بادئ ذي بدء، لا بد من أن نستلّ مصطلح المثقف العضوي، من سياق المفهوم الغرامشي، ما أطر المثقف العضوي ضمن طبقته الاجتماعية، التي ينتمي إليها ويعبر عنها. وقد كان ذلك نتاج مرحلة تاريخية عاشها أنطونيو غرامشي، هيمن عليها صراع الأيديولوجيات. ولاعتبار أن غرامشي كان يرى "استقلالية البنى الفوقية، وعدم اقتصارها على مجرد أنها بنى تابعة للبنية التحتية"، وأن المفاهيم ليست "مصبوبة من حديد كما ينبغي أن تكون".
من هذا فإن المثقف العضوي، من يدرك أهمية الدور الثقافي في النشاط العملي، ويعمل من أجل ذلك، وعلى ذلك فهو ليس تكنوقراطياً، أدواته الأفكار وتدبيج القوانين، ووضع الحلول بحسب المطلوب، وليس هو الفيلسوف، رأس السلطة في مدينة أفلاطون الفاضلة.
(ارتحل أفلاطون ثلاث مرات إلى بلاط سرقوسة المتفسخ، الذي مزقته النزاعات، مجازفاً بحياته في سبيل تربية "ملك- فيلسوف". كان أفلاطون عام 388 ق م، قد ناهز الأربعين سنة، شاهد خلالها انقلاباً أوليغارشياً وإصلاحا ديمقراطياً، وإعدام معلمه الأثير سقراط على يد هيئة محلفين تألفت من زملائه الأثينيين. واعتزم أفلاطون في شبابه الانخراط في عالم السياسة المضطرب بأثينا. لكنه عاد وانتهى إلى أن تحقيق ما يتصوره من إصلاحات، تشمل دستور المدينة وممارساتها التعليمية، أمر مستبعد. لذلك نذر نفسه للانكباب على الفلسفة، من دون أن يتخلى عن انشغال متجذر بعلم السياسة، ما أدى به في النهاية إلى تطوير أشهر صياغاته، التي مفادها: بأن العدالة السياسية والسعادة الإنسانية، تقتضيان أن يصير الملوك فلاسفة، أو أن يصير الفلاسفة ملوكاً) – أفلاطون في صقلية – نيك روميو وإيان تويكسيري ترجمة مجدي خاطر – مجلة الثقافة العالمية – العدد 208 أبريل (نيسان) 2022.
بالنسبة إلى نجيب الحصادي، فقد جاء المعرفة من خلال دراسة فلسفة العلم في الجامعات الأميركية، حيث درس الماجستير والدكتوراه، وكانت أطروحته: "نقد لتصور توماس كون في العقلانية العلمية". لكن اتخذ من الفكر الناقد السبيل والنهج، وعمل على تدريس الفلسفة في الجامعة الليبية ببنغازي ضمن هذا النهج.
لكن جامعة الحصادي كما جامعة سقراط، فلقد ذهب بالفلسفة إلى الواقع، ليعيدها إلى مصادرها البدائية، وهو المشاء الذي يبحث عن المعنى في الحياة، المرتاب في كل جاهزية، ومن هذا مثلاً نحى للبحث والارتياب في قدسية العلم، باعتبارها أطروحة لا علمية، ما كان يخلخل كل جمود ويفتح آفاق التفكر الناقد، فالبحث والجدية من دون تملق ولا رياء، وفي هذا كان المعلم الذي يتعلم أبداً.
الحصادي أراد تنزيل الفلسفة من عليائها، فجعل أمثولاته واقعية قحة، وبهذا فقد كان يشكك وينقض الأطروحات السياسية القمعية التي يطرحها النظام، فكان ينقد السائد من خلال عمله كمدرس فلسفة، ومن خلال أطروحاته كمفكر متخصص في الفلسفة، يمارس مناقشة للأطروحات والمفاهيم السياسية. وهو في هذا يشتغل وينشغل شغل النحل، فالفلسفة التي هي مشغله، ونسيج الروح على مستوى السيرة الذاتية، تكون رحيق الحياة، بالعمل المجد في التأليف والترجمة، وبالانغماس في المكان كإنسان أولاً وكمفكر ثانياً، من دون فصل مخلّ وتبسيطي، بين الانشغال بالمعرفة وبين النشاط العملي.
كنت منذ سنوات طويلة مضت ممنوعاً من السفر، وكنت بصدد كتابة مقالة حول ما طالعت من كتب لنجيب الحصادي، أذهلني أن أجد أمثولته الممنوع من السفر، عند مناقشتة مسألة الجبر والاختيار في الأطروحة الدينية. ولما تابعت بحثي وجدت أن الحصادي سياق بحثه يستدعي أمثولة كهذه، فهو غير منشغل بالأطروحة في ذاتها، وخارج سياق ما يشغله. وقد تذكرت مفاعيل ثورة الطلاب عام 68 التي اجتاحت العالم، ما دمجت الفلسفة في الشارع، وحملت فكر هاربرت ماركوز سدنة مدرسة فرانكفورت، بمحاذاة فيلسوف الوجودية جان بول سارتر، والفرويدي إريك فروم.
وقد كتب نجيب الحصادي: كيف لنا أن نوفق بين النصوص الدينية، التي تؤذن بأن الإنسان مقدرة عليه أفعاله، وتلك التي تقرر أنه مختار ومسؤول عنها؟.
دعونا ـ كوسيلة لتوضيح كيفية الإجابة عن مثل هذه الأسئلة ـ نتأمل حال الممنوع من السفر، ولا يسافر، والذي لا يدري أن اسمه مدرج في قائمة الممنوعين من السفر، ولا يسافر، لمجرد أنه لا يرغب بالسفر. ثم دعونا نقارن حاله، بحال من يرغب بالسفر ولا يسافر ـ على قدرته ـ لأنه يعتقد خطأ أن اسمه مدرج في قائمة الممنوعين من السفر. أيهما حر في السفر؟
مفهومان للحرية: إن المقارنة بين تينك الحالين ـ كإمكان الإجابة عن هذا السؤال ـ تؤكد على ضرورة التمييز بين معنيين للحر، دأب جل من عُني بقضايا الجبرية على الخلط بينهما.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
المفهوم الأنطولوجي للحرية: يعتبر المرء حراً على المستوى الأنطولوجي ـ بالنسبة إلى فئة بعينها من البدائل السلوكية ـ إذا (وفقط إذا) لم يكُن هناك (بالفعل) أي عائق ـ مهما كانت طبيعته ـ يحول دون اختياره لأي منهما والقيام به.
المفهوم الإبستمولوجي للحرية: يعتبر المرء حراً على المستوى الإبستمولوجي ـ بالنسبة إلى فئة بعينها من البدائل السلوكية ـ إذا (وفقط إذا) لم يكُن هناك (في اعتقاده) أي عائق ـ مهما كانت طبيعته ـ يحول دون اختياره لأي منهما والقيام به.
كان يوسف القويري الكاتب الليبي، من اهتم بالدور الثقافي في النشاط العملي، وهو يولي الدور الأهمية الرئيسة، وقد اعتبر سلامة موسى نموذجاً للمفكر المعلم. فيما اهتم الصادق النيهوم بالأسلوب والقضايا الآنية، ثم بالموسوعات العلمية لتحقيق الدور الثقافي في النشاط العملي. أما نجيب الحصادي، فقد انغمس في النشاط العملي كأستاذ جامعي، ثم بالنشاط المكثف والحيوي في المجال الثقافي العام، ولأجل ذلك يقطع ربوع ليبيا، وأحياناً منفرداً ومن خلال المواصلات العامة.
ولم يفرّق بهذا بين الانشغال الذهني والكتابة والترجمة في الفلسفة، ما ترجم فيها المعجم والموسوعة، وبين المشاركة في المنشط الثقافي والحضور التلفزيوني كمحاضراته عن "التفكير الناقد" من خلال برنامج مرئي أسبوعي، يبث عبر محطة 218 الليبية، وكذا من خلال صفحته على "فيسبوك". وبهذا حقق ما ابتغاه، كل من يوسف القويري والصادق النيهوم، وعلى الخصوص في اللحظة الاستثنائية التي تعيشها بلاده، منذ ثورة فبراير (شباط) وحتى الآن، على الرغم من الصعوبات الجمة في حال كهذه.