الأيام المقبلة كفيلة بتوضيح مدى صدقية التوقعات بأن الحرب في أوكرانيا ستعجّل إنجاز الاتفاق على البرنامج النووي في مفاوضات فيينا، استناداً إلى التسريبات عن إحداث تقدّم فيها، وإلى التقديرات بأن الولايات المتحدة والدول الأوروبية تحتاج إلى التخلص من مشكلة النووي الإيراني من أجل التفرغ لمواجهة روسيا التي باتت لها الأولوية على ملف إيران، في مقابل تقديرات معاكسة بأن موسكو، بالتعاون مع طهران، ستدفع نحو تشدد الأخيرة في فيينا، لإبقاء سائر الأزمات الدولية قائمة في وجه الإدارة الأميركية، رداً على الحرب الاقتصادية المتعبة التي يخوضها جو بايدن ضدها.
انزعاج إيراني من شروط لافروف على "فيينا"
وتراقب أوساط سياسية لبنانية انعكاسات حرب أوكرانيا على استعجال أو إبطاء اتفاق فيينا، نظراً إلى انعكاسه على لبنان وموقع إيران فيه.
واعتبر أحد كبار المسؤولين اللبنانيين المتصلين بالجانب الإيراني أن تصريحات وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف عن أن "إيران بحاجة إلى مزيد من الوضوح بشأن الاتفاق النووي وروسيا تريد ضمانات مكتوبة من الولايات المتحدة بأن العقوبات على موسكو لن تؤثر في تعاوننا مع طهران"، تؤشر إلى موقف يعيق إنجاز "اتفاق فيينا" على الرغم من التقدم المُحرَز حتى الآن، وأن هذا الموقف الروسي هو محاولة إيحاء أو ضغط على طهران لتأخير الاتفاق.
وأشار المسؤول اللبناني إلى ما نقلته وكالة "رويترز" عن "مسؤول إيراني رفيع"، بالقول إن مطالبة روسيا بضمانات، أمر "غير بنّاء" لمحادثات فيينا بشأن الاتفاق النووي. ويرى أن المسؤولين الإيرانيين عبّروا عن انزعاجهم لربط موسكو إنجاز اتفاق فيينا بالعقوبات الأميركية والأوروبية المفروضة عليها، لأن تصريح لافروف يعني أن موسكو قد تتجه إلى عدم التوقيع على الاتفاق الجديد، إذا كان سيؤدي إلى رفع العقوبات عن طهران، بحيث تتعامل معها الدول الغربية، فيما سيُمنع على روسيا أن تكون لها علاقات اقتصادية ومالية معها، في إطار الحصار الاقتصادي الغربي على موسكو.
الغاز البديل لأوروبا من إيران أو من إسرائيل؟
ويذهب باحثون إلى درجة ربط استعجال أميركا المفترض لإتمام اتفاق فيينا، بأنه مقدمة للاستعاضة بالغاز الإيراني عن الغاز الروسي لأوروبا لاحقاً. وفي المقابل، هناك مَن يستبعد أن تفضّل الإدارة الأميركية الغاز الإيراني كبديل، ولهذا تصرّ الإدارة على الإبقاء على كميات الغاز التي تستوردها من روسيا، رداً على أصوات في الكونغرس تطالبها بأن تشمل العقوبات وقف استفادة موسكو من ثمن الغاز الذي يدفعه الجانب الأميركي لها.
ويصنّف متابعون في بيروت للّعبة الدولية المتعلقة بأسواق الغاز العالمية، الاهتمام الأميركي بترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل على أنه من الأولويات الأميركية، بغية الاعتماد على الغاز في الشرق الأوسط، بدءاً من إسرائيل التي حققت تقدماً في التنقيب والحفر في أحد الحقول، تمهيداً لبدء الاستخراج من حقل "كاريش" المجاور للحقول اللبنانية. وفي رأي هؤلاء أن الاهتمام بالترسيم مصدره ضمان أمن حقول استثمار الغاز، لأن الإبقاء على الخلاف قائماً بين إسرائيل ولبنان، يهدد منصات الاستخراج الإسرائيلية في البحر، وفق تهديدات "حزب الله"، التي كان آخرها قول رئيس كتلة الحزب البرلمانية، النائب محمد رعد، "ليعلم العدو ومَن يتواصل معه، وسيطاً وغير وسيط، أن الإسرائيلي لن يتمكّن من التنقيب عن الغاز في جوارنا، ما لم ننقب نحن عن الغاز ونستثمره كما نريد، وليبلّطوا البحر".
وثمة مَن يعتبر أن حرب أوكرانيا، أدخلت لبنان مجدداً في اللعبة الدولية المتعلقة بأسواق الغاز، ولو من بعيد.
سوق الطاقة وخريطة الأنابيب
ويعتبر نائب رئيس الحكومة اللبنانية السابق غسان حاصباني، المتابع لمجريات الصراع على سوق الغاز العالمية ومشاريع الأنابيب في أوروبا منذ عقدين، أن "ما يحدث في أوكرانيا جزء من حركة استراتيجية دولية وإقليمية كبرى، لبنان داخلها وليس خارجها، لأنها معركة الطاقة التي تخضع لمنافسة بين روسيا وإيران على الدخول أو عدم الدخول إلى أكبر سوق للغاز، أي أوروبا. وروسيا هي أكبر خزان للغاز، تليها إيران. وأحد أسباب الحرب في سوريا، منذ أكثر من 10 أعوام، هو مشروع نقل الغاز من الخليج، تحديداً من الحدود بين إيران وقطر حيث كان هناك مخطط كي يُنقل عبر أنابيب إلى سوريا ثم تركيا فأوروبا، لكن الحرب السورية قطعت الطريق على ذلك. ودخلت روسيا، التي تبيع غازها إلى أوروبا بمئات المليارات، ولا تريد مَن ينافسها، إلى سوريا". وأضاف حاصباني، "أما في أوكرانيا، فليس في مصلحة روسيا الاستراتيجية أن تكون دول الحلف الأطلسي على مداخل الطاقة إلى أوروبا، وكان هناك على الدوام توتر مع تركيا التي هي على مداخل أوروبا وهي عضو في حلف شمال الأطلسي، ويمرّ منها أنبوب يبدأ في أذربيجان، فضلاً عن احتمال أن تكون تركيا معبراً لأي مشروع محتمل لأنبوب من إيران".
مطامع وتنافس إيران وروسيا شرق المتوسط
واعتبر نائب رئيس الحكومة السابق أن "لإيران مطامع بغاز شرق المتوسط، إما للسيطرة عليه أو لمنعه من الوصول إلى أوروبا، بسبب المنافسة المستجدة على أسواقها. ولروسيا اهتمام بشرق المتوسط، كاهتمامها بغاز أذربيجان، فإما أن تكون جزءاً من المنظومة التي تستخرجه وتبيعه لأوروبا، أو يكون تحت سيطرتها. والأمر ينطبق على إيران التي يهمها ألّا يكون هناك استخراج للغاز".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأوضح حاصباني أن "هذه المعركة الاستراتيجية بدأت قبل 20 عاماً. وصحيح أننا نرى تمدداً إيرانياً أيديولوجياً نحو شرق المتوسط، لكن هناك تمدد مصالح استراتيجية واقتصادية واستراتيجية أيضاً. هذه لعبة الدول، ولذلك دول كلبنان وأوكرانيا، الأفضل لها أن تكون على الحياد حيال كل الصراعات التي تحصل وتتجنب زجّ نفسها فيها، لأنها صراعات على مصالح دول كبرى".
وعن علاقة كل ذلك بمسألة ترسيم الحدود مع إسرائيل في ضوء تقديم الوسيط الأميركي بين بيروت وتل أبيب آموس هوكشتاين اقتراحاً مكتوباً، بينما تحضّر الدولة اللبنانية رداً مكتوباً عليه من جهة، وإعلان النائب رعد "أننا سنبقي غازنا مدفوناً في المياه"، رافضاً اقتراحاته التي يشتم منها السلام مع إسرائيل، قال حاصباني إنه "من الواضح أن هناك فريقاً لبنانياً لا نيّة لديه لترسيم الحدود سريعاً. وهي نيّة غير منبثقة من الحرص على حفظ الثروات النفطية والطبيعية للبنان، بل هي ورقة تفاوض على الطاولة التي يُفترض أن الدولة اللبنانية هي المفاوض ولها الكلمة النهائية، إذ شهدنا كيف أنه كلما اقتربت الدولة من نقطة اتفاق، بغض النظر عن ماهية هذه النقطة، يقوم فريق لبناني بإزاحة القطار عن السكة. وعندما تكون هناك مفاوضات إقليمية ودولية، يتحرك الموضوع. ولا أعتقد أن هناك نية لحل هذه المشكلة، لأن ذلك سيعني البدء باستخراج الغاز في لبنان ويعني أيضاً بناء أنابيب الغاز التي يُفترض أن تنطلق من شرق المتوسط إلى أوروبا. وهذا ليس من مصلحة مَن يسيطرون على هذا الشاطئ عسكرياً في الوقت الحاضر، أي الإيرانيين، لأنهم يملكونه ويريدون تصديره إلى أوروبا، ولأن لبنان سيكون أحد المنافسين في الأسواق الأوروبية. بالتالي، الدول التي تصدّر إلى أوروبا، ومنها روسيا، لا مصلحة لها بأن يستخرج لبنان أو الدول المجاورة له الغاز ويصدّره إلى هذه السوق، وأن يكون هناك أنبوب من لبنان إلى أوروبا. فهم يريدون للأنبوب أن يُمدَّد من دولهم، عبر سوريا أو لبنان".
بين الاستعجال الأميركي والإبطاء الإيراني
واعتبر حاصباني "في هذا الإطار، يستعجل الجانب الأميركي ترسيم الحدود الجنوبية للبنان لأنه يرغب بإيصال الغاز البديل للغاز الروسي إلى أوروبا. أما الفريق الذي يمثل طهران في لبنان، فهاجسه إيصال الغاز الإيراني إلى أوروبا، ومن هنا التشديد على رفع العقوبات ضدها لتتمكّن من التصدير وبناء الأنابيب، والحؤول دون منافسة الغاز الإيراني في أوروبا من قبل المصدرين الآخرين. وبما أن هناك شوطاً طويلاً عليهم قطعه ليتمكّنوا من ذلك، لا مصلحة لديهم بوجود منافس. لكن ليس في قدرتهم الحؤول دون الاصطدام بروسيا في هذه السوق. ومن هنا الحديث عن تضارب المصالح بين طهران وموسكو. وللجانب الروسي، الذي دخل كشريك في مشروع التنقيب عن الغاز في لبنان (عبر كونسورتيوم شركة "نوفاتيك" الروسية مع "إيني" الإيطالية و"توتال" الفرنسية)، مصلحة في استخراجه، شرط أن يكون هو اللاعب الأساسي، كي لا يكون هذا الغاز بديلاً عن الذي يصدّره إلى أوروبا".
وهذه هي القوى الثلاث (روسيا وإيران وأميركا) المعنية مباشرة باستخراج غاز لبنان الذي يتطلب ترسيماً، ثم التنقيب في مواقع يُفترض ألّا تكون تحت تهديد الصواريخ (من "حزب الله").
يُذكَر أن لبنان على قارعة الانتظار منذ عام 2006 حين بدأ التفكير في مدّ أنابيب الغاز إلى أوروبا، ثم طلب في فترة عامَي 2009 و2010 من الحكومة السورية تمرير أنبوب غاز من الحدود الإيرانية - القطرية، فتركيا، إلى أوروبا قبيل الحرب السورية. ويلاحظ حاصباني أن "تدهور الوضع في لبنان انطلق بُعيد عام 2010، حين بدأ الاقتصاد اللبناني بالانكماش ثم اعتُمدت سياسة تعطيل الدولة اللبنانية من الداخل، إثر إقالة رئيس الوزراء (السابق) سعد الحريري، ثم الفراغ الرئاسي لسنتين ونصف السنة، فتحوّل لبنان إلى بلد مشلول ولا يزال. ويخضع لبنان في هذه الأيام لعوامل سياسية وخارجية تجعل منه منصة تهديد وورقة تفاوض مع الدول المعنية بالطاقة إلى أوروبا".