ارتفع القمح إلى أعلى مستوى منذ عام 2008 وسط مخاوف متزايدة من حدوث نقص عالمي، حيث أدت حرب أوكرانيا إلى وقف أكثر من 25 في المئة من صادرات العالم من المواد الأساسية المستخدمة في كل شيء من الخبز إلى البسكويت والنودلز. وتزود روسيا وأوكرانيا ما يقرب من ثلث صادرات القمح العالمية، ومنذ الهجوم الروسي على جارتها، توقفت الموانئ المطلة على البحر الأسود تقريباً، ونتيجة لذلك، ارتفعت أسعار القمح إلى مستويات قياسية متجاوزة المستويات التي شوهدت خلال أزمة الغذاء في 2007-2008.
وتتجه الأسعار إلى تحقيق مكاسب أسبوعية قياسية بنحو 40 في المئة، متصاعدة منذ الهجوم الروسي على أوكرانيا وفرض الولايات المتحدة وأوروبا عقوبات شاملة على روسيا. كما أغلقت الحرب الموانئ الرئيسة في أوكرانيا، وقطعت الروابط اللوجيستية والنقل. كما يهدد القتال بعدم زراعة المحاصيل في الأشهر المقبلة، كما جفت التجارة مع روسيا في الغالب، حيث وجد المشترون صعوبة في التغلب على تعقيد العقوبات وارتفاع تكاليف التأمين والشحن.
التخزين الصيني للحبوب يرفع الأسعار
وتعتبر روسيا وأوكرانيا أيضاً من الموردين الرئيسيين للذرة والشعير وزيت عباد الشمس. وارتفعت الذرة هي الأخرى إلى أعلى مستوى منذ عام 2012، بينما وصل زيت فول الصويا وزيت النخيل إلى مستويات قياسية. في غضون ذلك، تتحرك الصين، أكبر مستورد للذرة وفول الصويا في العالم وأحد أكبر مشتري القمح لتأمين الإمدادات الأساسية بالأسواق العالمية، مما يساعد على ارتفاع الأسعار.
وارتفع سعر القمح إلى أعلى مستوى له في 14 عاماً وسط مخاوف بشأن الإمدادات وقفزت العقود الآجلة للقمح بحدود الصرف في شيكاغو، الجمعة، حيث ارتفعت 6.6 في المئة لتصل إلى 12.09 دولار للبوشل (أداة قياس بريطانية وأميركية للأحجام الجافة). وهناك توقعات بمزيد من ارتفاع الأسعار.
ويأتي الضغط على تضخم أسعار الغذاء في وقت تتعمق فيه معضلة محافظي البنوك المركزية حول مدى رفع أسعار الفائدة، كما تضر فيه الحرب والعقوبات النمو وتلقي بظلالها على الاقتصاد العالمي لفترة طويلة مقبلة.
مخاوف بشأن الإمدادات
وقالت شركة "سيتي غروب أنك" لموقع "بزنس ستاندرد"، إن "الأسعار قد ترتفع إلى 14 دولاراً أو 14.50 دولار في سيناريو (الصعود الشديد) إذا ظلت صادرات البحر الأسود مغلقة. كما اجتاحت الاضطرابات حتى الأرز، حيث اقتربت العقود الآجلة في شيكاغو من أعلى مستوياتها منذ مايو (أيار) 2020.
ويثير ارتفاع الأسعار مخاوف بشأن الإمدادات لكبار المستوردين ويزيد من احتمالات تحركات البلدان مثل مصر أكبر مستورد للقمح لحماية أسواقها من خلال الحد من الصادرات الغذائية. وصدرت روسيا وأوكرانيا 86 في المئة من إنتاجها من القمح في عام 2020، وفقاً للأمم المتحدة، وأدت الحرب والعقوبات وارتفاع التكاليف إلى إعاقة جهود تأمين الحبوب. ويحمل هذا صدى إضافياً بالدولة الواقعة في شمال أفريقيا، حيث أسهم ارتفاع أسعار المواد الغذائية في احتجاجات الربيع العربي قبل عقد من الزمن.
وحجز المشترون الصينيون، أخيرا، حوالى 20 شحنة من فول الصويا الأميركي ونحو 10 شحنات من الذرة، وفقاً للتجار الذين طلبوا عدم الكشف عن هويتهم لأنهم غير مصرح لهم بالتحدث علناً. هذه الخطوة هي مثال آخر على تركيز الدولة الصينية على تأمين الإمدادات في وقت ارتفاع الأسعار. كما ارتفعت العقود الآجلة للذرة 17 في المئة هذا الأسبوع، وتتجه لتحقيق أكبر مكاسب أسبوعية منذ 2008.
وستمتلك الأرجنتين، أحد أكبر مصدري القمح في العالم، آلية قائمة حتى أوائل عام 2024 لضمان الإمدادات للمطاحن المحلية والحفاظ على أسعار محلية منخفضة للسلع الأساسية مثل الدقيق والمعكرونة. وقالت الحكومة، "الآلية هي استجابة لضرورة فصل الأسعار لحماية السوق المحلية في سياق عالمي للحرب وارتفاع أسعار القمح المستدام".
تأثير الهجوم الروسي في زراعة القمح بأوكرانيا
عادة ما ينشغل كيس هوزينجا، المواطن الهولندي بزراعة القمح والشعير والذرة في مزرعته وسط أوكرانيا، ولكن بعد أن فقد العمال في الخطوط الأمامية، ترك هوزينجا صوامع الحبوب الخاصة به ليدق ناقوس الخطر بشأن تأثير الهجوم الروسي في إمدادات القمح العالمية.
وقال المواطن الهولندي، "إذا لم يبدأ المزارعون في أوكرانيا الزراعة في أي وقت قريب، فستكون هناك أزمة كبيرة للأمن الغذائي". وقال هوزينجا الذي يعمل في الزراعة منذ عقدين في تشيركاسي، على بعد 200 كيلومتر جنوب كييف، لـ"فايننشال تايمز"، "إذا انخفض إنتاج الغذاء في أوكرانيا خلال الموسم المقبل، فقد يتضاعف سعر القمح مرتين أو ثلاثة أضعاف".
ورغم إمكانية أن يستمر القمح المخزن جيداً، مثل ذلك الموجود في مزرعة هوزينجا، لعدة أشهر، فقد حذر خبراء الزراعة وصناع السياسات من تأثير الشحنات المتأخرة في البلدان التي تعتمد على المنطقة في إنتاج القمح والحبوب وزيت عباد الشمس والشعير.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقال جوزيف غلوبر، كبير الاقتصاديين السابق في وزارة الزراعة الأميركية وزميل أول في المعهد الدولي لبحوث السياسات الغذائية، "سيتعين عليهم العثور على موردين مختلفين، وكل هذا يعني ارتفاع الأسعار".
من جانبهم حذر المحللون ومنظمات المعونة الغذائية من "أن الارتفاع في الأسعار سيؤدي إلى ارتفاع تضخم أسعار المواد الغذائية، الذي بلغ بالفعل أعلى مستوياته في سبع سنوات عند 7.8 في المئة خلال يناير (كانون الثاني)، وسيكون التأثير الأكبر في الأمن الغذائي لمستوردي الحبوب الأكثر فقراً".
دول تعتمد على القمح الأوكراني
وتستحوذ أوكرانيا على 80 في المئة من واردات لبنان من القمح وهي مورد رئيس أيضاً لدول بينها الصومال وسوريا وليبيا. وقال جيمس سوانستون، اقتصادي الأسواق الناشئة في "كابيتال إيكونوميكس"، إن "لبنان يكافح بالفعل مع فاتورة استيراد مرتفعة بالفعل، وهذا لن يؤدي إلا إلى تفاقم الأمور".
كما تزود روسيا جارتها تركيا المطلة على البحر الأسود بأكثر من 60 في المئة من وارداتها من القمح، وفقاً للكومتريد (مستودع لإحصاءات التجارة الدولية الرسمية والجداول التحليلية ذات الصلة). وحتى قبل الهجوم الروسي لأوكرانيا، كان التضخم في تركيا قد سجل أعلى مستوى له في 20 عاماً عند 54.4 في المئة خلال فبراير (شباط). وقال إسماعيل كمال أوغلو، الرئيس السابق لمجلس الحبوب التركي التابع للدولة والمدير الحالي لشركة "آي كي تاريموسو" الاستشارية، "لن تؤدي الحرب إلا إلى تفاقم تكلفة الغذاء".
وأضاف أوغلو، "المهم هنا هو أن البحر الأسود يقدم ميزة لوجيستية وسعرية". وقال، إن "التكاليف سترتفع بشكل كبير عندما تشتري تركيا من الولايات المتحدة أو أستراليا". وتابع، "حتى لو انتهت الحرب غداً، فقد تعطل موسم الزراعة فعلياً في أوكرانيا مما سيؤثر ذلك على حصاد 2022 بغض النظر عن ما ستؤول إليه الأزمة الروسية- الأوكرانية."
نقص القمح يوجع البلدان الفقيرة
وكان برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة، قد اشترى ما لا يقل عن 1.4 مليون طن من القمح العام الماضي، وكذلك الحبوب الأخرى والمواد الغذائية لتوزيعها على البلدان الفقيرة، كان 70 في المئة مصدرها أوكرانيا وروسيا.
وقبل الهجوم كانت تواجه زيادة بنسبة 30 في المئة في كلفة القمح، بسبب ضعف المحاصيل في كندا والولايات المتحدة والأرجنتين. وقال عارف حسين، كبير الاقتصاديين في برنامج الأغذية العالمي، "الزيادة الأخيرة في أسعار الحبوب ستحد من قدرتنا على تقديم المساعدة. هذه صدمة غير ضرورية ذات أبعاد ضخمة".
الأزمات وتاريخ من الارتفاعات
في المرة الأخيرة التي ارتفعت فيها أسعار القمح إلى هذه المستويات في عامي 2007 و2008 بسبب الانخفاض الحاد في الإنتاج بالبلدان المنتجة الرائدة مثل أستراليا وروسيا، بفعل تداعيات الأزمة المالية العالمية، حيث انتشرت الاحتجاجات عبر ما يقرب من 40 دولة من هايتي إلى ساحل العاج، بينما قفزت أسعار الحبوب في عام 2009. ويعتبر القمح رقم 10 كأحد مسببات انتفاضات الربيع العربي في الشرق الأوسط.
وتشكل روسيا ربع واردات مصر من القمح. وتقول السلطات المصرية، إن "مخزوناتها من القمح ستستمر حتى منتصف يونيو (حزيران)، وإن موسم الحصاد المحلي المصري يجب أن يبدأ بحلول منتصف أبريل (نيسان)". ويرى المحللون "أن أي ارتفاع في أسعار الخبز المدعوم وزيادة تضخم أسعار المواد الغذائية في مصر يزيد من خطر الاضطرابات الاجتماعية".
وأضاف المحللون، "أنه من غير الواضح أيضاً إلى متى ستستمر الأزمة"، وعبر تيم وورليدج من وكالة البيانات الزراعية والتسعير عن قلقه من أزمة غذائية مقبلة بالقول، "ليست مشكلة سيتم حلها في أي وقت قريب".
وبحسب الخبراء، فإن مخزونات القمح ضيقة في كل مكان، ومع قيام المشترين الصينيين والكوريين الجنوبيين للذرة الأوكرانية، التي تستخدم لإطعام الماشية، بالبحث عن بائعين في أماكن أخرى، ناقش وزراء الزراعة في الاتحاد الأوروبي، الأربعاء، السماح للمزارعين بزيادة الإنتاج باستخدام نسبة 10 في المئة من الأراضي التي يتركونها بور (غير مستزرعة) في العادة استجابة للطلب المتزايد على القمح.
على المدى القصير، قد يكافح المزارعون الأوكرانيون الذين يواجهون الحرب لنشر الأسمدة والمبيدات الحشرية وزراعة البذور لمحصول الربيع. أما المحصول المقبل فمن المقرر أن يكون في الصيف الأوروبي. وسيعتمد هذا الحصاد بشكل كبير على المدة التي سيستغرقها الهجوم الروسي ومدة حظر الصادرات عبر الموانئ.