علاقة الأنظمة العربية والمغاربية بالمثقف علاقة غريبة، متوترة دائماً، فالمثقف عدو بأسلحة ناعمة، يجب مواجهته باستراتيجية مركبة من بارود الدين والسجن والمنع والتهميش والتهجير والتجويع والتخوين.
المثقف النقدي: حتى لا يتجمد ولا يترمد
كيف يعيش المثقف النقدي علاقته بالسلطة أو بالنظام الذي يحكم البلد، وأؤكد هنا على مفهوم المثقف النقدي، أي ذلك الذي يبحث دائماً عن أفق جديد لمجتمعه، الذي لا يتوقف عن مساءلة مكونات محيطه السياسي والاجتماعي والثقافي.
كل مثقف نقدي، وحتى لا يترك ساحة المعركة الثقافية والفكرية والسياسية ويتخلى عن جبهته، عليه أن يخلق معادلة حساسة ما بينه والسلطة أو النظام الذي يعيش في كنفه، عليه أن يرسم موقفاً استراتيجياً دقيقاً كي لا يفقد حاسته النقدية ولا يتراجع عن مواقفه ولا يخون مبادئه، وفي الوقت ذاته يعمل على مراجعة وتحيين مواقفه بحسب معطيات محلية، وطنية، جهوية أو دولية. فالمثقف ليس كائناً جامداً في رؤيته وأفكاره وأحكامه، لذا فالمثقف النقدي المحنك ذو المشروع الفكري يرسم خطة تحدد موقعه حيال هذا النظام أو ذاك، يمكننا أن نتصور هذه الخطة كالتالي: على المثقف النقدي ألّا يبتعد كثيراً عن نار النظام، فتبرد مفاصله وتجمد اجتهاداته ويضيع رأس خيط القراءة لديه، وعليه ألّا يقترب كثيراً من نار النظام، فيسقط في أحضانه فتحرقه وتحوله إلى رماد أو نسيان من خلال ابتلاعه في منظومته التي لا ترحم. من هذا المنطلق، على المثقف النقدي أن يبحث عن موقع استراتيجي كي يضمن استقلاليته ويضمن صحة رؤيته النقدية، وهذا الموقع الاستراتيجي يجب أن يكون النقطة التي تجعله لا يبرد ولا يحترق، لا يتجمد ولا يترمد، وهذه المعادلة تحقيقها ليس أمراً هيّناً.
النظام: الحذر من المثقف والعلف
إن الأنظمة السياسية الوطنية والليبرالية والقومية في العالم العربي وفي شمال أفريقيا منذ الاستقلالات الوطنية وحتى الآن، على علاقة متوترة مع المثقف النقدي، وهو ما يعكسه موقفها من المسألة الثقافية برمّتها، أي العمل على تكريس تهميشها واعتبارها تزويقاً أو إضافة غير ذات أهمية أو ترتيبها في خانة الفولكلور أو الاحتفالات الموسمية. بهذا المفهوم، لا تأخذ الثقافة مكانها الاجتماعي والاقتصادي والتوعوي والسياسي إلا بالقدر الذي تكون فيه صوت النظام وبوقه وصداه الذي لا يخرج عن التمجيد والتبجيل والمدح.
هناك توجس دائم تعيشه هذه الأنظمة حيال المثقف، باعتبار أن هذا الأخير هو حامل وخزان الأسئلة، والأنظمة لا تريد الأسئلة بل تريد الأجوبة الجاهزة، لا ترغب بمواطن يتساءل بل بـ"شخص" يؤمن، لا تبحث عن مواطن يقرأ بل عن "فرد" "يبلَع".
وتتم محاصرة المثقف النقدي من خلال ترسانة من الأسلحة القائمة أساساً على الاستثمار في أيديولوجيا الشعبوية السياسية والدينية والثقافية، وكثيراً ما تعتمد الأنظمة السياسية في حربها الباردة ضد المثقف النقدي على "أشباه المثقفين"، وهم مجموعة من "عملة" و"موظفين" داخل أجهزة النظام الإعلامية أو الجامعية أو الثقافية، فهؤلاء المرتزقة يؤدون دور شرطة الثقافة باسم "ثقافة مشبوهة" لتكميم صوت النقد وتخوين المختلف وشيطنة كل من يلجأ إلى اعتماد الأسئلة طريقاً لقراءة الواقع والمستقبل.
وحين نتأمل تاريخ هذه الأنظمة السياسية العربية والمغاربية منذ الاستقلالات الوطنية، نجدها تحاول أن تعيد إنتاج نفسها بإبعاد كل ما يمتّ للثقافي والمثقفين في أي تحول أو منعطف تاريخي. فكل المعارك السياسية الفاشلة العسكرية أو السياسية التي خاضتها هذه الأنظمة كان المثقف فيها مبعداً، فحين لا تكون ضده تكون بمنأى عنه، أي لا صوت له فيها، لأن أية معركة يشارك فيها المثقف النقدي إلا وتكون حاملة لأسئلة هي في نهاية الأمر إزعاج للأنظمة.
الشيوعيون والإسلاميون هم وحدهم من استثمر في قوة المثقفين
على مدى قرن تقريباً من تشكل الدولة الوطنية، وتشكل الأحزاب والمؤسسات التشريعية والتنفيذية ولو شكلياً، التي جاءت على مقاس أنظمة الدول الأوروبية ولو هيكلياً، على مدى هذا القرن، لم يكُن المثقف في مركز العملية السياسية إلا داخل اتجاهين أيديولوجيين اللذين عرفهما العالم العربي والمغاربي وهما التيار الشيوعي (اليسار بكل تنوعاته)، وتيار الإسلام السياسي (بكل تسمياته).
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بالعودة إلى تاريخ مسيرة الأحزاب الشيوعية في العالم العربي والمغاربي، ندرك بأن هذه التنظيمات كانت قائمة على رأسمال كبير وثري من المثقفين والمفكرين والشعراء والروائيين والمسرحيين والفنانين التشكيليين الذين شكلوا بحق التراث الإبداعي المعاصر في تجاربه المختلفة. إن كثيراً من هذه الأحزاب كانت مسلحة بمجلات متميزة ولها أيضاً منابر إعلامية كالجرائد، ولها دور نشر فاعلة ومؤثرة في صناعة الذوق والرأي والقراءة. فالحزب الشيوعي اللبناني، على سبيل المثال، هو واحد من الأحزاب الوازنة ثقافياً وفكرياً في العالم العربي والمغاربي، استطاع أن يستقطب كتّاباً وفلاسفة من خير ما أنتجه القرن العشرون من أمثال حسين مروة ومهدي عامل وكريم مروة وغيرهم، وكانت مجلة "الطريق" منبراً للفكر التنويري المفتوح على مثقفي العالم العربي وشمال أفريقيا. وهو أيضاً ما عرفته دار ابن رشد والفارابي وغيرهما من دور النشر التي كانت تروّج لأفكار اليسار بشكل عام مع احترام القيمة الجمالية والفكرية إلى حد ما. وفي السياق ذاته، اعتمد الحزب الشيوعي المصري في معركته السياسية والثقافية والإعلامية على أسماء أدبية وفكرية وازنة من أمثال محمود أمين العالم وأمير إسكندر وأحمد عبد المعطي حجازي وأمل دنقل وأحمد فؤاد نجم وشريف حتاتة ومحمد عودة وغيرهم. وعلى الإيقاع ذاته، عرّف الحزب الشيوعي الجزائري أسماء أدبية وفكرية وفنية كبيرة كانت من أعمدة تشكيلته القيادية ومن مناضلي الصف الأول من أمثال الشاعر بشير حاج علي وكاتب ياسين ومحمد ديب وبوعلام خلفة ومحمد خدة وعبد القادر علولة ورشيد بوجدرة وغيرهم. وتكاد تتشابه هذه العلاقة ما بين الأحزاب الشيوعية، على اختلاف تسمياتها من جهة، والمثقفين والمفكرين والأدباء في العالم العربي والمغاربي بشكل عام من جهة أخرى.
لقد اعتمد تيار اليسار العربي في معركته السياسية بالأساس على الرموز الثقافية والفكرية وقد استطاع أن يشكل وزناً له في أوساط "النخبة"، وربما نظراً إلى خطابه النخبوي العالي هذا، لم يتمكن هذا التيار من توصيل وتثمير مشروعه الفكري داخل الأوساط الشعبية، وتلك ضريبة النخبوية.
يجب الاعتراف أيضاً بأن الإسلام السياسي وتيار "الإخوان" بالأساس ومشتقاته السياسية التي حملت أسماء متعددة، هو الآخر استثمر في المثقف التقليدي الذي ارتبط بالأساس بالجامعة وأيضاً بميدان العدالة والمحاماة، بل إنه كان يدرك مدى فاعلية الفن والأدب في الترويج لأفكاره. ومن هنا، كانت مبادرة إنشاء أول اتحاد للكتاب الإسلاميين عام 1990 في الجزائر على هامش انعقاد ملتقى "مستقبل الإسلام"، وقد دعا إلى إنشاء هذا الاتحاد كل من الشيخ الغزالي ويوسف القرضاوي وطارق البشري ورشيد الغنوشي وأحمد عروة وغيرهم.
لقد ظل الإسلاميون وبالأساس "الإخوان" يشتغلون على استدراج الأسماء الفكرية في صفوفهم، وقد تفطنوا إلى الدور الذي يمكن أن يلعبه المثقف التقليدي في الترويج لأيديولوجيا الإسلام السياسي. وبهذا المنظور، تأسست مجلات كثيرة مرتبطة بمؤسسات جامعية أو مراكز بحوث دينية، وتأسست أيضاً دور نشر وقنوات تلفزيونية وإذاعات مسموعة تروج لهذه الأيديولوجيا، وقد تحوّل كثيرون من المشتغلين فيها إلى نجوم عقائدية، وربما كانت استراتيجية تيار الإسلام السياسي وبالأساس "الإخوان المسلمون"، وهو يعمل على وضع المثقف والمفكر في مركز صفوفه، رداً على التيار اليساري الذي أصبح سيد الثقافة والإبداع في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي.
ولا تزال معركة المثقف النقدي مستمرة مع أنظمة سياسية تريد أن تهمشه كي تبقي الحال على حالها.