعي حكماً لهذا المنصب. لم يكن رئيس الجمهورية مع هذا الخيار. قبل أن يدعو إلى الاستشارات النيابية، وجه رسالة إلى البرلمان يحمله فيها مسؤولية الاختيار. قدم الحريري تشكيلته فرفضها الرئيس. اعتصم الحريري بالتمسك بموقفه، وتمسك عون برفضه. في 15 يوليو (تموز) 2021، التقى الحريري عون في قصر بعبدا. قال له عون "لن نتمكن من التوافق". رفض الحريري إدخال تعديلات على تشكيلته، وخرج ليعلن اعتذاره عن الاستمرار في تأليف الحكومة، قائلاً "الله يعين البلد"... عادت الأزمة إلى ما تحت الصفر.

تكليف ميقاتي والملفات العالقة

في 26 يوليو، تم تكليف الرئيس نجيب ميقاتي تشكيل الحكومة، فشكلها مع الرئيس عون في 10 سبتمبر. حكومة "معاً للإنقاذ" لم تستطع أن تنقذ نفسها من السقوط. في 12 أكتوبر، تحدى وزير الثقافة محمد المرتضى رئيسي الجمهورية والحكومة وطلب "قبع" القاضي طارق البيطار مهدداً بالوقوف في وجه قراراته في الشارع. قبل أيام، كان الأمين العام لـ "حزب الله" اتهم القاضي البيطار بالتسييس والانحياز، وبأنه ضالع في مؤامرة لضرب "حزب الله" واتهامه بتفجير المرفأ قبل موعد الانتخابات النيابية في الربيع المقبل. قبل نصر الله، كان رئيس وحدة التنسيق والارتباط في "حزب الله" وفيق صفا قد زار قصر العدل في بيروت، ووجه رسالة تهديد إلى القاضي البيطار، ولكن القاضي لم ينصَع وبقي مصمماً على متابعة مهمته. عندما تمّت تسميته لهذه المنصب، في 19 فبراير، اعتقد كثيرون أنه سيخاف. أعطى لنفسه مهلة ثلاثة أشهر للاطلاع على الملف الكبير، وتابع من حيث انتهى سلفه بتأكيد الادعاء على دياب وخليل وزعيتر وفنيانوس، وأضاف النائب نهاد المشنوق إلى اللائحة. عندما فشلت محاولة تغييره في مجلس الوزراء نظم "حزب الله" وحركة "أمل" تظاهرة إلى قصر العدل في 14 أكتوبر. دخلت كوكبة من هذه التظاهرة إلى أحد شوارع عين الرمانة في ضاحية بيروت الشرقية، وقامت بأعمال شغب وفوضى. ما أدى إلى إشكال مع عدد من أهالي المنطقة وإلى تدخل الجيش اللبناني لإعادة فرض الأمن بعد سقوط عدد من القتلى. فأضيف هذا الملف إلى الملفات العالقة والمعلِّقة للأزمة الكبيرة.

رئيس جمهورية ينتظر نهاية ولايته بعد عام ولا يرفض أن يمدِّد له مجلس النواب.

مجلس نواب ينتظر نهاية ولايته بعد خمسة أشهر، ولا يعرف إذا ما كانت ستحصل انتخابات نيابية يراهن عليها العالم كله من أجل إحداث تغيير في التركيبة السياسية الممسكة بالسلطة.

حكومة موجودة لا تستقيل ولكنها لا تجتمع.

غلاء فاحش وهبوط قياسي لسعر صرف الليرة.

موجة جديدة من تفشي وباء كورونا.

لبنانيون يبحثون عن ربطة خبز وحبة دواء وليتر بنزين أو مازوت في بلد بدأ يفقد مقومات الحياة بكرامة، بينما من يتولون الحكم يبحثون عن البقاء في السلطة.

في ظل هذا الانهيار، شكل القاضي طارق البيطار فسحة أمل. ولكن، رفضاً للتحقيق، هناك من يريد أن يقتل هذا الأمل.

في 4 ديسمبر، التقى في المملكة العربية السعودية الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان. نتيجة اللقاء كانت إعلاناً مشتركاً يتعلق بتطبيق القرارات الدولية 1559 و1680 و1701 المطالبة ببسط سلطة الدولة اللبنانية على كامل أراضيها وسحب السلاح غير الشرعي كمدخل لاستعادة العلاقات بين المملكة ولبنان. وجرى اتصال هاتفي بين ماكرون وابن سلمان وميقاتي. كان وزير الإعلام جورج قرداحي قد فجر هذه العلاقة بعد كلام قاله في برنامج تلفزيوني اعتبر فيه أن الحرب في اليمن عبثية، وأدى إلى قطع العلاقات الدبلوماسية. عندما استقال قرداحي قبل زيارة ماكرون إلى المملكة ساد اعتقاد بأنه الوقت المناسب لاستعادة العلاقات. ولكن، يبدو أن الطريق طويل، وأن الأزمة اللبنانية ستمتد إلى عام جديد تتخلله انتخابات نيابية ورئاسية وتغييرات حكومية ترتسم حولها علامات استفهام كثيرة، إذا لم يتم تغيير القاضي البيطار.

المزيد من تقارير