انصب الاهتمام في الموسم الانتخابي الذي دخله لبنان تهيؤاً ليوم الاقتراع لاختيار 128 نائباً جديداً في 15 مايو (أيار) المقبل، على مرحلة ما بعد عزوف زعيم تيار "المستقبل" رئيس الحكومة الأسبق سعد الحريري عن خوض الانتخابات والترشح إليها من قبله وتياره السياسي على الموقع السني في الخريطة النيابية المقبلة، وسط تساؤلات عمن سيملأ فراغ تمثيلها في السنوات الأربع المقبلة في البرلمان الجديد.
فتيار "المستقبل" وما سمي "الحريرية السياسية" شكلا على مدى زهاء 30 سنة، منذ صعود زعامة الرئيس الراحل رفيق الحريري في أواسط تسعينيات القرن الماضي، ثم مع تسلم نجله سعد القيادة على إثر اغتياله في عام 2005، (تقترب الذكرى الـ17 لجريمة تفجير موكبه في 14 فبراير (شباط)، القيادة الأقوى والأكثر تمثيلاً في الطائفة بحصد الأب والأبن الأكثرية في عدد النواب السنة حتى الآن، أو في ترؤس الكتلة النيابية الأكبر التي تضم حلفاء من طوائف أخرى لمدة 25 سنة، باستثناء البرلمان الحالي الذي تقترب ولايته من نهايتها.
الطابع الدراماتيكي للعزوف وتراكم "الإحباط"
وانتقل لقب رئيس أكبر كتلة نيابية في انتخابات 2018 إلى وريث مؤسس "التيار الوطني الحر" رئيس الجمهورية ميشال عون، النائب جبران باسيل بسبب تحالفه مع "المستقبل" والاتفاقيات التي عقدها معه الرئيس الحريري، بعد التسوية على انتخاب عون عام 2016، ثم على قانون الانتخاب الذي جرى تفصيله على قياس الفريق العوني، وهي التسوية التي عاد وندم عليها بعد خسارته زهاء ستة إلى سبعة نواب، وعلى إثر استعار الخلاف بينه وبين عون وباسيل، والخيبة من أن "حزب الله" وقف إلى جانبهما في سعيهما إلى استعادة صلاحيات رئاسة الجمهورية على حساب رئاسة الحكومة خلال أربع سنوات من عهد عون.
وعلى الرغم من أن قرار الحريري العزوف عن الترشح للانتخابات مع تياره السياسي كان معروفاً قبل شهرين من إعلانه في بيان أخذ طابعاً دراماتيكياً أمام جمهوره وحلفائه، وكان له وقع الصدمة على هذا الجمهور وعلى قيادات سنية نظراً إلى حجم تمثيل تيار "المستقبل" والحريرية السياسية للطائفة التي تشعر بأنها تتعرض لعملية إضعاف وتشتيت منذ اغتيال الحريري الأب، ثم الصراع مع "حزب الله" وحلفاء سوريا على قيام المحكمة الدولية الخاصة بلبنان لمحاكمة المتهمين بالجريمة، مروراً باجتياح الحزب لبيروت وجزء من الجبل في السابع من مايو 2008 بعد اعتصام شل وسط العاصمة سنة ونصف السنة ضد حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، وفرضه قيوداً على العمل الحكومي عبر شرط حصوله وحلفائه على الثلث المعطل فيها، الذي مكنه من إسقاط حكومة سعد الحريري الأولى في وقت كان داخلاً إلى البيت الأبيض للقاء الرئيس باراك أوباما، وأخيراً وليس آخراً، تعطيله انتخابات رئاسة الجمهورية، والذي انتهى بنجاحه في فرض عون للرئاسة بعد قبول الحريري به بحجة إنهاء الفراغ الرئاسي الذي شل البلد قرابة سنتين ونصف السنة.
الإقرار بفشل التسويات
السرد السريع للأحداث التي خلقت شعوراً بالاستضعاف والاستنزاف لدى السنة، يلقي الضوء على خلفيات تدرج "الإحباط السني"، والذي أوصله إعلان الحريري عزوفه وتعليق العمل السياسي، ولو مؤقتاً، إلى ذروة جديدة. رمزية الحريرية السياسية في تمثيل الطائفة بقيت متفوقة على القوى السياسية الأخرى ضمن الجماعة، على الرغم من انفكاك جزء من جمهورها عنها امتعاضاً من التسويات التي عقدها الحريري الابن، مع القوى التي يعتبرها هذا الجمهور من الخصوم، والمسؤولة عن تراجع أوضاع البلد وصولاً إلى الأزمة الاقتصادية المالية غير المسبوقة التي يعيشها اللبنانيون حالياً. فهذا الجزء من الجمهور الذي يرى في "المستقبل" القيادة الأكثر تمثيلاً لطموحاته لم يقتنع بتبرير الحريري تنازلاته تحت شعار "ربط النزاع" مع "حزب الله"، بحجة الحفاظ على السلم الأهلي وتخفيف التوتر السني الشيعي، نظراً إلى استمرار الحزب في تدخله العسكري في سوريا، ودعمه الحوثيين في اليمن، وخوضه حملات التعبئة والتحريض ضد المملكة العربية السعودية وانكشاف تدخله الأمني ضد دول خليجية عدة، وجموح حليفه الفريق العوني نحو الاستئثار بالسلطة، ما يعني أن التسويات مع الحزب كانت على حساب تطلعات هذا الجمهور.
الجمهور يتعاطف مع الضحية
مع ذلك، بقيت أكثرية الجمهور السني تنظر إلى الحريرية السنية على أنها "ضحية" ممارسات القوى الطائفية الأخرى، على الرغم من سعي القطب الثاني في الثنائية الشيعية، رئيس البرلمان نبيه بري إلى إبقاء الصلات الإيجابية مع سعد الحريري لأسباب متعددة، تتراوح بين منع تطور الحساسية السنية الشيعية وبين معارضته عهد الرئيس عون وجنوح فريقه نحو ممارسات أقرب إلى النظام الرئاسي على حساب البرلمان ورئاسة الحكومة، عكس موجبات اتفاق الطائف على توزيع الشراكة في السلطة منذ تعديل الدستور في 1990. وهو ما عبر عنه الحريري نفسه في بيان عزوفه الانتخابي في 24 يناير (كانون الثاني) الماضي بإقراره بأن التسويات التي أقدم عليها لمنع الحرب الأهلية "أتت على حسابي، (وكانت) سبب خسارتي لثروتي الشخصية وبعض صداقاتي الخارجية، وكثير من تحالفاتي الوطنية وبعض الرفاق وحتى الإخوة".
وجاء قرار الحريري في ظل الشعور السني بالغبن من جهة، ووسط تهيؤ قوى سياسية وطائفية عديدة لملء الفراغ الذي سيتركه قراره، في وقت كان بعض خصومه يتربص بهذه اللحظة، واعتبر بعض حلفائه المفترضين مثل حزب "القوات اللبنانية" أن باستطاعته كسب تأييد جمهور "المستقبل" لمصلحة مرشحيه المسيحيين في الانتخابات حيث الأصوات السنية يمكن أن تكون مرجِّحة، في وقت سعى باسيل إلى مغازلة هذا الجمهور عن طريق الحملة على خصمه رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع بأنه طعن الحريري بالظهر، بالإشارة إلى الخلاف الذي تكرس بامتناع نواب "القوات" عن تسمية الحريري لرئاسة الحكومة في 2020.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وصنف معظم الأوساط السنية والمستقبلية زيارة الرئيس عون لدار الفتوى للقاء مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان بأنها تأتي في سياق استمالة الجمهور السني الذي سبق أن اتهمه بالافتئات على صلاحيات رئاسة الحكومة وتحديداً الحريري، ومع أن عون أشار إلى "أن دار الفتوى صمام أمان لجميع اللبنانيين، ولا نريد للطائفة السنية أن تخرج من العمل السياسي في لبنان، لأننا سمعنا أنه قد تحصل مقاطعة، ونحن لا نريد أن تحصل المقاطعة، لأن لبنان عندما يخسر مكوناً من مكوناته الكبيرة، هذا الأمر يهدد المجتمع الذي تربينا على هديه"، وعلق أحد نواب "المستقبل" على الزيارة غير المسبوقة بالقول، إنه كان على عون أن يقول هذا الكلام قبل الآن، وأن يسهل للحريري مشروعه لإصلاح أوضاع البلد بدلاً من عرقلة تأليفه للحكومة مدة تسعة أشهر، ليدفعه إلى الاعتذار عن عدم تأليفها، ويعتبر ذلك انتصاراً له، وكان منسق الإعلام في "تيار المستقبل" عبد السلام موسى توجه لباسيل قائلاً، إن "ستاد" (ملعب) "المستقبل" مقفل على السباق الانتخابي مع "القوات".
الصدمة والتكهنات بمقاطعة السنة الانتخابات
إلا أن أبرز العوامل التي زادت "الإحباط" هو أن الصدمة سهلت إشاعة أجواء بأن "تعليق العمل السياسي" لزعيم "المستقبل" وتياره شابه الغموض في مقاصده، فقد فهم بعض الأوساط أنه يعني مقاطعة الانتخابات، وعزز هذا الفهم تكهنات بأن الجزء الأوسع من هذا الجمهور الذي ما زال يعتبر الحريرية السياسية ناطقة باسمه على الرغم من الأخطاء التي يتهم الحريري بارتكابها، سيمتنع عن الذهاب إلى صناديق الاقتراع في 15 مايو المقبل لفقدانه الحماس بإمكان إيصال الأقرب إلى تطلعاته إلى الندوة النيابية، في ظل المناخ اليائس الذي يسود الساحة السياسية من إمكان تحسين الأوضاع البائسة في لبنان.
ويقول مصدر قيادي في "المستقبل" لـ"اندبندنت عربية"، إن التباساً حصل في فهم ما أعلنه زعيمه، "فهو قال بتعليق العمل السياسي بالمعنى التقليدي، في السلطة والنيابة والسياسة"، وبالامتناع عن الترشح للانتخابات باسم التيار، ولم يأت على ذكر الامتناع عن الاقتراع، بل قال، "إننا باقون في خدمة أهلنا". وللتوضيح أكثر، ذكر المصدر أن الحريري أبلغ كتلته وقيادة تياره في الاجتماعات المغلقة التي عقدها، بأنه لا يستطيع منع أحد من الترشح للانتخابات، لكن "أي ترشيح باسم التيار وباسمي شخصياً ممنوع".
العزوف عن الترشيح لا عن الاقتراع
فضلاً عن ذلك، فإن نواب "المستقبل" الحاليين سيبقون بهذه الصفة حتى انتهاء ولاية البرلمان في 21 مايو المقبل، ويمارسون مهماتهم النيابية ودورهم التشريعي، أما مواصلة قياديين في التيار نشاطهم الإعلامي فيعود إلى أنه أعقب إعلان الحريري قراره، جملة من "الافتراءات" على إرث الحريرية السياسية فحمّله البعض من الخصوم الأزمات كافة التي يعاني منها البلد وبأن أخطاءه فرضت انتهاء الحياة السياسية لسعد الحريري، في وقت تعاطى معه بعض الحلفاء المفترضين كأن الحريرية انتهت وبالإمكان اجتذاب الأكثرية السنية، لمصلحته، ما استوجب ردوداً على هذه المواقف. إلا أن الحريري نفسه أبلغ قادة تياره بأن التيار باق في التعاطي مع جمهوره وأنه سيفعل أطره التنظيمية ليعود أقوى، بعد إجراء مراجعة للمرحلة السابقة، كما نقل المصدر القيادي عنه قوله، إنه عائد إلى بيروت في فبراير من دون أن يوضح إذا كانت العودة ستتم مع الذكرى الـ17 لاغتيال والده في 14 من الشهر نفسه.
طامحون و"حزب الله" يسعون لملء الفراغ
ويرد قياديون في "المستقبل" الالتباسات كافة التي نشأت إلى أن الوسطين السياسي والشعبي لم يخرجا من الصدمة التي أحدثها القرار بعد، وقد رافقتها الخشية من أنه إضافة إلى التنازع بين العونيين وحزب "القوات" على اجتذاب الأصوات السنية في بعض الدوائر المؤثرة، هناك خشية من سعي فرقاء متعددين من أجل ملء الفراغ المستقبلي. فبعض النواب السنة المستقلين الساعين إلى دور أكبر مثل النائب فؤاد مخزومي من الطبيعي أن يعمل على توسيع دوره في التمثيل السني إذا انكفأ مرشحون قريبون من "المستقبل" قد يترشحون باسمهم الشخصي ليحصدوا تأييد جمهور الحريرية، وشقيق سعد الحريري بهاء ينشط منذ مدة إعلامياً وسياسياً لدعم مرشحين في مناطق عدة بعد إعلانه أن عائلة الحريري لن تترك الساحة وأنه عائد إلى البلد قريباً، و"حزب الله" يدرس كيفية الإفادة من غياب الحريري عن المنازلة الانتخابية لعله يتمكن في بعض الدوائر التي هي تقليدياً معقودة اللواء للحريرية (بيروت، البقاع الغربي، عكار، طرابلس، وإقليم الخروب، وغيرها) من تأمين فوز حلفاء سنة له إذا حصل تراجع في نسبة الاقتراع ضمن الشريحة المؤيدة للحريرية في الطائفة السنية لفقدان الحماس نتيجة قرار العزوف. فالحزب يعمل منذ سنوات على تحقيق اختراقات في الساحة السنية، حيث عمل على إنشاء "سرايا المقاومة" كتشكيل أمني مسلح في العديد من المناطق، وقدم مساعدات مالية في بعض المناطق الفقيرة وصولاً إلى منطقة عكار التي تعتبر خزاناً للحريرية في الطائفة السنية، هذا على الرغم من أن الحزب تجنب التعليق على قرار الحريري، وامتنع عن الدخول في سجال مع "المستقبل" حول الاتهامات له باستتباع لبنان للمحور الإيراني، ويتعاطى مع نتائج القرار بشيء من الدهاء على طريقته في التخطيط للإفادة من أي مستجد سياسي.
المفتي وميقاتي والسنيورة وسلام لمنع الفراغ
إلا أن الالتباسات والتكهنات حول انعكاسات ما بعد قرار الحريري على التمثيل السني فضلاً عن الطموحات المعلنة للبعض حرّكت المفتي دريان ورئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة بالتنسيق مع رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، وبالتشاور مع رئيس الحكومة السابق تمام سلام، من أجل تبديد أجواء الإحباط السني وتوجيه رسالة بأنه لن يكون هناك فراغ في تمثيل الطائفة، فاجتمع المفتي في 28 يناير مع ميقاتي، الذي تقصد مرافقته إلى صلاة الجمعة حيث لاقاهما السنيورة، وأعلن ميقاتي أننا لن ندعو إلى مقاطعة سنية للانتخابات، ودعا إلى أن يترشح من يرغب إليها، وأيده في ذلك السنيورة، وأعقب ذلك لقاء بين المفتي دريان وسلام والسنيورة من أجل البحث في اقتراح للأخير سبق أن طرحه على الحريري بحضوره وميقاتي وسلام، يقضي بتولي رؤساء الحكومات السابقين بالتنسيق مع دار الفتوى اقتراح أسماء مرشحين غير منتمين إلى تيار "المستقبل"، من أجل الحيلولة دون ملء فرقاء آخرين الفراغ الناجم عن عزوف الحريري وتياره، فتحفظ الحريري عليه، في الاجتماع الأول، في وقت جرى التنسيق معه أثناء وجوده في أبو ظبي في هذا الشأن في الاجتماع الثاني، فبعض نواب كتلة "المستقبل" من الحلفاء غير المنتمين إلى التيار ينوون الترشح في كل الأحوال لأنهم ينتمون إلى عائلات سياسية لها حضور في البرلمان تاريخياً، لن تتركه لمرشحين جدداً.
ويسجل المتابعون لتحضيرات سائر الفرقاء للمعركة الانتخابية أن الإرباك جراء قرار الحريري لم يصب الطائفة السنية وحدها، بل إن معظم القوى السياسية الأخرى تنتظر صورة الترشيحات للمقاعد السنية الـ27 في البرلمان لتقرر على أساسها تحالفاتها. ولم يتضح من التحالفات بعد إلا اتفاق حزب "القوات اللبنانية" مع "الحزب التقدمي الاشتراكي" على التحالف في الدوائر التي يوجد فيها الفريقان، وينتظر "الاشتراكي" اتضاح خطوات المرجعيات السنية على قاعدة إعلان رئيسه وليد جنبلاط ألا أحد يحل مكان "المستقبل"، من القوى السياسية والطائفية الأخرى.