قد تكون إطلالة الروائي المصري محمد العون على مصر، والحياة المصرية "الآن"، إطلالة قصيرة وسريعة من خلال روايته الجديدة "ممر الشاي الهندي"، لكنها إطلالة عميقة وسابرة لـ"روح" هذا البلد، ماضياً وحاضراً، ولما يجري فيه من تحولات. فهي نظرات مكثفة ومركزة ولاذعة، تجمع ملامح ذات قيمة، قادرة على رسم صورة مصغرة لما تعيشه "أم الدنيا" عموماً، وقاهرة المعز والمماليك خصوصاً. فمن خلال هذه الرواية (القصيرة نسبياً، 188 صفحة)، يمكننا معرفة كثير من معالم الحياة "القاهرية" الجديدة، يقدمها الكاتب بقدر كبير من البساطة والسلاسة، من جهة، وكثير من التفكير والتأمل، من جهة ثانية.
ومنذ البداية، تبهرك شخصية رامز الذي يمتلك هواية أثيرة تتمثل في كتابة "اليوميات"، نجمت عنها مجموعة من الكراسات، لمحطات من حياته، وحيوات من حوله، هو الطالب في كلية الآثار، قسم الترميم، ثم الموظف في المجال نفسه. يفكر في نشر يومياته، ويلجأ إلى توجيهات صحافي شهير (الأستاذ فوزي)، فيوجهه هذا لكتابة القصة، والانضمام إلى مجموعة ثقافية، شعراء وقصاصين وفنانين، تتخذ من أحد المقاهي منتدى لها. يجد في "الشلة" تعويضاً عن فراغ في حياته بعد تجربة زواج فاشل وطلاق، بحيث تظهر شخصيته ككاتب مثقف وقارئ واسع الاطلاع ورصين بلا ادعاءات. وتبدأ نجاحاته المعنوية، فيقترب من الشاعرة رميثاء، ثم ينتقل فجأة إلى عالم صناعة "الفيديو الأدبي" ونشره في صفحته على "فيسبوك"، وفي منابر "يوتيوب"، وينال شهرة واسعة وأموالاً.
بساطة وخفة وتركيز
ببساطة، ولكن من دون تبسيط، وبخفة، لكن بلا استخفاف، وبلغة سليمة، وقدرة عالية على الرسم، تسير خيوط وخطوط هذه الرواية (دار فضاءات، 2021). رواية قد تنتمي إلى عالم الرواية القصيرة (نوفيلا)، لا لجهة الحجم، بل لجهة بساطة عوالمها، ومحدودية شخوصها، وحوادثها، ووضوح الفكرة التي تعالجها، من دون تعقيدات ولا تقنيات أو غرائبيات. فهموم رامز تنتقل من كونه يريد اعترافاً به بوصفه كاتباً، وتبلغ حدود التفكير في الانتقال إلى "يوتيوب"، وجني ثروة من عمله في تقنيات زمن وسائل التواصل. إننا في زمن وسائل التواصل الاجتماعي، وربما التنابذ الاجتماعي، حين نقرأ، في الرواية، عن شاب ينصب في "فيسبوك" فخاً لخاله ذي الأخلاق والمبادئ، فيتقمص شخصية فتاة تقوم باصطياده على "الشات"، في عمل شديد الدناءة.
ولكن، من أجل بلوغ حلمه، يغوص المؤلف في أحياء القاهرة، بدءاً من ميدان طلعت حرب، وشارع "ممر الشاي الهندي" الذي حملت الرواية اسمه، حيث يقطن رامز مع أهله، مروراً بالمقاهي والساحات والميادين المعروفة، وليس انتهاءً بالمساجد والآثار التاريخية التي تشغل حيزاً من اهتمام البطل، ومن ورائه الروائي، حيث يعود إليها ليطل من خلالها على محطات من تاريخ هذه المدينة العريقة والمتداخلة والمتحولة.
في الصورة العامة للقاهرة، تكاد تظهر كمدينة كوزموبوليتانية، يحج إليها المصريون من محافظاتهم وأريافهم، كما هو حال محمود، (صديق في الشلة)، وتستقبل الأجانب من المقيمين والسياح. يلتقي الجميع في ملتقيات تجمعهم، وتكاد تصهرهم، في بيوت وشقق متجاورة، كما هو حال البناية التي يقيم فيها رامز، وتقيم فيها عائلات أوروبية، وربما امرأة أجنبية وحدها، كما هو حال مارتينا التي تكبره في السن، وثمة علاقة صداقة بينه وبينها، على الرغم حذره من علاقة عاطفية أو جسدية، ولم يرغب المؤلف في الإفصاح عن جنسيتها.
هذا الحضور للغرباء في القاهرة، ينم على شعور بالغربة والاغتراب من جانب، وفي المقابل هو فرصة لخلق التقارب بينهم، وقيام علاقات متفاوتة الدرجات، فـ"كل غريب للغريب نسيب". وفي لقاء يجمع رامز (ابن القاهرة)، مع مارتينا (الأوروبية)، وصديقه محمود (القادم من الريف)، والشديد الشعور بالغربة، وبأنه غير قادر على استيعاب المدينة، نجد أن تقارباً سرعان ما يتم بينه وبين مارتينا، من خلال الشعر، فهي تستمع إلى شعره وتعجب به، فتبادر إلى دعوته لتقديم قصائد له لترجمتها، وتلتقيه لهذا الهدف وتدعوه للعشاء غير مرة. وهذا ما يثير سؤالاً لدى رامز لكونها لم تفكر بترجمة قصص له. ويبدو أن حباً هو ما جمع محمود ومارتينا لكونهما من خارج القاهرة، وليسا مندمجين فيها تماماً كما هو حال رامز وعداه من الشخصيات "المندمجة" التي تملك فرصاً أقوى وأفضل للعلاقات.
"بطل" وعوالم
في عالمه الاجتماعي، يعيش رامز تجربة زواج فاشل، بسبب العذابات والصراعات الحادة مع زوجته ريهام، الفتاة التي يلحظ قبل الزواج منها مدى غطرستها وحبها للاستعراض. ومع ذلك يقرر الارتباط بها لجمالها الباهر، ولعلها، كما يرى بعض المقربين منه ومنها، تتغير بالزواج، لكن الخلافات لا تتوقف بل تزيد، وهنا نكون حيال الراوي الذي يخوض في أعماق النفس البشرية، فيقدم تحليلات لهذه الشخصية "الهستيرية"، جذورها ودوافعها ومآلاتها.
أما ثقافياً، فنحن إزاء شخصية يريد صاحبها التطور في المجالات كافة. يحضر إلى ندوة "الشلة" مفتوح الذهن للاستماع والوعي، وليس لتقديم نفسه والاستعراض كما هو حال بعض "المثقفين"، فيستمع ويتعلم الكثير عن الأدب والثقافة في مصر والعالم، يتعرف إلى النقد والنقاد والنظريات النقدية. ومن هذا الجانب، نطل على ملامح من المشهد الثقافي والحياة الثقافية القاهرية، تتضمن السخرية والجدية، ومدى قدرة المثقف على احتمال وتقبل "الآخر المختلف"، عبر مواقف من التشنج والتسامح.
حين يحرز نجاحات عالم اليوتيوب، وتقديم قصصه بهذه الوسيلة، يكون هذا دافعاً ليقارن بين ما أمكن إحرازه هنا، وبين غياب هذا النجاح في أي وسيلة لنشر الأدب والكتاب عموماً، وهي مقارنة ظالمة للنشر الورقي تحديداً، حيث لا يمكن لكاتب/ كتاب الوصول إلى أكثر من عشرات القراء. وهي نظرة صائبة من جانب، وظالمة من جانب آخر. فإذا كان رامز قد امتلك إمكانية التعامل مع هذه التقنية وتوظيفها، فكم من الكتاب يستطيع فعل ذلك؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
علمياً وعملياً، تشكل دراسة "البطل/ رامز"، ومجال عمله في الآثار، فضلاً عن اهتماماته الثقافية، فرصة أتاحت للمؤلف استغلال هذه الجوانب فيه لتقديم المعالم التاريخية التي يريد من القاهرة، لا بوجهها السياحي، بل عبر ارتباطها بتاريخ وحوادث وشخصيات، ذات مغزى ودلالات. فهو خبير بالمباني وهندستها وجمالياتها، ويستطيع تقديمها على نحو شديد الإقناع.
ومن خلال زيارة البطل، بحكم طبيعة عمله، للمساجد الأثرية في القاهرة، يتركها تحكي الحوادث عن تواريخ أصحاب هذه المساجد من سلاطين وأمراء. ففي قلب القاهرة التي أنشأها الخديوي إسماعيل على نمط المدن الأوروبية، وخططها المهندس الفرنسي هوسمان الذي خطط مدينة باريس، نقرأ مادة علمية - لا إنشائية أو خطابية - في علم الآثار. وغير ذلك من الأمثلة على المادة التاريخية الموثقة.
ومن باب السخرية مما وصلت إليه مصر، والقاهرة، أنه في أثناء جولة له مع والد مارتينا، في الأسواق التقليدية، يبحث العجوز عن مشغولات "مصرية"، ويتوقف في أحد محال "الذكريات" أمام قطع فنية جميلة تمثل معالم مصرية، فيسأل صاحب المحل إن كانت هذه القطع صناعة مصرية، فيجيبه البائع بأنها "صينية"، وأنه لم يعد هناك من المصريين من يهتم بإنتاج مثل هذه المنتوجات!
الغريب أن الرواية تنتهي، قبل أن نشهد نهاية لخطبة الخطيبين رامز ورميثاء، فهو مستمر في أعمال "يوتيوب"، ويحلم بمزيد من التصوير داخل الأماكن المصرية، ثم لاحقاً في أماكن عالمية شهيرة. ولم يعد يتحدث عن مضامين هذه "الأفلام"، ولا يسأل عن كتابة القصة، فهل القصة مجرد وسيلة أوصلته إلى "غاية"؟ ربما. كما أن علاقة مارتينا ومحمود تنتهي في المشهد الأخير من الرواية بمكالمة هاتفية تدعوه فيها إلى سهرة لمناقشة ما تم من ترجمة لبعض قصائده، من دون أي إشارة إلى "الشخصي" في العلاقة. ففي حين نعلم أن محمود يفكر بعلاقة شاملة، وخصوصاً جسدية، لا نعرف أفكار مارتينا ومشاعرها المحددة تجاه محمود؟
إنها النهاية المفتوحة على الاحتمالات، ربما!