تنعكس الوضعية الاقتصادية الصعبة في تونس على سعر الدينار في السوق الذي انخفض إلى مستوى اعتبر تاريخياً مقابل الدولار، وذلك بالتوازي مع تفاقم عجز الميزان التجاري في ظل نشاط اقتصادي وصف بالبطيء، إذ صنف الاقتصاد التونسي ضمن الأكثر بطئاً في استعادة نسقه في فترة ما بعد جائحة كورونا، وسجلت نسبة نمو لا تزيد على 3.1 في المئة خلال كامل سنة 2021، وتعود كل هذه المعطيات بالسلب على وضعية العملة الوطنية التي ينعكس سعرها على المقدرة الشرائية للمواطنين ومستويات الفقر وأداء المؤسسات الاقتصادية الموردة للمواد الأولية بالعملات، علماً بأن تونس لم تتمكن من استكمال تمويل موازنة 2022 التي تشكو من عجز قدره 9.2 مليار دينار (3.11 مليار دولار)، كما تحتاج تونس إلى تمويل خارجي قدره 10 مليارات دينار (3.38 مليار دولار) لتسديد ديون سابقة.
واستقبلت تونس خلال هذا الأسبوع وفداً من صندوق النقد الدولي، وانطلقت المفاوضات مع الحكومة الحالية بهدف الحصول على تمويل جديد مقابل تطبيق إصلاحات هيكلية للاقتصاد لكن عبر الاتحاد العام التونسي للشغل (المركزية النقابية) عن تحفظه تجاهها، وقد التقى وفد صندوق النقد كلاً من الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل ورئيس منظمة الأعراف اللذين قدما وجهة نظر المنظمات تجاه مشروع الإصلاح الحكومي المقدم للجهة المانحة.
وانتظمت بالتوازي مع ذلك، منذ السبت والأحد 26 و27 مارس (آذار)، انتخابات بلدية جزئية في بلديات ساقية الزيت والشيحية من محافظة صفاقس بالجنوب الشرقي التونسي، والقلعة الكبرى من محافظة سوسة، وطبرقة من محافظة جندوبة، وأزمور من محافظة نابل، وقد خصص السبت لاقتراع العسكريين وأعوان قوات الأمن الداخلي، في وقت تم، الأحد، اقتراع المدنيين وفق الهيئة العليا المستقلة للانتخابات.
انزلاق تاريخي
وفي ظل المصاعب المالية التي تعيشها البلاد، اختار البنك المركزي المحافظة على الفائدة العامة في مستوى 6.25 في المئة على الرغم من ارتفاع نسبة التضخم إلى 6.7 في المئة وفق المعهد الوطني للإحصاء (حكومي)، لكن تواصل النسق السلبي لسعر الدينار التونسي دفع ببعض الملاحظين إلى الحديث عن إمكانية انتهاج تونس لآلية التخفيض الطوعي في سعر العملة للحصول على توازنات في السوق وتفادي تراكمات العجز الناتج عن ارتفاع أسعار السلع في السوق العالمية، وزادت الحرب الروسية - الأوكرانية من متاعب الميزان التجاري الذي يشكو من عجز مستفحل طوال الأزمة السياسية بالبلاد خلال 10 سنوات تلته الأزمة الصحية العالمية، وصولاً إلى تجميد البرلمان والإجراءات الاستثنائية التي اتخذها الرئيس قيس سعيد في يوليو (تموز) 2021.
واستقر سعر الدينار عند 2.953 مقابل الدولار بعد أن انخفض منذ أيام عدة، أي في 24 مارس إلى 2.98 بتقلص سنوي يساوي 7.6 في المئة، بعد أن تراجع سعره إلى 2.96 مقابل الدولار في 11 مارس، وفي مستوى قياسي أيضاً، واعتبر تقلصاً بنسبة 7.56 على المستوى السنوي وفق البنك المركزي التونسي، وأعلن المركزي أن سعر بيع الدولار بالبنوك، في 14 مارس 2022 بلغ نحو 2.984 ملامساً سعر ثلاثة دنانير للدولار الواحد.
تفاقم العجز
وكشف المعهد الوطني للإحصاء (حكومي) عن أن عجز الميزان التجاري اتسع إلى 2.61 مليار دينار (884 مليون دولار) خلال شهري يناير (كانون الثاني) وفبراير (شباط) 2022 مقارنة بـ1.89 مليار دينار (640 مليار دولار) في الشهرين الأولين لسنة 2021، بعد أن زادت قيمة الواردات بـ33 في المئة بـ11.61 مليار دينار (3.93 مليار دولار)، وتنامت الصادرات بـ31.6 في المئة لكنها لم تزد على 8.99 مليار دينار (ثلاثة مليارات دولار، ومن المرجح أن تعمق الحرب الروسية - الأوكرانية الهوة وتزيد من العجز بسبب ارتفاع أسعار السلع الأولية في السوق العالمية، وتستورد تونس 80 في المئة من استهلاكها من القمح اللين من الخارج، وخصوصاً من أوكرانيا، ويبلغ سعر الطن حالياً 384 دولاراً، أي نحو 1.1 ألف دينار، كما تشمل الواردات من بلدان النزاع الحاصل نيترات الأمونيوم، وهو سماد تدعمه الدولة ويستعمل في الفلاحة ويقع توريده من روسيا إضافة إلى الزيوت بأنواعها.
وعلاوة على الارتفاع الحاصل في أسعار النفط والغاز بالنظر إلى أن تونس تستورد 60 في المئة من حاجاتها للنفط وتوفره إلى السوق المحلية بأسعار مدعمة ما يضع الموازنة تحت ضغوط جديدة ويزيد من مستوى الدعم وإثقال كاهل المالية العمومية وتأثر المقدرة الشرائية.
حول التخفيض في العملة
ومن شأن ارتفاع أسعار السلع التي تعمل تونس على استيرادها من السوق العالمية أن يزيد من الطلب على العملات في السوق النقدية، بالتالي التأثير على العملة المحلية التي يتراجع الإقبال عليها، ما يعني سيرها نحو فقدان جزء أكبر من قيمتها، ما دفع إلى الحديث عن إمكان قيام تونس بتخفيض قيمة الدينار بصفة طوعية وبتحديد سعر من قبل البنك المركزي التونسي يكون أقل من قيمة الدينار الحالية الخاضع إلى أداء السوق بصفة نسبية بحكم تدخل المركزي لضخ العملات باستمرار. واستبعد محمد صالح سويلم المدير العام السابق للسياسة النقدية بالبنك المركزي التونسي اللجوء إلى هذه الآلية، وكشف عن أن تونس اعتمدت هذا الخيار في مناسبتين سابقتين، لكنها لم تتحصل على المردودية المفترضة للتخفيض ولا النتائج المالية المرجوة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقد انتهجت تونس هذه التقنية منذ عقود، وبالتحديد سنتي 1964 و1986، ومن غير المرجح أن تتم استعادة التجربة، ويتمثل الهدف الأساس نظرياً من التخفيض في العملة، إصلاح وضعية الميزان التجاري الذي يشكو من العجز بالرفع من تنافسية المنتجات التونسية بخفض أسعارها في السوق العالمية، بالتالي استقطاب أسواق جديدة للسلع التونسية ودفع الصادرات وتنمية موارد العملة الصعبة، كما يزيد الإقبال عن الإنتاج الوطني يحكم انخفاض أسعار المنتوج التونسي مقارنة بالسلع الموردة بسبب تخفيض قيمة الدينار، لكن يظل الطرح النظري بعيداً من الواقع التونسي، ويحتم هذا الخيار وجود وفرة سابقة في الإنتاج الوطني ورغبة في التسويق، لكن في الوضع الراهن، لا تشهد تونس ارتفاعاً في مستوى الإنتاج، بل تعاني تراجعاً في نسق الإنتاج والنمو.
وينحدر مستوى الاستثمار إلى أدنى مستوى حالياً بـ13 في المئة، كما أغلق 13 في المئة من المؤسسات الاقتصادية الصغرى والمتوسطة أبوابها بفعل الأزمة الصحية، ولا تتوفر العوامل الدافعة إلى خيار تخفيض العملة الذي يحفزه تنامي الإنتاج لجني الأرباح باستغلال العامل الكمي على حساب الأسعار لتوسيع السوق ودفع الطلب.
منهج التعويم
واعتبر منير حسين، عضو الهيئة المديرة للمنتدى التونسي للحقوق الاجتماعية والاقتصادية، أن التخفيض وارد، وهو يرد في نطاق مسار تعويم الدينار التونسي منذ سنوات، ويعمل البنك المركزي التونسي على تعويم العملة بطلب من صندوق النقد، علماً بأنه تم الاتفاق على وضع منهج تدريجي في ذلك بسبب عجز تنفيذ التعويم دفعة واحدة لما لذلك من آثار سلبية على الأسعار لدى المؤسسات أو المستهلك التونسي على حد سواء، مشيراً إلى أن القرار في التعويم اتخذ منذ 25 أبريل (نيسان) 2016 تاريخ ضبط النظام الأساسي للبنك المركزي التونسي الذي يتمتع بموجبه بالاستقلالية، ورأى حسين أن الاستجابة إلى طلب قرار تعويم العملة المحلية يأتي في صلب برنامج الإصلاح الهيكلي للاقتصاد التونسي الذي طلبه صندوق النقد الدولي لمواصلة دعمه للبلاد.
أما الهدف منه فهو تأسيس نموذج اقتصادي يقوم على تخفيض تكلفة الإنتاج، ومنها رأس المال الثابت، أي السلع ورأس المال المتحول، أي الأجور، ويصبو إلى التموقع في السوق العالمية واستقطاب المستثمرين الباحثين عن الأسواق الموفرة لتكلفة الإنتاج المنخفضة، وهو نموذج تنموي جعل من الاقتصاد التونسي يراوح مكانه ويعجز عن الرفع من أدائه.
لكن بالنظر إلى الوضعية الراهنة، فإن اختيار تخفيض العملة بتحديد السعر من قبل المركزي زيادة على التعويم التدريجي الحاصل يؤدي إلى انهيارها لأنه يكرس ندرة العملة الصعبة بسبب الإقبال عليها ووفرة الدينار الذي لا يقبل عليه غير المتعاملين مع تونس من الموردين للمواد الأولية التي تصدرها، ما يؤثر على احتياطي العملة الصعبة ويزيد من المخاطر، ولا تحتمل المؤشرات الحالية مزيداً من المجازفة وإغراق العملة الوطنية.