لا يزال جامع الجزائر، وهو ثالث أكبر مسجد في العالم، بعد المسجد النبوي في المدينة المنورة، والحرم المكي، يُثير الجدل في البلاد ويفتح في كل مرة باب النقاشات على مصراعيه، بين تيارات فكرية ومرجعيات دينية.
مردّ السجال هذه المرّة تعيين الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، محمد مأمون القاسمي الحسيني، عميداً لجامع الجزائر برتبة وزير، ويعتبر الحسيني (78 عاماً)، من علماء الدين في الجزائر، وأشهر شيوخ الصوفية، تولى مناصب مسؤولية عدة من بينها: مدير مساعد للبرامج والامتحانات بوزارة التعليم، ومدير التوجيه الديني بوزارة الشؤون الدينية، ومستشار قائم بتنظيم الحج، ويعد شيخ زاوية الهامل (إحدى الزوايا في الجزائر الواقعة في بلدية الهامل بدائرة بوسعادة ضمن ولاية المسيلة)، ورئيس المعهد القاسمي للدراسات والعلوم الإسلامية، جنوب الجزائر، إضافة إلى كونه رئيس الرابطة الرحمانية للزوايا العلمية، وعضواً بالمجلس الإسلامي الأعلى في الجزائر، كما يتضح من سيرته الذاتية.
بين مؤيد ومتحفظ
هذا التعيين شغل ناشطين على منصات التواصل الاجتماعي بين مُرحّب بالخطوة بالاستناد إلى أن الرجل يشهد له بالاعتدال والتسامح، بينما غاص آخرون في خلفيات التعيين وأسباب اختيار الشيخ مأمون في هذا المنصب، وفتح باب التساؤلات عن مرجعتيه الدينية، لكونه ينتمي إلى المؤسسة الدينية التقليدية، وعبرت صفحات "فيسبوكية" وأصوات من التيار السلفي عن استغرابها وخيبتها من تعيين شيخ الطريقة الرحمانية محمد مأمون القاسمي، عميداً للجامع الكبير، ما يعني أنها كانت تتوقع ربما تعيين شخصية أقرب إلى توجهها.
اعتبارات سياسية ودينية
ويعكس تعيين أحد قادة الطريقة الرحمانية، وهي من أكبر الزوايا في الجزائر، في رأي مراقبين، تمسك السلطة في الجزائر بالمؤسسة الدينية التقليدية، التي تعتبرها أحد أقطاب المرجعية الوطنية، إذ لا تزال السلطة السياسية تنظر إلى الزوايا كلاعب أساسي ومهم في الحفاظ على الهوية الوطنية وقيم المجتمع الجزائري، لكونها عملت طيلة قرون كمصدات للاحتلال في الجزائر، وتأتي تصريحات عدة لمسؤولين رسميين تكريساً لهذه الرؤية من خلال تأكيدهم ضرورة استرجاع هذه المؤسسة الدينية مكانتها في المجتمع.
لكن في الجهة المقابلة، يجد تقارب السلطة من الزوايا من ينتقده، ويرون فيه محاولة للتوظيف السياسي، نظراً لتأثير هذه المؤسسات الدينية في المجتمع، بخاصة في المناطق الداخلية والأرياف، حيث لا تزال هذه الطرق الصوفية تحظى بتأثير كبير عند الناس.
ولعل ما يعاب على الطرق الصوفية، وقوع بعضها في ما يسمى "انحرافات" تقوم على تقديس الأضرحة التي يرقد بها الأولياء الصالحون، وتنظيم الولائم بها والاحتفالات المرتبطة بأساطير خرافية، على الرغم من أن صلب اهتماماتها هي تعليم القرآن وأصول الدين والحث على التربية الروحية، ما يجعلها تحظى بمكانة في المجتمع.
خطاب متجدد
وتعتبر السلطات الجامع الكبير، كما يسميه البعض، والمتربع على مساحة 200 ألف متر مربع، ويصل ارتفاع مئذنته إلى نحو 265 متراً، مركزاً علمياً وسياحياً، بأبعاد عالمية، اذ يرتقب أن يخوض في التحديات العصرية المرتبطة بالأديان.
وفي أحد تصريحاته أعطى الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون تعليمات بتكييف خطاب ومناهج ودروس المسجد الأعظم مع مقاربة الجزائر في حربها على الإرهاب، والعمل على "تصحيح الفهم الخاطئ للدين لمن غرر بهم من قبل تجاره".
ويتسع هذا الصرح الديني لأكثر من 120 ألف مُصلٍّ، ويضم ثلاثة طوابق تحت الأرض مساحتها 180 ألف متر مربع مخصصة لأكثر من ستة آلاف سيارة، وقاعتين للمحاضرات مساحتهما 16100 متر مربع، واحدة تضم 1500 مقعد، والثانية 300 مقعد، كما يضم مكتبة فيها 2000 مقعد ومساحتها 21800 متر مربع، وبلغت تكلفة مشروع بناء المسجد الذي أنجزته شركة صينية 1.5 مليار دولار.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقالت السلطات في البلاد، إن جامع الجزائر الذي تم إدراجه في بروتوكول زيارات الوفود العربية والإسلامية، سيكون "قلعة للوسطية والاعتدال ومحاربة التطرف الديني، في المنطقة العربية والإسلامية والقارة الأفريقية ومنطقة المتوسط".
ومنذ الإعلان عن بنائه أثار جامع الجزائر جدلاً واسعاً مرتبطاً بنقاشات أيديولوجية بين المؤيدين لبنائه والمعارضين له، منهم التيار العلماني بداعي أن الجزائر ليست في حاجة إلى مسجد بهذا الحجم، في حين كان يمكن تخصيص الميزانية المرصودة له لبناء مستشفيات أو مساكن لتخفيف عبء الأزمة السكنية، التي يعانيها الجزائريون أو خلق فرص عمل جديدة لتقليص البطالة التي تطاول الشباب، لكن السلطات عزمت على استكمال المشروع، وفي 27 أكتوبر (تشرين الأول) 2020، أقيمت أول صلاة جماعية لافتتاح جامع الجزائر الكبير بمناسبة الاحتفال بالمولد النبوي.
وتم تزيين الجزء الداخلي للجامع بالطابع الأندلسي بما لا يقل عن ستة كيلو مترات من لوحات الخط العربي على الرخام والمرمر والخشب، أما السجاد فباللون الأزرق الفيروزي مع رسوم زهرية، وفق طابع تقليدي جزائري.
وعد بوتفليقة
فكرة المشروع جاءت بوعد أطلقه الرئيس الجزائري الراحل عبد العزيز بوتفليقة في عام 2004، إثر انتخابه فترة رئاسية ثانية، وبعد تأخير دام نحو ست سنوات لأسباب سياسية وتقنية، جرى إطلاق العمل فيه في عام 2011، تحت إشراف وزارة الشؤون الدينية، قبل أن يحول الملف إلى وزارة السكن والعمران الجزائرية.
ولم يكن اختيار مكان بناء المسجد الأعظم اعتباطياً، حيث تم اعتماد منطقة المحمدية نسبة إلى نبي الإسلام محمد (صلى الله عليه وسلم)، التي كانت تسمى سابقاً "لافيجري" (وهو أحد أساقفة فرنسا الذين سعوا إلى دفع الجزائريين إلى التحول للمسيحية)، إبان فترة الاحتلال الفرنسي، وهي المنطقة التي كانت تضم مركز التنصير والتبشير المسيحي، وانتشار ديار لتنظيم الآباء البيض الكاثوليكي، وتقع منطقة المحمدية بالضفة الشرقية للعاصمة، قبالة خليج الجزائر.