في التاسع من مايو (أيار) وفيما كان فلاديمير بوتين يترأس فعاليات الاحتفال والعرض العسكري بذكرى يوم النصر في موسكو، كان الرئيس الفرنسي الذي أعيد انتخابه لولاية ثانية حديثاً، في مدينة ستراسبورغ يستعرض أفكاره في خطاب ركز فيه على مستقبل أوروبا، لكن ما لفت الانتباه في كلامه ليس حديثه التقليدي عن "المشروع [التكاملي] الأوروبي السريع" [تحقيق التكامل بشكل متواز على مستويات مختلفة غير مترابطة بالضرورة]، بل دعواته القائلة بعدم جواز إلحاق الإهانة بروسيا في مرحلة ما بعد الحرب مع أوكرانيا.
ودعا ماكرون إلى تجنب إعادة ارتكاب الأخطاء التي حصلت العام 1918، في إشارة إلى الحجة القائلة بأن الشروط التي فرضت على ألمانيا بعد تلك الحرب أدت إلى زرع بذور الحرب بعد جيل فقط. وقال ماكرون، "سيكون علينا بناء سلام غداً، دعونا لا ننسى ذلك. سيتحتم علينا القيام بذلك بوجود أوكرانيا وروسيا على الطاولة نفسها، وذلك لن يتم عبر نكران الذات، أو من طريق إلغاء أحدنا للآخر ولا حتى أن يتم ذلك بشكل مهين لأي طرف".
لو كان الرئيس إيمانويل ماكرون يأمل ببعض التصفيق على طرحه أو حتى دعم ولو متحفظٍ لدعواته، ففي الغالب سيخيب أمله، ففي رد مباشر وواضح على كلامه قالت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين (وهي أيضا مواطنة ألمانية) إن التباين "لا يمكن أن يكون أكثر وضوحاً" بين عرض بوتين العسكري و"الاحتفال بالديمقراطية" الذي يعبّر عنه عمل البرلمان الأوروبي، وهي لم تكن وحيدة في تعبيرها عن ذلك.
دعوات الرئيس ماكرون واجهت عاصفة من الانتقادات من الأوكرانيين وآخرين عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وربما تتقاطع تلك المواقف الناقدة مع الموقف الأميركي الذي عبر عنه الشهر الماضي وزير الدفاع لويد أوستن بقوله، "ما نريده هو رؤية روسيا وقد تم إضعافها إلى درجة لن يمكنها بعد ذلك من القيام بأعمال مشابهة لما فعلته عندما قامت باجتياح أوكرانيا".
إن العدوانية المعبر عنها حيال رفض منح روسيا أي هامش أمر مفهوم إذا أخذنا في الاعتبار قيام روسيا باجتياح غير مبرر أدى إلى نشوب الحرب، وبأن نهايتها لا تبدو وشيكة، وحقيقة أن المحادثات اليوم تجري بوتيرة أقل مما كانت عليه خلال أسابيع الحرب الأولى.
ويبدو أيضاً أن هناك كثيراً من الريبة تجاه فرنسا وماكرون هذه الأيام، خصوصاً في عواصم دول وسط وشرق أوروبا الصقور المعادين لروسيا، حيث يرتبط اسم فرنسا بما يعتبره الأوكرانيون اتفاق مينسك "غير المتكافئ" الذي وقعته عام 2014، فيما ينظر إلى ماكرون كداعية سلام يخدم مصالحه وهو الزعيم الذي ترك خطوط الاتصال بينه وبين الرئيس بوتين مفتوحة لفترة أكثر من طويلة.
لكن في النهاية لا بد من الاعتراف بأن ماكرون على حق، ففي يوم من الأيام ستنتهي هذه الحرب ولا بد للطرفين المتقاتلين أن يجتمعا حول طاولة المفاوضات، وشروط تحقيق أي سلام ستعتمد على المواقع أو المكاسب التي حققتها كل من روسيا أو أوكرانيا عندما يتوقف القتال، ولكن حتى ولو نجحت أوكرانيا في طرد القوات الروسية من أراضيها كافة باستثناء ربما شبه جزيرة القرم، فإن أوكرانيا وروسيا محكوم عليهما بالبقاء جيران، كما هو الحال بين روسيا وأوروبا (بغض النظر عن تعريف حدود أوروبا).
حالياً لا يبدو هناك أي اتجاه للاعتراف بهذا الواقع ولو بشكل ضئيل، بل يبدو أن هناك اعترافاً أقل بذلك اليوم مما كان عليه الوضع خلال مراحل الحرب الأولى، عندما كان الرئيس الأوكراني مستعداً للقبول بأن بلاده مستقبلاً ستلتزم الحياد، وأن عضوية حلف الأطلسي (بمعنى توفير الحماية العسكرية للبلد) لم تكن أمراً محتملاً.
إن وصول إمدادات السلاح الغربي بشكل مستمر منذ ذلك الوقت، وما يبدو على أنه تقلص إجباري لطموحات روسيا التوسعية، يحفزان بشكل غير واقعي على الأرجح الآمال بنصر أوكراني شامل، مما جعل كل من يدعو إلى التفاوض أن ينعت على طريقة ميونيخ [في إشارة إلى اتفاق ميونخ 1938] بأنه "استرضائي" أو "عدو أوكرانيا" أو "مدافع عن بوتين" أو أسوأ منها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يضاف إلى هذا كله مسألة شيطنة ليس الرئيس بوتين وحده، بل معه روسيا والشعب الروسي، وبدا لي من الوهلة الأولى للاجتياح أن العلاقات بين أوكرانيا وروسيا تسممت لجيل كامل على الأقل، وأن روسيا ستتحول إلى دولة منبوذة عالمياً على الأقل طالما بقي بوتين وأي من المتعاونين معه على رأس السلطة.
إلى أي مدى أكبر أصبح الأمر حقيقة اليوم مع دخول الحرب شهرها الثالث؟ يتوقف ذلك على ملاحظة واحدة إضافية،
وللتدارك فقد تحولت روسيا بالفعل إلى دولة منبوذة عالمياً حصراً في العالم الغربي، فالهند وكما معظم الدول الأفريقية امتنعت من التنديد بالعمل الروسي، فيما بقيت الصين على مسافة آمنة، وربما تؤدي الحرب الأوكرانية إلى تسريع عملية إعادة تنظيم العالم وتقسيمه بين (دول) الشمال في مواجهة (دول) الجنوب، وبين الدول الغنية في مواجهة الدول الفقيرة، والتي كانت بالفعل في طور الحدوث.
وإذا تحولت إعادة التنظيم هذه لتكون الوضع العادي الجديد السائد، وهو أمر محتمل، فإن المأساة العظمى ربما لن تكون فقط أن روسيا التي لطالما نظرت إلى نفسها بوصفها أوروبية [بامتياز]، ستجد نفسها حالياً على المقلب "الآخر" من تلك المعادلة، ولكن هذا الانقسام يدفعه ويعززه كثير من السموم.
ويُحسب لبوريس جونسون أنه أخذ على عاتقه التحذير من التوسيم التلقائي لكل الروس بأنهم متآمرون مع رئيسهم، ولكن لم يحقق هذا نتيجة تذكر، فمن ناحية قُوض موقفه هذا بما يعتبر اعتقاداً سائداً بأن الروس في لندن هم جميعاً من أتباع بوتين الأغنياء جداً والذين يعملون على جرف الأموال وإيداعها في خزائن حزب المحافظين البريطاني.
ومن الناحية الأخرى فإن رسالته هذه كانت فاقدة أصلاً لفعاليتها بسبب موجات من رهاب الروس [روسوفوبيا] والتي لطالما كانت كامنة تحت السطح في العالم الأنجلو-ساكسوني.
إذاً، وحتى قبل اندلاع الحرب الأوكرانية، كان الجميع يعتقد ومن دون أي تشكيك أن كل الأوليغارشيين (وهي عبارة تحمل في طياتها إيحاءات سلبية) هم من الروس، على الرغم من أن كثيراً من هؤلاء ممن يتمتعون بامتيازات العيش كمقيمين أجانب، ولا سمح الله إن قلنا، هم من الأوكرانيين.
في السياق نفسه، نشرت صحيفة التايمز [اللندنية] التي ينظر إليها إلى يومنا هذا على أنها صوت النخبة الحاكمة البريطانية، حوالى نصف صفحة من رسائل القراء الذين اتفقوا بشكل لا يقبل الشك مع أحد كتاب الرأي في الصحيفة وكان يجادل بأن "الوحشية النمطية" هي أمر "متجذر في الروح الروسية".
وقال أحدهم إن روسيا ورثت من الاتحاد السوفياتي عملية "إفساد الحقيقة"، وإن روسيا، بحسب قول آخر، كانت عبارة عن مجتمع "لطالما عانى آثار ندوب تركها الإرهاب وانعدام العدالة"، وآخر أشار إلى الغبطة الظاهرة على أحد سائقي شاحنات النظافة عندما صدم بمركبته الجموع في الساحة الحمراء [وسط موسكو] بداية الثمانينيات لإعطاء مثال يدعم السردية نفسها الآنفة الذكر.
الآراء جميعها ربما تصب في الخلاف القائم حول أن الروس، أكان ذلك بسبب تاريخهم أو بسبب طبيعتهم البشرية (أيهما يأتي أولاً؟)، هم غير متمدنون بشكل فطري ومتوحشون.
تخيلوا الاحتجاجات التي كانت لتصدر لو أن العرب أو المسلمين أو حتى الصينيين حُكم عليهم بهذا الشكل كجماعة، أليس مستغرباً ألا يكون هناك صوت واحد يرتفع للاعتراض على مثل هذا التوصيف المدمر؟
ولا بد من ملاحظة المدى الذي ذهبت إليه عملية قطع العلاقات المؤسساتية والشخصية [مع روسيا] خلال أسابيع عدة، وهو أمر كان صاعقاً للغاية، وهذا لم يقتصر على إلغاء عزف هذه السمفونية لذلك الملحن الموسيقي الروسي أو ذاك، ولا على عملية المنع التام لمشاركة الفنانين والرياضيين [في الفعاليات العالمية].
عملياً تم تعليق كافة برامج التبادل الدراسي والدراسة في الخارج وما شابه، وكما أشار أحد الأكاديميين "لقد تمت إزالة روسيا عن الخريطة العالمية".
في أحد الأيام، ربما، ستبذل محاولات لإعادة بناء هذه العلاقات وتعزيزها، وغالباً سيكون ذلك في مواجهة كثير من العراقيل على مر السنين، ولكن ربما لن يكون ذلك خلال سنوات عمري أو حتى خلال حياتكم أنتم أيضاً، فالمملكة المتحدة ومعها معظم الدول الغربية كانوا عموماً سيئين بما يكفي في فهم طريقة تفكير روسيا خلال المراحل التي كانت الأمور فيها أفضل مما هي عليه الآن، فإلى أي مدى أسوأ ستنحدر القراءات المغلوطة هذه؟
كل ذلك يترك أمامنا السؤال الذي حاول إيمانويل ماكرون بشكل عشوائي تقديم إجابة عنه، كيف سنتعامل مع روسيا عندما تنتهي الحرب ويبدأ التفاوض، لأن هذا ما سيحدث بالطبع، فروسيا ستبقى دولة قائمة، دولة شاسعة وحاضرة بسكينتها على حدود أوروبا، وليس من السهل إزالتها من الخريطة عملياً.
لا بد إذاً أن يكون هناك طريقة لضمها إلى السياق والاستماع إلى مخاوفها وليس إهانتها، وإلا فإن تلك الدوامة الخبيثة قد تبدأ من جديد.
للأسف، لا تبدو هناك رغبة كبيرة لدى الدول الغربية للتمييز بين الزعماء والشعوب، هذه الرغبة التي كانت المفتاح في تحقيق السلام مع ألمانيا الغربية بعد سنة 1945، ويبقى الرئيس ماكرون حتى الآن صوتاً يتيماً في براري الحرب.
© The Independent