مذهل أمر نوڤاليس الذي طوى عمره في ريعان الشباب، ولم يتجاوز عتبة الثلاثين، بعد أن اغترف من بحر العلوم الإنسانية والوضعية ما لا يطيق أي إنسان آخر أن يكتسبه. امتاز فكره بالموسوعية الانتقائية التي تؤالف بين مختلف المعارف والمصادر والحقول، فنبغ في الشعر والرواية والفلسفة والقانون وعلوم الجيولوجيا وهندسة المعادن والمناجم. لا عجب، والحال هذه، من أن يعمد إلى استصفاء الجواهر المشتركة بين هذه المعارف، ويعتمد مبدأ المؤالفة الانسجامية التي تكشف الخلفيات المشتركة العميقة.
نشأ الشاعر الفيلسوف الصوفي البروسي-الألماني نوڤاليس (1772-1801) في أسرة تنتمي إلى طبقة النبلاء البروتستانتيين. من بعد أن تلقى تربية دينية مسيحية متشددة، ظهر أثرها لاحقاً في أعماله، درس الفلسفة في جامعة يانا (Jena) التي تعرف فيها إلى شاعر الجماليات فريدريش فون شيلر (1759-1805) الذي أثر فيه تأثيراً بالغاً. في هذه الجامعة أيضاً تابع دروس الفيلسوف النمساوي كارل راينهولد (1757-1823) الذي كان يسعى إلى تفسير أعمال كانط تفسيراً جديداً يستخرج منها المبدأ الناظم القادر على ضبط جميع التناولات النقدية. في إثر ذلك، درس القانون في جامعة لايبتسيش التي التقى فيها الفيلسوف الأديب الألماني فريدريش شلغل (1772-1829)، وعالم الرياضيات الألماني كارل هندنبورغ (1741-1808) الذي كشف له عن مبادئ الرياضيات الاحتمالية التوفيقية (combinatoires).
موت الحبيب منبع الإلهام
لا شك في أن أخطر الاختبارات الوجدانية التي عصفت به كان فقدان حبيبته الفتية صوفي التي خطبها سراً، وهي في الثالثة عشرة من عمرها، منتظراً بلوغها القانوني حتى يقترن بها. غير أن داء السل قضى عليها، فكانت الفاجعة بمنزلة الهزة الكيانية التي فجرت فيه ينابيع الإبداع. فإذا به يتحف الأدب برائعته نشائد إلى الليل (Hymnen an die Nacht) التي أضحت نموذج القصيدة الغنائية في الطور الأول من الرومانسية الألمانية. تجاوزاً للمحنة المؤلمة هذه، مضى إلى مدينة فرايبرغ الساكسونية ينتسب فيها إلى مدرسة المناجم التي تعد أول معاهد البوليتكنيك الأوروبية. فنبغ في إتقان الكيمياء والجيولوجيا وعلم المعادن، وتخرج في المعهد العالي هذا مهندساً متفوقاً. وما لبث أن خطب ابنة معلم الرياضيات جلي فون شاربنتييه، غير أن مرض السل الصدري أجهز عليه قبل أن يعقدا قرانهما.
الموسوعة الجامعة والرواية الصوفية
قضى السنوات الثلاث الأخيرة من حياته في الكتابة المكثفة التي تناول فيها موضوعات شتى في الأدب والفلسفة والعلم واللاهوت. لشدة تعلقه بمثال المعرفة الشاملة، أكب يعد موسوعة فكرية تحيط بجميع المعارف والعلوم والفنون دعاها "المسودة العامة" (Das allgemeine Brouillon). في خريف 1799، تلا أمام كوكبة من الشبان والشابات الرومانسيين المعجبين في مدينة يانا قصائده الروحية (Geistliche Lieder). وما لبث أن عكف على إنشاء روايته الصوفية الأشهر "هاينريش فون أوفتردينغن" (Heinrich von Ofterdingen) التي تصف رحلة الشاعر الرومانسي الصوفي، معتصماً بصورة الزهرة الزرقاء التي أضحت رمز الرومانسية التائقة إلى الرقة الوجدانية الصافية.
فضلاً عن ذلك، تنطوي هذه الرواية على كثافة إيحائية وتعقد حبكي يجعلانها نموذج الرواية الحديثة، ذلك بأن نوڤاليس يحشد فيها كل مقتضيات التعبير الرومانسي، فيجانس بين التفكرية الروحية، والسخرية البناءة، والأسلوب الشغفي الذي كان يعتمده الأديب الألماني غوته (1749-1832)، والتنافذية التعبيرية الحريصة على تجاوز المناهج الإقصائية. ومن ثم، تبدو هذه الرواية كأنها تعبر عن تشابك الرغبة والبناء الرمزي، فتعكف على التأمل في علاقة الحلم بالواقع، والحياة بالموت، والوجود بتنازع الأقدار. لا يتورع أيضاً عن امتداح الزمن المجدي البهائي الأول الذي يأنس إليه الرومانسيون في تحقيب أطوار الإبداع.
على الرغم من أسقام جسده، لم يتردد في مضاعفة جهوده الفكرية ومطالعاته الفلسفية والصوفية، فقرأ نصوصاً عرفانية لأفلوطين (توفي عام 270)، وللفيلسوف الصوفي الألماني ياكوب بومه (1575-1624)، والفيلسوف العقلاني الألماني لايبنيتس (1646-1716)، والطبيب الفيلسوف الخيميائي السويسري بارسلزس (1493-1541)، وغوته، ورائدي الرومانسية الألمانية يوهان لودڤيغ تيك (1773-1853) وأوغست ڤيلهلم شلغل (1767-1845).
تساكن النظام والفوضى في أنظومة الغياب
تنطوي أعمال نوڤاليس على أبعاد أدبية وشعرية وفلسفية وعلمية ولاهوتية جليلة. وعلاوة على ذلك، ترك لنا آلاف التدوينات المقتضبة التي تختزن كنوزاً من المعاينات الحية التي اشتملت عليها "المسودة العامة". أما المسعى الفكري الأرحب، فكان يقضي أن يستعين بالكتابة الشعرية والروائية لكي يرفع بناءً ضخماً من الأفكار المتدافعة المتشابكة التي تسهم في تسويغ تساكن النظام والفوضى في الوجود، لذلك ابتدع عبارة مربكة احتوت على المقصد التآلفي هذا: أنظومة غياب الأنظومة، وفي يقينه أن الفوضى والانتظام ينبغي أن يتقابلا ويتفاعلا ويتحاورا على الدوام. من شدة تأثره بالأفلاطونية المحدثة وبفلسفة فيشته (1762-1814)، كان يعاين في التخيل الإبداعي المحرك الأساسي الذي يحيي المسعى الميتافيزيائي والإنشاء الشعري. فإذا به يعتني بتدبر مسائل الحياة والموت والمرض والانفعال والتصور الحسي والحلم اللا واعي، متناولاً انقباضات الوجدان وانبساطاته في أسلوب روائي بديع ونظم شعري غناء.
الوجود ناطقاً بالشعر من أجل تغيير العالم
لا ريب في أن فكر نوڤاليس شديد التعقيد، لا يستوي على هيئة واحدة. صحيح أنه كان شاعراً أثيرياً يحلق في الفضاء العلوي، مرتقياً إلى عالم غيبي محجوب عن الأنظار. وصحيح أيضاً أنه تأثر بموت خطيبته، فآثر التأمل المستفيض في انسدادات الوجود، ولكنه كان أيضاً متعلقاً برمزية الأرض والطبيعة والمحسوسات الاختبارية، لذلك عمد إلى بناء تصور فلسفي يحرض فيه الناس على تغيير العالم. غير أن هذا التغيير ينبغي أن يتخذ صورة الشعر الرومانسي. ومن ثم، يجب علينا أن "نرمسن العالم"، أي أن نجعله رومانسياً، و"نشعرن" الوجود، أي أن نجعله ينطق بجمالات الوجدان الشعرية.
حقيقة الأمر أن صورة الشاعر الرومانسي البريء الذي يستسهل تناول قضايا الحياة ليست بالصورة الأمينة التي تحرص على إبراز عبقرية نوڤاليس الاستثنائية، ذلك بأن رومانسية حلقة يانا الألمانية التي كان ينتمي إليها أشد رصانة وتطلباً وعمقاً من الوصف الساذج الذي ساقه بعض الأدباء الفرنسيين. إنها رومانسية البحث في فقه اللغة، والنقد الأدبي الصارم، والتجديد الفكري المبدع. من الواضح إذاً أنه كان في فكره حريصاً على استجماع إسهامات العلوم والفلسفة والآداب. ومع ذلك، لا بد من الاعتراف بأن هذا الاستجماع لا ينجزه إلا الشعر وحده، وفقاً لما كان يردده "الشعر هو الواقع المطلق. هذه نواة فلسفتي. كلما ازدادت شاعرية الشيء، عظمت واقعيته".
الانصراف إلى الشعر بعد استنفاد الفلسفة
وحده الشعر يستطيع أن يستجلي الروابط الخفية الناشطة بين حقول المعرفة جميعها. خلافاً للتقسيم الذي كان يعتمده فيشته بين مختلف العلوم، أصر نوڤاليس على مقام الشعر التوحيدي القادر على إنشاء الصلة الناظمة بين المعارف، لذلك أكب يستنطق طاقات الشعر حتى يتمكن من تحقيق حلمه المبدع: أن يشعرن جميع العلوم. الفلسفة والشعر صنوان لا يفترقان، إذ إن الفلسفة شعر العقل، على ما كان يذهب إليه، تختبر اللا متناهي اختبار الحدس اللماع، ذلك بأن الطبيعة اللا متناهية تستثير في الفكر الشعري طاقة الانفتاح على المطلق، بيد أن اللا متناهي ليس ابتداعاً فلسفياً مجرداً، بل حقيقة واقعية نحيا في رحابتها الحاضنة المنعشة.
على الرغم من تعلق نوڤاليس بالشعر سبيلاً إلى الإفصاح الأمين والمؤالفة الانسجامية، ظل يصر على مقام الفلسفة. وحده التناول الفلسفي يجعلنا ندرك كيف كان المفكر الفذ هذا يجمع بين تصور المجردات العلوية الأثيرية، وإدراك المحسوسات الطبيعية الكثيفة. كان يعد نفسه صاحب الإسهام الذي يكمل اجتهادات فيشته المثالية، وذلك على قدر ما يبني المثالية الجذبية التي تكلل مثالية الذات. حتى أفلوطين عينه فيلسوف ولد من أجل نوڤاليس، إذ إنه أعانه على الجمع بين الواقعية والمثالية، بين الطبيعة والروح، بحيث أضحى قادراً على تجاوز الحدود المصطنعة المرسومة على التخوم القصية.
ومن ثم، فإن مسعى "المسودة العامة" يروم أن يبين أن كل علم واحد في جوهره. غير أن هذه الوحدة ليست وحدة الأنظومة القاهرة التي تصهر جميع المعارف الطبيعية والروحية، بل وحدة الطاقة الوجدانية الجذبية التي يفجرها الحب الكوني ويستثمرها في المؤالفة بين المتباينات.
مواضع الاختلاف بين رومانسية نوڤاليس وكلاسيكية غوته
اعتنى نوڤاليس بالطبيعة، إذ إنها في صميم جوهرها شعرية، لذلك ينبغي أن يكون الشاعر أيضاً من علماء الطبيعة القادرين على تحليل عناصرها وبناها وحركيتها. الأرض هي الإنسان، وما من شيء في الطبيعة غريب عن طبيعة الإنسان نفسها. وعليه، فإن الطبيعة موضوع مشترك بين غوته ونوڤاليس. غير أن الأول ينظر إليها بالعين الخارجية التي تترصد الظواهر وتصفها وصفاً دقيقاً، في حين يتلمسها الثاني بالعين الداخلية الباطنية التي تتحرى أسرارها الدفينة. بين المعاينة الخارجية والتدبر الجواني ترتسم الحدود الشرعية التي تفصل بين الأدب الكلاسيكي الذي يمثله غوته خير تمثيل، والأدب الرومانسي الذي يجسده نوڤاليس. صحيح أن المذهبين الأدبيين يعتمدان مبدأ وحدة الطبيعة، غير أنهما يختلفان في تعيين مقام الذات ومقام الموضوع، لذلك كان النقاش محتدماً بين جماعة الرومانسيين الملتئمين في حلقة مجلة "الأتنيوم" (Athenaeum) التي أسسها أوغست وفريدريش شلغل، وجماعة الكلاسيكيين المتحلقين في منتدى مجلة "البروبيليان" (Propyläen) التي أنشأها غوته وصديقاه هانس مايير (1760-1832) وفريدريش شيلر (1759-1805).
لم يستطع الأدباء أن يبتوا المسألة، بل انبرى كانط يعين الحدود ويضبط المفاهيم. وما لبث فيشته، فيلسوف نوڤاليس المفضل، أن انحاز إلى الذات وأولاها مقام الصدارة. لا عجب، والحال هذه، من أن يناصر نوڤاليس هذه الصدارة، فيعتني بالذات ونظرتها إلى العالم حتى تصبح الطبيعة في رأيه مرآة النفس تعاين فيها وجدانها الأعمق. حين يتأمل الإنسان شاعرياً في الحياة والوجود والعالم، هل ينظر في ذاته نظراً جوانياً أم ينظر في الطبيعة نظراً خارجياً؟ من الطبيعي أن ينتقد غوته نوڤاليس المسرف في تمجيد الذاتية، ويعيب عليه أنه، إذ يدعي النظر في الطبيعة، إنما يهملها إهمالاً فاضحاً، ويكتفي بتدبر ذاته الجوانية، على غرار بطل الرواية الكلاسيكية "آلام الشاب ڤرتر" (Die Leiden des jungen Werther) الذي فقد صلته بالعالم الخارجي، وطفق يعكس ذاتيته على الخارج وأحداثه وموضوعاته ومشكلاته.
بيد أن نوڤاليس كان في روايته يعيب على غوته أنه أنشأ أسلوباً في الرواية يرمي إلى تهذيب الخلق الإنساني، ولكنه لا يراعي الجمالية الشعرية التي يجب أن تسحر القارئ، لذلك كان يعتقد أن غوته اكتفى بالنثر الروائي الأنيق، في حين أن الرواية ينبغي أن تكون في جوهرها شعريةً تنضح بالاستعارات الإلهامية البليغة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من الاقتبالات الأدبية الإشكالية التي اختبرتها أعمال نوڤاليس بعض القراءات الفرنسية النحيبية المستندة إلى ترجمات تشوه مقاصده وتطبعها بطابع اكتئابي تحسري دمعي. من اللافت أن ينبري بعض الفلاسفة الفرنسيين من أمثال موريس دغاندياك (1906-2006) ليترجموا نص "المسودة العامة" ترجمة ملتوية تحجب المنحى الفلسفي التوفيقي، بيد أن رمزية الكتابات الرومانسية هذه استثارت اهتمام فلاسفة البنيوية والتفكيك من أمثال الفلاسفة الفرنسيين جاك دريدا (1930-2004) وفيليب لاكو-لابارت (1940-2007) وجان-لك نانسي (1940-2021)، وفلاسفة العلوم من أمثال غاستون باشلار (1884-1962)، وفلاسفة التأويل الأدبي من أمثال موريس بلانشو (1907-2003)، والتأويل الفلسفي من أمثال هايدغر (1889-1976) وديلتاي (1833-1911). في سياق آخر، حاول بعض الفلاسفة، ومنهم الألماني مانفرد فرانك (1945)، أن يربطوا فكر نوڤاليس بنقدية كانط ومثالية فيشته. غير أن الثابت في هذه القراءات انجذاب الفلاسفة إلى مشروع نوڤاليس الائتلافي التوحيدي الذي يروم أن يبرهن على وحدة المطلب المعرفي الناشب في عمق الوعي الإنساني.