الفقر، والبطالة، والمخدرات، وسوء الخدمات، كلها أسباب أدت إلى تفكك المجتمع ومنظومته التي عرفت بالقوة والترابط طوال مراحل الفوضى والاضطرابات التي شهدها العراق. فازدياد معدلات العنف المجتمعية ما هي إلا نتيجة منطقية لتراكم الاضطرابات الأمنية والصحية والاقتصادية في البلد، فضلاً عن تفشي الفقر والأمية، والضحية هم الأطفال والنساء، أما الإجراءات العقابية فهي ضعيفة وغير رادعة.
جرائم القتل في تزايد
ففي حادثة ليست الأولى من نوعها، ولكنها الأكثر فظاعة، أقدم رجل على قتل شقيقته واغتصاب طفلتي أخيه ذواتي الـ 12 و15 عاماً، في محاولة منه للانتقام من شقيقه الذي سبق أن عنف ابنه. حدث ذلك في 13 فبراير (شباط) 2022. هذه الجريمة أثارت حفيظة المجتمع العراقي، وشجعت منظمات المجتمع المدني والجهات ذات الاختصاص لإعادة فتح ملف العنف والجريمة في العراق، التي تتباين أسبابها. فالبعض يرى أن تردي الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية في العراق هي سبب أساس للوضع الراهن. فمنذ 2003 ارتفعت معدلات الجريمة بشكل غير مسبوق، إذ سُجلت في العام الماضي 1077 جريمة قتل، وهي أكبر حصيلة سنوية من جرائم القتل مقارنة مع باقي الأعوام، أما قضايا الشروع بالقتل فقد بلغت 1646 قضية.
وتصدر العراق الدول العربية التي ارتفعت فيها معدلات جرائم قتل بدوافع جنائية في عام 2021.
فقد سبق أن سجل في عام 2020، 4700 جريمة قتل بدوافع جنائية، أي بنسبة 11.5 في المئة لكل 100 ألف نسمة، كما سجل في 2019 نسبة أقل وصلت إلى 4180 جريمة. ولدى المقارنة نجد أن معدل الجريمة ارتفع في 2020 بمعدل 12 في المئة عن عام 2019.
وكشف المتحدث الرسمي لوزارة الداخلية اللواء خالد المحنا "لو قارنا بين الأرقام المسجلة سنة 2021 مع سنة 2020، نلاحظ أن جرائم العنف والشروع بالقتل والسلب حصل فيها انخفاض ملحوظ، وأن أغلب الجرائم التي حصلت في العامين الحالي والسابق نفذها متعاطو مخدرات".
المخدرات هي أهم التهديدات
وفي هذا الشأن، عمم المحنا على وسائل التواصل منشوراً تحت عنوان "تعاطي المخدرات ظاهرة فردية ومستمرون في إجراءات المكافحة"، وأشار إلى أن خطة الوزارة شملت محورين، تمثل أولهما بدعم مديرية مكافحة المخدرات من الناحية الإدارية، فضلاً عن تكليف (قوات النخبة) في الوزارة بضرورة التعاون لملاحقة تجار المخدرات. وأكد المحنا أن القوات الأمنية تمكنت خلال الفترة الماضية من ضبط أطنان من المواد المخدرة، وإلقاء القبض على عديد من العصابات في المناطق الوعرة.
ولأن القضية مجتمعية، تضمن المحور الثاني نشر حملات تثقيفية وتوعوية بين مفاصل المجتمع، على أن تتابع الشرطة المجتمعية الملف المذكور.
صراع الهويات
وبتاريخ 26 فبراير 2022، حرر قسم استخبارات وأمن قيادة عمليات بغداد مختطفة، وألقى القبض على خاطفيها بالتنسيق مع مفرزة من مكتب مكافحة إجرام (حي العامل-التاجي)، وتم تسليم الخاطِفَين إلى الجهات المختصة لينالا جزاءهما العادل.
وفي الشق النفسي والأسباب السيكولوجية للعنف، يقول قاسم حسين صالح مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية، إن "أخطر أنواع التعصب ذلك الذي تتجسد فيه الكراهية بأبشع حالاتها ويدعى التعصب السلطوي، الذي أخذ شكل الحروب التي وصلت في بعض الحالات حد الإبادة الجماعية كالتعصب العرقي أو التعصب الطائفي".
ويضيف "على الرغم من أن التعصب كان موجوداً في مجتمعنا قبل 2003، لكن أعراضه لم تكن حادة وواضحة حتى 2005، حين تفجر العنف بعنوان جديد سمي (صراع الهويات). والمسألة السيكولوجية هنا أن الهوية لها الدور الأكبر في تحديد أهداف الفرد وتوجيه سلوكه ونوع العلاقة التي تربطه بجماعة أو جماعات خاصة في أوقات المحن والأزمات، وهو ما حصل بين عامي 2006 و2008 في احتراب راح ضحيتها عشرات الآلاف من العراقيين، وصل عددهم إلى 100 قتيل في يوليو (تموز) 2007، أطلق عليها (الاحتراب الطائفية)، فيما كان من الأصح تسميتها (احتراب عقائدية)، إذ بلغت مرحلة أن يقتل العراقي أخاه العراقي بسبب الاسم ودلالاته".
ويعتبر أن ما يستفز الطائفيين في السلطة أن الدراسات الكلاسيكية توصلت إلى أن فكرة التعصب هي التطرف الذي يتغذى على معتقدات مفبركة وأحداث تاريخية مزورة تشيع بين جمهور محدود الوعي يسهل توجيهه واقتياده نحو الهلاك.
ظاهرة الانتحار بين اليأس واليأس
ويشهد العراق تزايداً في أعداد حالات الانتحار سنوياً، وقد بلغ عدد الضحايا 772في عام 2021، وهذا الرقم يشير إلى الحالات المكتشفة التي تم الإبلاغ عنها، الصادرة في بيانات وزارتي الصحة والداخلية ومفوضية حقوق الإنسان. إلا أن الأرقام الحقيقية تُشكل أضعاف الرقم المذكور، ففي مجتمع تحكمه العشائر مثل العراق يصعب فيه تناول هذا الأمر، ويتحتم عليهم التكتم على الموضوع، خصوصاً بالنسبة إلى الفتيات القاصرات عندما تكون أسباب الانتحار ظروف الفتاة العائلية القاهرة.
وأوضح متحدث وزارة الداخلية خالد المحنا "أن حالات الانتحار المسجلة عام 2021 هي أكثر بنحو 100 حالة عن العام الماضي (663 حالة)، قائلاً "إن حالات الانتحار بدأت منذ عام 2016 تتجه نحو الازدياد".
وفي 2016 بلغت حالات الانتحار 393 حالة، أما عام 2017 بلغت 462 حالة، وفي عام 2018 530 حالة، وفي عام 2019 بلغت 605 حالات.
دوافع الانتحار
وأضاف المتحدث أن "الفئات العمرية الأقل من 20 سنة، كانت نسبتهم 36.6 في المئة، أما من هم بين 20 و30 سنة، كانت نسبتهم 32.2 في المئة، ونسبة الذكور تشكل 55.9 في المئة، فيما الإناث 44.8 في المئة". وبين المحنا أن "حالات الانتحار لدى المتزوجين تشكل 40 في المئة و55 في المئة بالنسبة للعزاب".
وفيما يخص المراحل التعليمية، قال إن "نسبة المنتحرين من الذين كان تحصيلهم الدراسي أقل من المرحلة الابتدائية بلغت 62.2 في المئة، ودون المتوسطة 16.9 في المئة، والعاطلين من العمل 35 في المئة، وربات البيوت 29.9 في المئة".
وعن دوافع الانتحار، أكد متحدث الوزارة أن هناك أسباباً عدة منها ما يتعلق بالضغط النفسي، وشكل عدد المنتحرين بسبب ذلك 36.22 في المئة، أما الاضطرابات النفسية فبلغت 34.64 في المئة.
وأشار أيضاً إلى أسباب تتعلق بالتفكك والعنف الأسري، والوضع الاقتصادي، إذ شكل الفقر 13 في المئة، والبطالة 9.5 في المئة، والأسباب الدراسية وعدم تحقيق الطموح 13.38 في المئة، والفشل الدراسي 5.5 في المئة.
وبسبب تزايد نسب حالات الانتحار في عموم البلاد، اتخذت وزارة الداخلية جملة من التدابير، منها تشكيل لجان متخصصة لدراسة هذه الظاهرة، والخروج بمعطيات تبين أسبابها ونسبتها مقارنة مع دول الجوار، كما أفاد متحدث الوزارة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
"لأنه لم يعد يحتمل"
وجاء في رسالة كتبها يدعى جدعان الصائي، أب لطفلين توأمين، قبل أن يقتل نفسه، "لم يفعل أحد بي شيئاً، إلا أن كل شيء من حولي لم يعد يُحتمل". ولم تختلف أوضاع معظم الشباب الذين أقدموا على الانتحار، أو معاناتهم، عما كان يعانيه جدعان من البطالة في ظل الزيادة السكانية وانتشار سيطرة التنظيمات المسلحة على الحياة العامة، خصوصاً في بغداد والمناطق الجنوبية.
كما تعدت حالات الانتحار فئة الشباب، وبات المجتمع العراقي يشهد حالات مماثلة لدى الأشخاص الذين تجاوزوا الخمسين من العمر، كما حصل مع المواطن الذي ألقى بنفسه في نهر دجلة في مدينة الموصل.
تبدل نمط العيش
كما أقدمت شابة تبلغ من العمر 32 سنة، على الانتحار، يوم السبت 26 فبراير 2022 في محافظة ديالى شمال شرقي العاصمة. ولم تُذكر الأسباب والظروف التي أودت بحياتها سوى كونها منفصلة عن زوجها وتمر بظرف اقتصادي صعب، إذ تسدد فواتير شهرية فوق قدرتها المادية، فضلاً عن كونها لا تملك معيلاً أو مرتباً حكومياً.
الخبير القانوني علي التميمي أشار إلى وجود دراسات عدة في كل دول العالم للحد من هذه الظاهرة التي بدأت في الانتشار بشكل كبير. إذ يرى أن البطالة والإحباط أهم سببين، ويقول "لا نغفل تأثير المخدرات، والسلاح المنفلت، إضافة لما ينشر في الإعلام من برامج وأفلام عنف تلعب دوراً كبيراً ومؤثراً".
واستناداً إلى الأرقام التي أصدرتها وزارة الهجرة والمهجرين العراقية، فقد تعرض ثلث الشعب العراقي إلى حالة نزوح واحدة خلال السنوات العشر الأخيرة، أي ما يقرب من 12 مليون مواطن عراقي اضطروا إلى ترك بيوتهم وأرضهم وحتى عائلاتهم. ويشكل النزوح عاملاً رهيباً في تغيير أنماط العيش والقيم وشكل العلاقات داخل الأسرة والعلاقة مع المحيط. وحالة انتحار إحدى النازحات من أهالي سنجار داخل مخيم غربي في محافظة نينوى، تؤكد ما ورد.
ولكن هل يعاقب القانون العراقي على الشروع في الانتحار؟
يجيب الخبير القانوني مقدار الحسيني من الوجهة القانونية، المادة 408 من قانون العقوبات العراقي وتعديلاته بالرقم 111 لسنة 1969، هي الحاكمة في جريمة الانتحار، أن الجريمة حُصرت بالتحريض على الانتحار، وليس عملية الانتحار بالذات. إذ اعتبر القانون عملية التحريض أحد أسباب الجريمة في حالة قيامها، ولذلك أُسقط العنصر الجزائي على الضحية لاعتبار أن جريمة الانتحار إن لم تحصل فليس هنالك جريمة. وإن صرح بها من باب الإقرار فإن التسبيب يقع على التحريض.
وشدد المُشرع أن عقوبة تحريض القاصر أو المريض قد تصل إلى السجن المؤبد، وفي حالة عدم قيام الجريمة فإن العقوبة بالإثبات تكون الحبس.
أما من الوجهة الاجتماعية، يوضح الحسيني أن البيئة الاجتماعية هي السبب الرئيس لوقوع جريمة الانتحار لأسباب منها الفقر والفاقة، والمرض، والبطالة، والعنف أو ما يسمى بـ "العنف الأُسري".
كما يلعب العامل التكنولوجي وتطور تقنية المعلومات والسوشيال ميديا وتأثير استخدامها السلبي، دوراً في تضليل الأفكار، خصوصاً من يعاني من مشكلات وأزمات وصعوبات عائلية أو معيشية وغيرها، ما يزيد من التنافر الاجتماعي والتشتت الأُسري، كذلك الأمر في العلاقات الزوجية وتداعيات العلاقات المشبوهة، فضلاً عن ظروف العمل وما تسببه من علاقات متأزمة، كلها أسباب قد تقود إلى الانتحار.
ويضيف الحسيني "أثبتت وقائع التاريخ المعاصر أن للحروب بمختلف أنواعها، سواء أهلية أو خارجية، دوراً كبيراً في ما تعانيه شرائح المجتمع من أذى ودمار".
الردع القانوني
تتجسد حالات العنف بجرائم الحرق، واغتصاب الصغار، وتقطيع الجثث، واستخدام الأساليب الوحشية، فضلاً عن وجود النزعة لدى الجناة، وهنا يطغى الجانب النفسي مثل المجرم السايكوباثي، أي الحاقد على المجتمع، والمصاب بانفصام الشخصية (الشيزوفرينيا)، والخوف من المجتمع (البارانويا)، وغيرها من الأسباب كما يقول علم النفس الجنائي. وهذا يحتاج إلى دراسات من قبل المتخصصين، ومن ثم نشر الوعي من طريق الإعلام ورجال الدين والمدارس، بحسب التميمي.
وأضاف "أما أهداف العقوبة الجنائية فهي الردع وتحقيق العدالة المجتمعية، وقد تشدد قانون العقوبات العراقي في مثل هذه الجرائم، فالقتل بالحرق عقوبته الإعدام وفق المادة 406/1 وحتى اغتصاب الصغيرات عقوبته الإعدام وفق المادة 393/2 من قانون العقوبات العراقي".
وتابع التميمي أن مثل هذه الجرائم طارئة على العراق وتحتاج إلى وقفة طويلة وحلولاً سريعة.
المواطن متأزم بسبب أوضاعه
وعلق الباحث في الشأن الاجتماعي عبد الواحد مشعل، قائلاً "جرائم القتل، وظاهرة الانتحار، وانتشار العنف في المجتمع العراقي قد تكون مرتبطة ببعضها، ولكل منها أسبابه وظروفه. فالقتل يحصل لأسباب عدة منها الانتقام، أو نتيجة مشاجرة بسيطة، أو بدوافع ماليه أو سرقة. ولعل الضغوط النفسية والأوضاع الاقتصادية الصعبة للأفراد تكون من أهم العوامل الأساسية للقتل. ولعل غياب لغة التفاهم والحوار هي السبب في إشعال الموقف. فالمواطن العراقي متأزم ويصعب عليه تحمل أبسط المواقف فينتابه الغضب والانفعال بسهولة.
ويفيد مشعل بأن للانتحار أسباب مختلفة، أحدها وصول الفرد إلى حالة اليأس الشديد بسبب ضيق ذات اليد، والشعور بالعجز، أو إحساسه بالتهديد في عمله ومصدر رزقه، أو التوجه إلى تعاطي المخدرات، وفي حال عدم القدرة على مواجهة كل ذلك يكون الانتحار هو السبيل الوحيد للخلاص.
ويختم المشعل "أما العنف فهو أكثر انتشاراً بحكم الظروف المتأزمة في المجتمع، وأسبابه انعدام العقلانية وغياب الحكمة، فضلاً عن التوتر في العلاقات بين المجتمع ومؤسساته، ما يتطلب من الدولة نشر برامج التنمية البشرية في محاولة لنقل المجتمع إلى مرحله أكثر تطوراً تشبع فيها حاجات الإنسان الأساسية، وتسهم في حل مشكلاته كالبطالة، من خلال تحسين الوضع الاقتصادي وإرساء العدالة الاجتماعية.