صار رؤوف مسعد يحمل لقب "الجد" بعدما رزقت ابنته يارا بطفل منذ بضعة أعوام. عاش الرجل وهو في الـ 85 مشاعر جديدة جميلة، توجت رحلة مدهشة مرهقة بدأت في السودان، حيث ولد في الـ 20 من مارس (آذار) 1937، وهناك عاش سنواته الأولى. كان أبوه قسيساً بروتستانتياً، وكانت أمه قد وعدت الرب أن يكون ولدها الأكبر خادماً للكنيسة، لكنها حولت العطاء على ابنها التالي رؤوف، متعللة بأنه اختيار الرب، لكن الزمان لم يحقق لها أملها.
ومن السودان عادت الأسرة إلى مصر، ومن مصر سافر رؤوف مسعد إلى بولندا فالعراق فلبنان فهولندا التي استقر فيها منذ أكثر من ربع قرن. درس المسرح بعد حصوله على ليسانس الآداب قسم صحافة في جامعة القاهرة، ولم يعمل به لكنه اشتغل بالصحافة ثم غلبته السياسة فرافقته إلى معتقلات وسجون عدة.
بعد انتقاله إلى هولندا أنجز رواياته "بيضة النعام"، "مزاج التماسيح"، "غواية الوصال"، "إيثاكا"، "زجاج معشق"، "ثالوث الخروج"، "زهرة الصمت"، فضلاً عن كتب فكرية مثل "صباح الخير يا وطن"، "في انتظار المُخلص"، وسيرته الذاتية "لما البحر ينعس"، وترجمته لكتاب "الموالد والتصوف في مصر" لنيكولاس بيخمان.
سنوات الترحال
في حوارنا معه بدأ رؤوف مسعد برد على سؤال عن تأثير سنواته الأولى وترحاله الطويل على أدبه، وقال: "المدهش هو أنني منذ بضع سنوات بدأت في كتابة ما سميته (اعترافات ناقصة) عن سنوات التكوين ثم السجن ثم حياتي في العراق ولبنان وأوربا الشرقية قبل الاستقرارفي هولندا. أعتقد أن هذه البلاد كلها أثرت في كثيراً، فالسودان هو مكان البراءة الأولى، وفي أسيوط (جنوب مصر) التحقت بمدرسة داخلية فيما كانت أسرتي لا تزال تعيش في السودان، وأتممت الدراسة الابتدائية وعمري 11 سنة. وعندما قرر والدي العودة لمصر اعترض أبناؤه الخمسة (ثلاثة أولاد وبنتان) على هذا القرار، ولكن من دون جدوى. المولود في السودان مثلي يتحدث باللهجة السودانية باعتبارها اللهجة الوحيدة التي يعرفها ويفهمها، لكن التعليم في أسيوط جعلني اكتشف الفرق في اللهجات بل ورؤية المصريين لي كسوداني، رؤية فيها استعلاء وفوقية، مما يجعلني من دون وعي في منطقة الدفاع عن الذات التي تطورت بعد ذلك للدفاع عن المختلفين عرقياً ودينياً وجنسوياً. هكذا ترك السودان بصماته على كتاباتي وما زلت غير قادر، أو بالأحرى غير راغب في الفكاك منها، وحينما كتبت "بيضة النعامة" مزجت بين أمكنة عدة وأزمنة عدة، بالطبع السودان ثم أسيوط التي بعدما تعلمت في إحدى مدارسها عدت وأنا شاب إليها لأقضي بعض الوقت في سجنها العمومي بسبب قناعاتي السياسية. لا أستطيع أن أكتب من دون الاستناد إلى ماضي الشخصي والعرقي والديني حتى بعد استقراري في هولندا".
بين الأدب والسياسة
وعن أيهما أقرب إلى طبيعته الشخصية، السياسي أم الأديب؟ يقول مسعد، "أنا شخصية مركبة. أعتقد أن من يعمل في التأليف لا يمكن أن يكون شخصاً سوياً لجهة حاله العقلية. أصدقائي يقولون إن عندي "جنونة"، إذ أغضب فجأة أو أنبسط فجأة، وهذه معروفة في الأمراض النفسية بأنها "بيبولر" Bipolar أي تعدد الشخصية وهي غير الـ (شيزوفرينيا)، فأنا دخلت معترك السياسة قبل أن أنتهي من دراستي الثانوية، وكانت لي محاولات في كتابة القصة القصيرة، لذا تداخل الأمران، السياسة والأدب. حالياً الأقرب إلى نفسي هو الأديب، وإن كان السياسي يقض مضجعي من وقت لآخر، فأقمعه أحياناً بقوة لأني لم أعد بحكم تقدمي في العمر قادراً جسدياً ونفسيا على تحمل تبعات الجدل السياسي".
وفي سياق آخر يقول رؤوف مسعد إنه حاول إقناع ابنته يارا عندما كانت في بداية دراستها الجامعية بأن تشاركه كتابة رواية، "إلا أن أمها أقنعتها بأن توقف حبها للكتابة لتبحث عن مهنة تقدم لها دخلاً معقولاً، لا أن تعيش على الكفاف مثلي، فركزت في درس الطب وهي الآن طبيبة. لم أعش الغربة كما يعيشها المغتربون بحثاً عن شهادة أو لقمة خبز إضافية، فقد خبرت الغربة مبكراً في بولندا حيث درست الإخراج المسرحي، ولم أحبها ولم أنخرط فيها، ولم أجدني مع ذلك متلهفاً للرجوع إلى مصر ولا إلى السودان الذي أعتبره موطني الأصلي. تغريبتي في لبنان مثلاً انتهت باجتياح الجيش الإسرائيلي لبيروت صيف العام 1982، فاخترت العودة لمصر ليس باعتبارها موطناً، ولكن باعتبارها منفى اختيارياً لي خبرة معقولة بسجونه".
ولكن لماذا تأخر ظهوره كروائي؟ يقول مسعد "تأخرت في الكتابة والنشر عموماً. كتبت مسرحيتين بسيطتين واحدة منهما عن السد العالي بعنوان "النفق"، والثانية عن هزيمة 67 بعنوان "ياليل يا عين" قبل سفري إلى بولندا لأدرس الإخراج المسرحي. لم أعمل في الإخراج، لكني تعلمت كيف تكون الكتابة للمسرح. توقفت لأكثر من 10 سنوات عن الكتابة الإبداعية، وفي العراق التي ذهبت إليها عام 1975 عملت خبيراً درامياً في مؤسسة السينما والمسرح. خلال ذلك كتبت مسرحيتين واحدة للأطفال وواحدة عن مأساة "أيلول الأسود" في الأردن. الأولى تم تقديمها في البحرين والثانية قدمها المسرح القومي في بغداد. تجربتي هذه لم ترضني فانطويت على ذاتي، وبعد الخروج من لبنان شعرت بأنني لا بد من أن أرجع بأسرع ما يمكن إلى الكتابة. هكذا بدأت كتابة "بيضة النعامة" وانتهيت منها في 10 سنوات".
الشخصية المسيحية
وعن مدى سيطرة "الشخصية المسيحية" على أدبه، يقول مسعد إن "الشخصية المسيحية هي إشكال مهم في حياتي وبالتالي في أدبي. تخيل طفلاً ثم صبياً والده قس وبيته ملاصق للكنيسة. يكبر الصبي على الصلوات والمواعظ الدينية ومدارس الأحد التي تستلم الصبيان والصبايا في عمر باكر وتدخل في عقولهم وعواطفهم حب يسوع. كانت أمي كما قلت في روايتى "بيضة النعامة" قد نذرتني لخدمة الرب، لكني تمردت وخدمت ماركس! لكن يسوع ظل في أعماقي كثقافة إنسانية مرتبطة أيضاً بالكتابة، بخاصة في الاصطلاحات الكنسية التي دخلت الثقافة الغربية مثل (خيانة يهوذا) و(ثلاثون قطعة من الفضة) الثمن الذى تلقاه يهوذا لتسليم المسيح، و(مريم المجدلية) التي صورها كازانتزاكيس في رواية (الإغواء الأخير للمسيح) مغوية، وفي الرواية نفسها صور الكاتب اليوناني المسيح على أنه إنسان له مطالب عاطفية مما أثار حفيظة الفاتيكان. إذن فالحال المسيحية باقية في نفسي وعقلي ومداركي على الرغم من أني لا أصلي ولم آخذ أولادنا إلى كنيسة لممارسة أية طقوس، وحينما تغولت الجماعات الإسلامية في مصر وجدتني أدافع عن المسيحيين لكن لم أنف عن بعضهم صفة التعصب في رواية (مزاج التماسيح) التي صدرت في مصر".
ولكن لماذا لم تظهر آثار الغربة على إبداعه بشكل واضح؟ وهل التذكرة إلى الغرب بلا عودة؟ يقول "هذا حالي الآن، فالإقامة في هولندا استعضت بها عن إقامتين، واحدة في مصر والأخرى في السودان. يوجد تعبير يستخدمه علماء الأجناس ( (Up Rooted وترجمته (مقطوع الجذر)، وهي بالطبع ترجمة مخلة، لكن هولندا أرحم بكثير من مصر والسودان. في بداية العام 2020 قمت بزيارة لمصر بدت وداعية، واضطررت إلى قطعها والعودة لهولندا بسبب تفشي وباء كورونا. هولندا وفرت لي ما لم تستطع مصر توفيره، الأمان التام لنفسي ولأسرتي".
كيف تبدأ قصة الرواية في ذهنك؟ يقول مسعد "تبدأ على مراحل مختلفة. مرة سألني صنع الله إبراهيم السؤال نفسه، فقلت له صادقاً في التواليت، فانزعج وشرحت له أن الأفكار عادة ما تكون مشوشة في رأسي حتى أختلي بذاتي في بيت الأدب كما نسميه في الصعيد، وأحياناً تأتيني البداية خلال النوم. ما أحلم به كتبته في قصص قصيرة بعنوان "كنت أضحك في حلمي". في أحوالي الخاصة "جداً" بين الكوابيس والأفكار أستطيع أن أقتنص قصة قصيرة أو فكرة رواية. رواية (إيثاكا) جاءتني فكرتها أثناء جلوسي في بار في القاهرة بعد القبض على عدد من المثليين. ثمة أفكار تأتيني ثم أكتشف أني دخلت مقبرة فرعونية فيها أبواب زائفة كثيرة ولم أعثر على الباب الأصلي. أي تقفل معي الرواية بعد أن أكتب منها فصولاً عدة، فأضعها في ملف إلكتروني أسميه (الحاجات الناقصة) وهو في عهدتي".
شهادة جودة
"مجنون بالنساء والحياة"... إلى أي مدى يصدق وصف الطاهر بن جلون هذا على رؤوف مسعد؟ يقول "لم أتشرف بمعرفة ابن جلون وهو قامة ثقافية مميزة، وقد فوجئت بمقالته النقدية عني في صحيفة "لوموند" الفرنسية. أسعدتني قراءته لـ "بيضة النعامة" واعتبرتها "شهادة جودة"، وهكذا حينما تمت ترجمة "بيضة النعامة" إلى الهولندية سألت زوجتي هل أقدم نسخة إلى ابنتنا التي كانت ما تزال بعد في مدرستها الثانوية؟ أجابت زوجتي الحصيفة، "ضعها فوق البيانو ونشوف مدى فضولها". لعل زوجتي قلقت بعض الشيء من أن تقرأ يارا عملاً (إروتيكياً) لوالدها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هل يمكن اعتبار "بيضة النعامة" ضمن تيار الواقعية السحرية العربية؟ يقول مسعد "لا أعتقد بإمكان تأسيس واقعية سحرية عربية مشابهة لإبداعات أميركا اللاتينية مع أننا سبقناهم بقرون طوال في (ألف ليلة وليلة)، وهي أم الواقعية السحرية العربية والـ (كوزمبوليتانية) أي متعددة الثقافات، وذلك لاشتراك كُتاب من جنسيات وعصور مختلفة في كتابتها، ومع ذلك جاء يوم صودر فيه هذا العمل باعتباره عملاً لا أخلاقياً".
تعتمد بعض أعمال رؤوف مسعد على ما يشبه الكولاج السردي "القص واللصق" كما في "زهرة الصمت" و"إيثاكا"، ويقول عن ذلك بأنه "اتجاه اكتشفته عبر بعض الكتابات السردية غير المكتملة التي لم تنشر حينما كنت أصحو أحياناً من بياتي الشتوي لأكتب شيئاً".
بين العامية والفصحى
لغتك في "إيثاكا" مدهشة، خليط ساحر من العامية والفصحى، فهل هذا استحضار ما للوطن أو بث للحنين إليه؟ يجيب مسعد "لغتي التي أكتب بها هي أيضاً طريقتي في التعبير. الفصحى لغة متحجرة لم تتطور كثيراً على العكس من العامية المتطورة أبداً ودوماً، وإذا كنت تتابع بعض كتاباتي على (فيسبوك) فستجد أني كثير التساؤل عن أي لهجة نطق بها المصريون الذين تعلموا العربية بعدما توصلوا سابقاً إلي حل عبقري بالنسبة إلى لغتهم الـ(ديموطقية) التي هي مزيج من أصوات فرعونية زائد 12 حرفاً متحركاً من اليونانية".
يبدو أن مشكلة "التجنيس" أو نوع الجنس الإبداعي تواجه نقادك، فإلى أي مدى تعاني مشكلة في تصنيف أو تجنيس إبداعك؟ يقول رؤوف مسعد إنه "بالنسبة إلى التجنيس لا تحظى أعمالي الأخيرة برضى كثر ممن يعتبرون أنفسهم نقاداً. أحدهم قرأ روايتي (زهرة الصمت) بمقياس أرسطو المسرحي، وهو وحدة الزمان والحدث والشخصيات. أرسطو حينما كتب هذا الكلام كان يقصد المسرح، فالرواية لم تظهر إلا بعد قرون، وحتى في المسرح نقضه آخرون مثل برخت الذي أسس المسرح الملحمي. النقد يحب أن يتم استخلاصه من العمل وليس هو حزام عفة يضعه بعضهم على العمل ويحجمونه به، وبالطبع أعاني من الجهل العام الثقافي العربي أيضاً عند القراء إلا في ما ندر، فقد تحولنا إلى شعوب تقرأ كتب الدجل والسحر والطبخ ولا تقرأ أعمالاً ثقافية، وطبعاً هذه حال من الانحدار الثقافي المرعب".