ترجح مؤشرات وتحليلات عدة لمراقبين في واشنطن أن حالة تدهور الديمقراطية والانقسام في المجتمع الأميركي بين المحافظين الجمهوريين من جانب والليبراليين الديمقراطيين من جانب آخر، ستتصاعد خلال عام 2022 بسبب عوامل عدة، أبرزها أن كل طرف ينظر إلى الآخر على أنه "عدو" وليس منافساً سياسياً، كما أن العام المقبل الذي تجرى في نهايته انتخابات التجديد النصفي للكونغرس، سيكون عاملاً محفزاً لتأجيج الصراع بين الطرفين.
تراجع 11 نقطة
ولم يكن تقرير منظمة "فريدوم هاوس" الذي أشار إلى تآكل الديمقراطية الأميركية خلال العام الحالي، وخفّض درجة الحرية في الولايات المتحدة 11 نقطة، سوى أحد الملامح المثيرة للقلق حول مستقبل الديمقراطية في أقوى بلد في العالم وأحد أكبر حصون الديمقراطية، وهي صورة تعززت بشدة خلال هجوم 6 يناير (كانون الثاني) الماضي على مبنى الكابيتول الأميركي، من قبل أنصار الرئيس السابق دونالد ترمب لإلغاء الانتخابات الرئاسية لعام 2020 بناءً على مزاعم كاذبة بحدوث تزوير.
وما يفاقم من مشاعر القلق على الديمقراطية خلال العام المقبل على الأقل، هو أن استطلاعات الرأي التي أُجريت قبل أسابيع قليلة، أي بعد نحو عام من الانتخابات الرئاسية الأخيرة، تشير إلى أن حوالى 70 في المئة من الناخبين الجمهوريين، و30 في المئة من الناخبين بشكل عام، يعتقدون أن الرئيس جو بايدن لم يتم انتخابه بشكل شرعي، على الرغم من كل الأدلة التي تكشفت بعد الانتخابات وأكدت شرعيتها.
تقويض الديمقراطية
وبحسب "فريدوم هاوس"، فإن صمت المشرعين الجمهوريين على تصرفات ترمب، من تشجيع المتطرفين العنصريين واليمينيين وعنف الشرطة ضد المتظاهرين المنادين بالعدالة العرقية خلال الصيف الماضي، وسعيه علانية إلى إلغاء خسارته في صناديق الاقتراع، قوض المبادئ الديمقراطية الأساسية، وأكد الاختلالات المنهجية التي تعانيها، وجعل الديمقراطية الأميركية تبدو غير مستقرة، غير أن محاولة ترمب قلب إرادة الناخبين الأميركيين كانت أكثر الأعمال تدميراً. وأدى تكرار مزاعمه من دون دليل أن النظام الانتخابي مهترئ وفاسد بسبب التزوير، إلى بث الشك بين قطاع كبير من السكان. وأسهم تدعيم بعض المسؤولين المنتخبين من حزبه، هذه الادعاءات، في زعزعة أسس الديمقراطية وتهديد التداول المنظَم والسلمي للسلطة. لكن الديمقراطية الأميركية لا تزال في حاجة إلى كثير من الجهد لإعادة بناء المصداقية، وحشد الدعم لتقوية المؤسسات بما يكفي للنجاة من هجوم آخر، وحماية النظام الانتخابي من التدخل الأجنبي والمحلي، ومعالجة الجذور الهيكلية للتطرف والاستقطاب، ودعم حقوق وحريات جميع المواطنين، وهي عناصر متعددة لم تظهر على السطح حتى الآن، محاولات جادة لتفعيلها.
الانقسام يتسع
ومع استمرار انتشار المعلومات المضللة التي تنقلها وسائل التواصل الاجتماعي ونظريات المؤامرة، يبدو أن الانقسام السياسي في الولايات المتحدة، آخذ في الاتساع قبل انتخابات التجديد النصفي للكونغرس المقررة في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2022، حيث يرى كل جانب الطرف الآخر ليس كمنافس سياسي، ولكن كعدو حيث ينظر عدد مقلق من الأميركيين الآن إلى العنف على أنه مقبول، بما في ذلك، ما يقرب من ثلث الجمهوريين، فوفق استطلاعات الرأي التي أُجريت خلال الشهرين الأخيرين، قال واحد من كل خمسة أو 18 في المئة من المستطلَعين، بما في ذلك 30 في المئة من الجمهوريين، 11 في المئة من الديمقراطيين، و17 في المئة من المستقلين، إنهم يتفقون مع أن الأمور خرجت عن مسارها، وقد يضطر الوطنيون الأميركيون الحقيقيون إلى اللجوء إلى العنف من أجل إنقاذ الوطن.
ويشير علماء الاجتماع إلى أن هذه الردود، توضح الاستقطاب الكبير والمتزايد بسرعة في الولايات المتحدة، حيث عبر مارك بيتكافيدج، الباحث البارز في مركز التطرف التابع لرابطة مكافحة التشهير، عن انزعاجه من هذه النتيجة، مشيراً إلى أن العنف السياسي في أميركا يأتي تقليدياً من أطراف المجتمع، لكن كلما أصبح المجتمع أكثر استقطاباً، زادت فرصة أن يأتي العنف السياسي من أناس غاضبين ومضطربين، محذراً من أن "السيناريو الكابوس هو أن هذا الاستقطاب سيستمر، وسيكون هناك مزيد من الحالات التي يمكن أن يتراوح فيها عنف الغوغاء من الأعمال الفردية، إلى الأشخاص الذين ينظمون ويرتكبون أعمالاً إرهابية".
ويبدو أن وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، ما زالت تشكل آراء ومواقف الأميركيين إلى حد بعيد، وهو ما تظهره نتائج استطلاعات الرأي، والتي أشارت إلى وجود علاقة واضحة بين آراء الناس ومصادر الأخبار المفضلة لديهم، فمن بين الجمهوريين الذين يثقون بمصادر الأخبار اليمينية أكثر من المنافذ الأخرى، قال 82 في المئة، إنهم يعتقدون أن الانتخابات سُرقت من ترمب، كما أن العناصر اليسارية المتشددة بين الديمقراطيين التي تستمد معلوماتها من وسائل إعلام أكثر يسارية، تتخذ مواقف سياسية أكثر تطرفاً حيال الجمهوريين.
توترات انتخابية
غير أن أكثر ما يثير القلق الآن في الولايات المتحدة، هو أن يؤدي التلاعب في تقسيم الدوائر الانتخابية وقوانين الانتخابات الجديدة في تسع عشرة ولاية على الأقل، إلى مزيد من الاستقطاب والتوترات السياسية والطائفية، بحسبما يقول تقرير للمجلس الأطلسي، مع اقتراب انتخابات التجديد النصفي للكونغرس والتي يتهيأ الحزب الجمهوري إلى استعادة سيطرته على مجلسي النواب والشيوخ، من خلال سيطرته على العديد من الهيئات التشريعية في الولايات والتي يمكن أن تحدد نتائج الانتخابات بدلاً من الأمناء العامين في الولايات الذين كانت لهم اليد العليا في الانتخابات السابقة.
ووفقاً لمركز الولايات المتحدة للديمقراطية، وهو منظمة جديدة من الحزبَين تهدف إلى حماية المعايير الديمقراطية، إذ قدم الجمهوريون 216 مشروع قانون على الأقل في 41 ولاية لمنح الهيئات التشريعية التي يسيطرون عليها مزيداً من السلطة على مسؤولي الانتخابات. كما أوضح مركز برينان للعدالة، أن 19 ولاية ذات أغلبية جمهورية، سنّت قوانين مقيدة للتصويت في الانتخابات ذات تأثيرات مختلفة، من بينها جعل التصويت عبر البريد والتصويت المبكر أكثر صعوبة، وفرض متطلبات أكثر صرامة بشأن هوية الناخب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفرضت القوانين المقيدة في أربع ولايات هي جورجيا وأيوا وكانساس وتكساس، عقوبات جنائية جديدة أو أكثر صرامة على مسؤولي الانتخابات أو غيرهم من الأفراد، إذا انخرطوا في توزيع المياه أو الوجبات الخفيفة على الناخبين المنتظرين في طابور الاقتراع أو ساعدوا ذوي الإعاقة، وفي المقابل، سنت 25 ولاية أخرى، جمهورية وديمقراطية، 62 قانوناً تتضمن أحكاماً توسع وتيسر عمليات التصويت.
تدمير الديمقراطية
وبحسب صحيفة "نيويورك تايمز"، فإن هذه المناورات تخاطر بتقويض عمليات التدقيق والفحص للإجراءات الانتخابية والتي كانت بمثابة حصن ضد الرئيس السابق دونالد ترمب بينما كان يسعى لتقويض نتائج انتخابات 2020. ويبدي الديمقراطيون قلقهم من أن مؤيدي نظريات المؤامرة من أنصار ترمب سيكون لديهم قريباً سيطرة أكبر على أدوات نظام الانتخابات الأميركية، ما قد يدمر الديمقراطية في الولايات المتحدة، بحسبما قالت جينا غريسوولد، رئيسة الجمعية الديمقراطية لأمناء الولايات.
وعلى الرغم من أن الكونغرس يتمتع بسلطة حماية الناخبين الأميركيين من أنواع القيود التي تم سنها في الولايات حتى الآن، وطَرح قانون حرية التصويت في مجلس الشيوخ والذي يشمل حزمة شاملة من الإصلاحات وإعادة تقسيم الدوائر وتمويل الحملات الانتخابية، فضلاً عن إقرار قانون جون لويس لتعزيز حقوق التصويت في مجلس النواب، لمنع تنفيذ التغييرات في قواعد التصويت، إلا أن مشروعَي القانون يواجهان عراقيل ضخمة، ويُرجَّح ألا يبصرا النور إلا إذا تم إلغاء آلية التعطيل في مجلس الشيوخ التي تتطلب موافقة 60 عضواً في المجلس، وهو أمر لا يوافق عليه بعض الديمقراطيين.
حروب ترسيم الدوائر
ومن بين أكثر القضايا المثيرة للخلاف والانقسام بين الجمهوريين والديمقراطيين، هو سعي الجمهوريين للاستفادة من سيطرتهم على المجالس التشريعية في غالبية الولايات من أجل إعادة رسم الدوائر الانتخابية بما يخدم مصالحهم الانتخابية، وهي عملية تجري كل عشر سنوات عقب الانتهاء من الإحصاء السكاني الرسمي، ومن المرجح أن يؤدي استمرار التلاعب في الدوائر الانتخابية، الذي نفذه كلا الحزبين، إلى تشويه أكثر تطرفاً للهندسة السياسية الأميركية، بما يجعل البلاد أكثر انقساماً من خلال تآكل الانتخابات التنافسية ودفع النواب المنتخبين إلى أن يكونوا أكثر تشدداً في انتمائهم لقاعدتهم الحزبية أكثر من سعيهم للدفاع عن المصلحة العامة للوطن والشعب بصفة عامة.
ومع استمرار اليد العليا للجمهوريين في عملية إعادة تقسيم الدوائر، إلى جانب انخفاض شعبية الرئيس بايدن والحزب الديمقراطي، أصبح للحزب الجمهوري ميزة لا يمكن التغلب عليها تقريباً في انتخابات التجديد النصفي لعام 2022 وخلال العقد القادم في منافسات مجلس النواب.
ويسيطر الجمهوريون على عملية إعادة تقسيم دوائر الولايات التي تمثل 187 مقعداً في مجلس النواب المكوَّن من 435 مقعداً، مقارنةً بـ75 مقعداً دوائر يعيد الديمقراطيون رسمها، بينما في ولايات أخرى مثل ميشيغان وفيرجينيا، تقرر المحاكم أو لجان خارجية رسم الدوائر أو يتفق الحزبان على رسم الدوائر، ويعني ذلك قدرة أكبر لدى الجمهوريين للسيطرة على مجلس النواب في انتخابات نوفمبر المقبل، وربما خلال العقد المقبل إذا لم يتغير ترسيم الدوائر واستمرت التركيبة السكانية والولاء الحزبي كما هو الآن.
وبينما يتهم الديمقراطيون، الجمهوريين بالخوف من خوض انتخابات تنافسية قوية في ولايات مثل تكساس وجورجيا وأوكلاهوما، وتصف كيلي بيرتون، رئيسة اللجنة الوطنية الديمقراطية لإعادة تقسيم الدوائر، التحركات الجمهورية بأنها "استيلاء غير مسبوق على السلطة"، فإن الحزب الجمهوري يتهم الديمقراطيين أيضاً، باتخاذ نفس الإجراءات في الولايات التي يسيطرون على مجالسها التشريعية مثل نيويورك وإلينوي وكاليفورنيا.
وفي ظل حروب إعادة رسم الدوائر الانتخابية، يُرجح أن تتزايد العوامل التي تقوض التنافسية وتنزع عن الديمقراطية قيمتها التي تتباهى بها السلطات السياسية الأميركية من الحزبَين أمام العالم.