أثار توقيت القصف الإيراني على ما اعتبرته طهران "أهدافاً استراتيجية" إسرائيلية في مدينة أربيل، جملة من التساؤلات بشأن فحوى الرسالة التي أرادت طهران إيصالها إلى القادة الأكراد، في وقت تخشى فيه القوى الموالية لها في بغداد احتمالات "الإقصاء" عن مركز القرار جراء الخلافات داخل "البيت الشيعي"، مقابل اتساع التعاون بين الأكراد والسنّة على المستوى المحلي والإقليمي.
وكانت السلطات في إقليم كردستان أعلنت "سقوط 12 صاروخاً باليستياً بعيد المدى في مدينة أربيل بعد منتصف ليلة السبت 12 مارس (آذار). وقد أُطلقت من جهة الشرق خارج الحدود العراقية (في إشارة إلى إيران)، مستهدفة القنصلية الأميركية ومناطق سكنية وقناة فضائية". وأكدت أن "الصواريخ سقطت في محيط القنصلية (على بعد أكثر من كيلومترين) من دون وقوع خسائر بشرية سوى إصابة مدنيين بجروح طفيفة، فضلاً عن إلحاق أضرار مادية في مبان ومنازل مدنية"، نافية "وجود أي مواقع إسرائيلية في كردستان".
وتبنى الحرس الثوري الإيراني الهجوم رسمياً، وقال في بيان إنه "أمطر بصواريخ قوية ودقيقة المركز الاستراتيجي للمؤامرات الصهيونية في أربيل". وحذر ما وصفه بـ "الكيان الصهيوني" من أن "تكرار أفعاله الشريرة سيقابل برد حازم ومدمر".
يذكر أن متحدثاً باسم وزارة الخارجية الإيرانية كان هدد بـ"الانتقام من إسرائيل" على قتلها ضابطين إيرانيين في سوريا"، وذلك في قصف إسرائيلي قرب العاصمة دمشق الأسبوع الماضي.
وسبق لفصائل عراقية موالية لطهران أن شنت هجمات صاروخية على مصالح أميركية في العراق أبرزها قواعد عسكرية قرب مطار أربيل الدولي وفي محافظة الأنبار، عقب مقتل قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني ونائب رئيس "الحشد الشعبي" في العراق أبو مهدي المهندس في يناير (كانون الثاني) 2020.
"ليست سوى البداية"
وكتب المستشار في اللجنة الإيرانية للمفاوضات النووية سيد محمد مرداني معلقاً على تسجيل مصور للهجوم على "تويتر"، "هذا كان في أربيل الليلة الماضية... هذه ليست سوى البداية".
وتعددت آراء المراقبين في شأن الرسالة الإيرانية. فالبعض يرى أن تذرع طهران بالرد على إسرائيل يحمل في مضمونه تحذيراً مبطناً لأربيل التي يحكمها "الحزب الديمقراطي" بزعامة مسعود بارزاني الذي بات يُتهم من جانب أوساط إيرانية بالإسهام في تشتيت "البيت الشيعي" في أعقاب تحالفه مع زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر ورئيس البرلمان محمد الحلبوسي. فيما يربط آخرون الموقف بـ"تمادي" أربيل في ضرب مصالح طهران الإقليمية، من خلال تكثيف مساعيها لتصدير الغاز إلى تركيا الباحثة عن بدائل للغاز الإيراني والروسي، تزامناً مع عودة علاقاتها إلى طبيعتها مع إسرائيل.
فشل إيراني
ويعتقد الكاتب رستم محمود أن "إيران منذ سنوات تتعرض للقصف في سوريا ولم ترد بهذه الشدة، ثم أن إيران كانت تحترم سياسة أربيل المتوازنة في علاقاتها مع أنقرة وطهران، ولم تكن حادة إلى هذا الحد في العلاقة القائمة بين أربيل وتركيا". ويضيف "من الواضح، من خلال بعض المعلومات والقراءات، أنها فشلت في تفكيك التحالف الثلاثي بين الديمقراطي والتيار الصدري والحلبوسي، أو الحصول على ضمانات من هذا التحالف بشأن التوجهات والاستراتيجيات المستقبلية لأي حكومة عراقية قد تتشكل في المستقبل القريب".
موقف الصدر من الهجوم كان لافتاً، وهو أول من دان الهجوم. وكتب على "تويتر" أن "نيران الخسران والخذلان، تحت طائلة التجويع وكأن الكرد ليسوا عراقيين... أربيل لن تركع إلا للاعتدال والاستقلال والسيادة".
وكان الصدر استضاف السبت الماضي، في مقره في مدينة النجف، اجتماعاً للأطراف السياسية بما فيها قوى "الإطار التنسيقي" الشيعية التي توصف بالمقربة من إيران، وسط تفاؤل بالتوصل إلى صيغة توافقية لحل أزمة تشكيل الحكومة الجديدة. إلا أن الأطراف لم تتوصل إلى أي نتائج. وعلق الصدر لاحقاً في تغريدة، "لا شرقية ولا غربية حكومة أغلبية وطنية"، في إشارة إلى المضي في تحالفه مع بارزاني والحلبوسي.
وأعلن مكتب الصدر عقب الهجوم أن الأخير "عقد غرفة عمليات لإجراء الاتصالات الداخلية والخارجية بجهات حكومية وسياسية حول الاعتداء الذي طال أربيل، باعتباره سابقة خطيرة تهدد أمن الوطن وسيادته". وقال إن الصدر تلقى اتصالاً هاتفياً من بارزاني "واتفقا على تشكيل لجنة تقصي حقائق للوقوف على ذريعة وجود مقرات إسرائيلية استهدفت". ودعا "الجهات المختصة إلى رفع مذكرة للأمم المتحدة والسفير الإيراني فوراً، مع أخذ ضمانات بعدم التدخل الخارجي، إذ ينبغي عدم استخدام الأراضي العراقية ساحة للصراعات السياسية والأمنية والعسكرية".
ويرى محمود أن "طهران تخشى مخاض نظام سياسي جديد في العراق يحمل رغبة في تفكيك مراكز القوى العراقية الموالية لإيران، خصوصاً المسلحة منها". ويقول إن "إيران تسعى لتوجيه رسالة ربما هي أكثر وضوحاً وعنفاً مما سبق، بأن ذلك لن يحصل مطلقاً وتحاول تحطيم هذا الإصرار من قبل التحالف، في المرات السابقة كانت ترسل بعض الطائرات المسيرة من الداخل العراقي وتخفي هوية الفاعل، واليوم تطلق صواريخ باليستية من خارج الحدود".
إدانات واسعة
الهجوم لاقى إدانات محلية ودولية واسعة، إذ أعلن المجلس الوزاري للأمن الوطني عقب اجتماع "استثنائي" عقده برئاسة رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، في بيان، أن "العراق طلب توضيحاً من الجانب الإيراني وينتظر موقفاً". وأكد المجلس أن "الهجوم هو اعتداء على مبدأ حسن الجوار بين العراق وإيران، فضلاً عن كونه انتهاكاً للقوانين والأعراف الدولية، وسبق للعراق أن أعلن رفضه استخدام أراضيه لتصفية الحسابات بين الدول والجهات"، مشيراً إلى أن "العراق طلب عبر المنافذ الدبلوماسية توضيحات صريحة وواضحة من الجانب الإيراني، وهو ينتظر موقفاً من القيادة السياسية الإيرانية في رفض الاعتداء".
وقال رئيس إقليم كردستان نيجيرفان بارزاني إن "تكرار استهداف أربيل بهذه الصورة سابقة خطيرة وانتهاك صارخ لأمن العراق واستقراره وسيادته، ويزيد من تعقيد حاضر ومستقبل البلاد"، داعياً حكومة بغداد والمجتمع الدولي إلى "الوقوف الجدي على هذه الاعتداءات".
من جانبه، شدد رئيس حكومة الإقليم مسرور بارزاني على أن "أربيل لن تنحني للجبناء". بينما أكد والده زعيم "الحزب الديمقراطي" مسعود بارزاني أن "أساليب التظليل والكذب لن تحجب حقيقة ونيات المهاجمين، وستبقى أربيل كما كانت عبر تاريخها صامدة في وجه الطغاة".
وبعد ساعات من الهجوم، أعلن محافظ أربيل أوميد خوشناو أنه اصطحب القنصل الأميركي روبرت بالدينو "في جولة في مدينة أربيل وتناولنا طعام الغداء".
وأكد الرئيس العراقي برهم صالح أن "الهجوم جريمة إرهابية، وتوقيته مُريب مع بوادر الانفراج السياسي، ويستهدف عرقلة الاستحقاقات الدستورية بتشكيل حكومة مقتدرة". وحث على "الوقوف بحزم ضد محاولات زج البلد في الفوضى، وتوحيد الصف لدعم القوات الأمنية وترسيخ مرجعية الدولة ومكافحة الإرهابيين الخارجين عن القانون".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وشددت السفارة الأميركية في بغداد على "وجوب محاسبة النظام الإيراني على هذا الانتهاك الصارخ للسيادة العراقية وعلى الهجمات الإرهابية على ممتلكات المدنيين الأبرياء".
ودانت بعثة الأمم المتحدة في العراق "يونامي" الهجوم ودعت العراقيين "إلى توحيد الصف في مواجهة أي عمل ينتهك سيادة العراق ووحدة أراضيه، أو يقوض استقراره ووحدته". وأكدت أهمية "محاسبة مرتكبي هذا الهجوم الجبان".
في حين نوهت بعثة حلف "الناتو" في العراق عبر تدوينة لها إلى أن "أمن العراق مهم لجميع دول المنطقة ونحن ملتزمون ضمان بيئة أمنية مستدامة في هذا البلد المجيد".
ورجح كبير النواب الجمهوريين في لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ الأميركي ماركو روبيو أن يكون الهجوم "رداً على مقتل الضابطين الإيرانيين"، مضيفاً أن "طهران عمدت منذ أشهر على شن ضربات ضد القوات والمصالح الأميركية في العراق عبر وكلائها الميليشيات الشيعية، بهدف تسريع الرحيل العسكري والدبلوماسي الكامل من البلاد".
علاقات مع إسرائيل
في المقابل، يرى رئيس "الجمعية العراقية للعلوم السياسية" أسامة السعيدي أن "العراق يقع ضمن صراع إقليمي وعالمي، في ظل وجود صراع إسرائيلي- إيراني ضمني غير مباشر خارج أراضي الدولتين، وهناك ادعاء ومؤشرات على أن إقليم كردستان يرتبط بعلاقات أو تنسيق غير معلن مع إسرائيل، وبأنه يستضيف في أراضيه مؤسسات أو جهات إسرائيلية"، لافتاً إلى أن "الدولة العراقية ضحية هذه المواجهة، وأن غياب التنسيق بين حكومتي أربيل وبغداد منذ سنوات طوال، يعطي ثغرة سواء لإيران أو تركيا، وربما لإسرائيل، وتوفر هذه الثغرة فرصة لتلك الدول بخوض المعارك على الأراضي العراقية".
ويعتقد السعيدي أن الهجوم "هو بمثابة تحذير صريح يحتم على العراق اتباع الأطر القانونية وتوجيه مذكرة إلى السفير الإيراني في بغداد للاستفهام حول الهجوم، وكذلك اللجوء إلى الأمم المتحدة، والأهم هو أن يكون هناك تعاون وتنسيق صريح تحت عنوان أن الأمن يقع ضمن الصلاحيات الاتحادية وفق ما يمليه الدستور العراقي، ولا يمكن لإقليم كردستان أن ينفرد بسياسات منفصلة عن الحكومة الاتحادية".
ويضيف أن "كلاً من أنقرة وطهران تقصفان مناطق داخل الإقليم بحجة وجود متمردين أكراد، والإقليم غير قادر على احتواء هؤلاء المتمردين، وفي الوقت نفسه لا تسمحان للجيش الاتحادي القيام بالمبادرة، لذا فإن ما حصل يندرج ضمن سلسلة خرق السيادة العراقية والنظام السياسي الذي يحتاج إلى أن يبسط نفوذه على كامل أراضيه، إذ لا يمكن أن يوجد إقليم منفصل عن الدولة الأم، والأمر يعني أن دول الجوار غير مرحبة بأن يتمتع الإقليم بكيان متميز، وهذا ما حصل عندما رفضت هذه الدول في استفتاء الأكراد للاستقلال عام 2007".
وختم السعيدي بالقول إن "سياسات الإقليم البعيدة عن التعاون والتنسيق مع الدولة الاتحادية، في مجال النفط والأمن والدفاع وغيرها، بدأت تعود بالضرر عليه، ما يتطلب التكاتف والتعاون ولو بالحد الأدنى، من أجل تقليل الأضرار على الطرفين".
وأثار الهجوم نقاشات بين سياسيين وصحافيين في مواقع التواصل الاجتماعي. وتمحورت الآراء حول أسباب "عدم توجيه طهران هجمات مباشرة ضد إسرائيل، وأنها تكتفي بتوجيه ضربات غير مؤثرة على مصالح الأميركيين، بينما إسرائيل توجه ضربات موجعة ضد أهداف في داخل وخارج إيران.