منذ نحو عامين، يحمل محامو الجزائر ولا يزالون حقائبهم المثقلة بالملفات، متنقلين بين محاكم البلاد للدفاع "تطوعاً" عن معتقلين شاركوا في مسيرات الحراك الشعبي، بعضهم صدرت بحقهم أحكام قضائية نهائية، فيما آخرون موجودون رهن الحبس المؤقت في انتظار محاكمتهم بتهم عدة، منها "المساس بالوحدة الوطنية".
تصف هيئة الدفاع وناشطون سياسيون هؤلاء المساجين بـ"معتقلي الرأي"، بيد أن السلطة الجزائرية ترفض هذه التسمية، وتقول إنهم معتقلو "حق عام" ليتحوّل هذا الملف إلى نقطة خلاف آخر بين السلطة والمعارضة.
إحكام القبضة
واللافت في المشهد العام هو الاستمرار في ترتيب البيت الداخلي للسلطة من خلال مواصلة إحكام القبضة على الممارسة السياسية، وغياب كل أشكال الرأي المخالف على وسائل الإعلام الحكومية والخاصة، إذ تغيب الوجوه السياسية والنخب المعارضة عن شاشات التلفزيون، وحتى الصحف التي لم تعُد تستعين في تقاريرها بمحللين يقدّمون قراءة نقدية للوضع، وإن كانت بناءة تصب في إثراء النقاش العام وتقديم تصورات وحلول للوضع القائم.
مواقع التواصل الاجتماعي، هي الأخرى تحوّلت إلى فضاء "غير آمن" وصارت تحت الرقابة، وفق قانونيين، إذ قد يتحوّل منشور عفوي يرصد الواقع السياسي إلى ملاحقة قضائية تقود صاحبه إلى السجن، وهو مصير واجهه عشرات الناشطين القابعين في السجن، الذين أوقفوا بسبب مناشير على "فيسبوك".
وتذهب تفسيرات إلى التأكيد أن هذه "القبضة" مردّها إلى ما تعتبره السلطات "تصحيحاً لاختلالات" وقعت أثناء الحراك الشعبي، أو ما تُسميه بـ"التراخي" في التعاطي مع الأحداث المفاجئة وغير المسبوقة التي ارتفعت فيها "جرعة الحرية"، وهي الآن تحاول "تطويع" الإعلام والسياسيين للعودة إلى نقطة ما قبل 22 فبراير (شباط) 2019 وعدم الخروج عن الخطوط المرسومة.
جمود سياسي ومتابعات
هذا الواقع انعكس على الممارسة السياسية التي تعرف حالة جمود وسط غياب كلّي للنشاطات الحزبية، التي عُلّقت مع انتهاء انتخابات تجديد المجالس الولائية والبلدية التي جرت نهاية شهر نوفمبر (تشرين الثاني) من العام الماضي، وحسمت فيها أحزاب السلطة نتيجة المراتب الأولى لصالحها.
ومع ركون غالبية التشكيلات إلى الصمت والانطواء، أنذرت السلطات حزباً سياسياً (التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية)، على خلفية استضافته اجتماعاً سياسياً في مقره في 24 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، وفي ذلك اليوم أنشأ نشطاء وأعضاء من المجتمع المدني "جبهة ضد قمع الحريات" داخل مقر الحزب، بحسب السلطات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتهدد وزارة الداخلية في إخطارها بتطبيق الإجراءات المنصوص عليها في المادة 66 من القانون الأساسي للأحزاب السياسية، وفي هذه الحالة تتراوح العقوبات بين التعليق المؤقت وحل الحزب.
وفي 9 يناير (كانون الثاني) الحالي، حكمت محكمة في الجزائر العاصمة على فتحي غراس، منسق الحركة الديمقراطية والاجتماعية ذات التوجه اليساري، بالسجن لمدة عامين، بتهمة "إهانة رئيس الدولة" و"نشر معلومات يمكن أن تقوّض الوحدة الوطنية". واعتقل غراس وسجن نهاية يونيو (حزيران) 2021 وتم تفتيش منزله في ضواحي العاصمة.
تنديد وتضامن
سياسياً، لا تجد الأحزاب طرقاً للتضامن مع بعضها إلا عن طريق التنديد في ظل منع كل احتجاج في الشارع، إذ وصفت جبهة القوى الاشتراكية (الأفافاس)، الحكم القضائي الصادر ضد غراس بأنه "تصعيد خطير من قبل السلطة، ضمن تراجع رهيب في الفترة الأخيرة لمناخ الحريات الفردية والجماعية في البلاد".
وجددت القوى الاشتراكية مطالبتها السلطات "بالكف الفوري عن هذه الممارسات". وقالت "القمع والاستمرار في تبني المقاربة الأمنية من قبل السلطة في التعاطي مع الشؤون السياسية والعامة من شأنهما أن يزيدا من حدة الأزمة السياسية المتعددة الأبعاد التي تعيشها البلاد، وقد يتسببان بتغذية كل التوجهات المتطرفة".
في المقابل، قال "حزب العمال" اليساري إن "السلطة اختارت أن تبدأ السنة الجديدة بحزمة من الاعتداءات على الحريات الديمقراطية، إذ لا يزال أكثر من 300 ناشط سياسي ومعتقل رأي في السجون، فيما آلاف النشطاء الآخرين ضحايا التعسف واللجوء المبالغ فيه إلى الحبس الاحتياطي، كما يتعرّض الصحافيون لمضايقات قضائية مستمرة".
واعتبر الحزب "الحق في الممارسة السياسية والحريات الفردية والجماعية، محل تراجع، في ظل الوضع الهش للبلاد، ما قد يفتح الطريق أمام التدخلات الأجنبية المختلفة، وأن هذا الوضع لم يسبق له مثيل في ظل الحكومات المتعاقبة".
يحدث كل هذا في ظل وضع اجتماعي ضاغط يتسم بغلاء الأسعار وندرة في بعض المواد التموينية الأساسية، تتهم الحكومة المضاربين باختلاقها، إضافة إلى تحذيرات جدية من تعقّد الوضعية الوبائية في البلاد، على خلفية توقعات بانتشار واسع لعدد الإصابات في الموجة الرابعة من فيروس كورونا التي تشهدها الجزائر، وعزوف المواطنين عن الاستجابة لحملات التلقيح الذي يثير استغراب السلطات الصحية.