في أواخر سبعينيات القرن الماضي، وخلال لقاء جمع بين وزير خارجية الاتحاد السوفياتي آنذاك أندريه غروميكو والزعيم الفلسطيني الراحل الرئيس ياسر عرفات، اقترح غروميكو على عرفات أن يعمل على ترتيب لقاء بينه وبين الإدارة الأميركية، وفتح مسار تفاوضي معهم، بخاصة بعد المواقف التصعيدية للطرفين التي عبّر عنها مستشار الأمن القومي الأميركي زبيغنيو برجنسيكي بالقول "وداعاً لمنظمة التحرير الفلسطينية" ورد عليه عرفات بشعاره الشهير "وداعاً للمصالح الأميركية في الشرق الأوسط".
لم يرفض الزعيم الفلسطيني مبدأ التفاوض والحوار المباشر مع واشنطن، بهدف البحث عن حل سياسي للقضية الفلسطينية الذي لطالما كان يبحث عنه ويعمل من أجله، إلا أنه رفض الوساطة السوفياتية، على الرغم من إصرار قوى اليسار العربي على وصف الاتحاد السوفياتي حينها بأنه "صديق الشعوب وقضاياه المحقة". وكان رده على الطرح الذي قدمه صديقه غروميكو بأنه "ليس بحاجة إلى وسيط للحوار مع واشنطن، ويمكنني أن أذهب مباشرةً من دون وساطات أو وسطاء". وبذلك استطاع سحب الورقة الفلسطينية من يد الصديق الروسي ومنعه من تحويلها إلى ساحة لتمرير المصالح السوفياتية على حساب المصالح الفلسطينية.
الدب الروسي
هذا الموقف للرئيس الفلسطيني المبكر من الدور السوفياتي، يقدم تفسيراً لخلفية الكلام الصادر عن وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن حول الدور الروسي في هذه المرحلة الذي وصفه بقوله "إذا دخل الروس إلى مكان، فمن الصعب إخراجهم منه". سواء كان في مفاوضات فيينا حول الأزمة النووية الإيرانية وما يقوم به المندوب الروسي ميخائيل أوليانوف، أو في ما يتعلق بما يقوم به في الأزمة الأوكرانية، وصولاً إلى الأحداث التي تشهدها كازاخستان، ومسارعة موسكو إلى إرسال قوات تدخل سريع إلى هذا البلد وتولي مهمة القضاء على الحركة الاعتراضية التي انفجرت في حديقتها الخلفية ومنع تمددها إلى دول أخرى في هذه الحديقة.
خشية إيرانية
كثيرة هي الأصوات في الداخل الإيراني التي ارتفعت أخيراً محذرةً من تنامي الدور الذي يقوم به المندوب الروسي في فيينا، أوليانوف، وكأنه تحول إلى ناطق باسم الجانب الإيراني والممسك بناصية الموقف إلى حد تهميش دور كبير المفاوضين الإيرانيين علي باقري كني وتغييبه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وإذا ما كانت روسيا تتعامل مع المفاوضات النووية كقضية دولية بحكم عضويتها في مجلس الأمن الدولي ودولة فاعلة في الأمم المتحدة، وتسعى لتكون لاعباً محورياً في المفاوضات، وتوظيف خصوصية علاقتها مع إيران لتوسيع دائرة تأثيرها. إلا أن ممارسات المندوب الروسي في فيينا تحولت إلى مصدر قلق لدى القوى الإيرانية ودافع لدعوة المسؤولين عن ملف التفاوض إلى قطع الطريق على موسكو لتجاوز هذا الدور، بخاصة إذا ما كانت تسعى لتمثل إيران في الحوارات والمفاوضات، لأن ذلك يشكل ضربةً لمصالح طهران القومية والاستراتيجية.
الموقف السلبي من تنامي الدور الروسي في فيينا، وسلوك "أوليانوف" وكأنه مفوض بالحديث نيابةً عن المفاوض الإيراني مع الأطراف المشاركة، بخاصة مع الجانب الأميركي، بلغ مرحلة متقدمة من التشكيك والريبة، خصوصاً في حال كان النظام يبحث عن وسيط بينه وبين الإدارة الأميركية، والتأكيد على أن الطرف الروسي لا يشكل خياراً مناسباً للعب هذا الدور، لجهة استغلاله للأزمة الإيرانية ومحاولة توظيفها لتحسين شروطه التفاوضية حول ملفاته الخاصة وأزمته مع واشنطن حول المشكلة الأوكرانية وحتى الوضع السوري والخوف من التفريط بالدور الإيراني لصالح صفقة مع الإدارة الأميركية في سوريا. وارتفع مسنوب الريبة الإيرانية خلال المفاوضات التي أجراها مساعد وزير الخارجية الكوري الجنوبي في فيينا حول آلية تحرير الأموال الإيرانية في البنوك الكورية بقيمة تتجاوز 7 مليارات دولار.
طموحات متداخلة
الزيارة المرتقبة للرئيس الإيراني ابراهيم رئيسي إلى موسكو والقمة المتوقعة مع نظيره الروسي فلاديمير بوتن في الأيام المقبلة، وعلى الرغم من أنها تأتي في توقيت حساس ودقيق، لجهة ما ستسفر عنه من توقيع معاهدات واتفاقيات استراتيجية طويلة الأمد (اتفاقية تعاون اقتصادي وعسكري لمدة 20 سنة)، إلا أنها لم تسهم في الحد من القلق والمخاوف من إمكانية ابتلاع موسكو للدور الإيراني أو وضع طهران تحت جناحها من خلال ربطها بنظام المصالح الروسية، ما يفقد إيران هامش التوازن في علاقاتها بين الشرق والغرب، بخاصة وأن طموحاتها لتثبيت موقعها ودورها ونفوذها في منطقة الشرق الأوسط بخاصة وغرب آسيا عامة، تمر كما هي الحال بالنسبة إلى روسيا، من بوابة التفاهم مع واشنطن والدول الغربية.
من هنا يمكن فهم أحد أبعاد الموقف الذي أعلنه المرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي والذي حمل إشارة برفع الحواجز والعوائق أمام إمكانية التفاوض المباشر بين إيران والولايات المتحدة، من دون التخلي عن الموقف السلبي المرتبط بالمسوغ الأيديولوجي بالتمسك باعتبار أميركا عدواً لا يجب الاستسلام أمامه والرضوخ لسياساته الظالمة. وهو موقف جاء استكمالاً للخطوة التي قام بها الفريق الإيراني المفاوِض عبر تبادل الرسائل المكتوبة مع نظيره الأميركي والتي أسهمت في تقريب كثير من وجهات النظر وقللت نقاط الخلاف وفتحت الطريق أمام تقدم ايجابي في حل عديد من عقد التفاوض، وهي خطوة جاءت وكأنها رسالة إلى المندوب الروسي بأن طهران قادرة على تقريب موعد الحوار المباشر والثنائي مع واشنطن على اعتبار أنه أمر لا بد من حصوله في المستقبل.
توقيت الانفتاح المدروس للمفاوض الإيراني على نظيره الأميركي، وإيجابية المرشد في هذا السياق، يمكن أن تعزز موقف رئيسي في مباحثاته مع بوتين، بخاصة أنها تسحب هذه الورقة من يديه من دون أن تلغي دوره وما يشكله من ظهير أساسي ومهم، وقد تساعد في دفعه إلى حسم موقفه المتردد بنقل مستوى العلاقة بين البلدين إلى علاقة تحالف استراتيجي متوازنة لا تكون على حساب أي من الطرفين.