ظلّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يقرع طبول الحرب منذ أن توعد بضربة نووية إلى أن حذّر في أول تصريح له في فبراير(شباط) الماضي، الذي تبعته تصريحات عدة أخرى، من ضربة نووية محتملة، قائلاً، "كل من يحاول اعتراض سبيلنا -ناهيك عن تهديد بلدنا وشعبها- أن يعي بأن الرد الروسي سيكون فورياً وسيفضي إلى عواقب لم يرها في التاريخ". ورأى المراقبون الغربيون بغالبيتهم في هذا التصريح ضرباً من الغرور والغطرسة الجوفاء. ففي نهاية المطاف، إن الطرف الذي سيستخدم الأسلحة النووية أولاً سيخوض مغامرة محفوفة بالمخاطر، تتمثل في الرهان على أن خصمه لن ينتقم بطريقة موازية، هذا إن لم ينتقم بطريقة أشد ضرراً. لهذا السبب، فإن احتمال أن يقدم قادة عقلاء على تبادل الضربات التي يمكن أن تفضي إلى تدمير دولهم هو احتمال ضئيل للغاية. ولكن، عندما يتصل الأمر بالأسلحة النووية، لا تكفي ضآلة الاحتمال لدرء الخطر المتربص.
إن الإعداد لاحتمال لجوء روسيا إلى استخدام الأسلحة النووية هو أمر لا مناص منه، لا سيما أن هذا الخطر سيبلغ ذروته يوم تميل كفة الانتصار في الحرب لصالح أوكرانيا بشكل حاسم. هذه هي الحالة الوحيدة التي ستملك فيها روسيا حافزاً لخوض هذه المغامرة المروعة، في محاولة منها لعدم تجرّع الهزيمة. عندها، ستوجه روسيا ضربة صاعقة إلى أوكرانيا وداعميها في حلف الشمال الأطلسي (ناتو) تحملهم على التراجع. وقد يفعل الروس ذلك من خلال استخدام أحد الأسلحة النووية التكتيكية، أو بعض منها، ضد القوات الأوكرانية، أو عن طريق إحداث انفجار رمزي فوق منطقة غير مأهولة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ثمة ثلاثة خيارات عامة أمام صناع السياسة في الولايات المتحدة لكي يردوا بشكل مختلف على الهجوم النووي الروسي ضد أوكرانيا. يمكن للولايات المتحدة أن تختار الاستنكار الكلامي ضد استخدام السلاح النووي من دون أن ترفق أقوالها بأفعال عسكرية. كما يمكنها أن تطلق العنان [لاستخدام] أسلحة نووية من جانبها أيضاً. أو يمكنها أن تمتنع عن شن هجوم نووي مضاد، على أن تدخل الحرب بشكل مباشر عبر غارات جوية تقليدية على نطاق واسع وحشد للقوات البرية. إلا أن هذه الخيارات كلها سيئة، لأنها لا تنطوي على سيناريو واحد يكون الأقل خطراً لمواجهة النهاية في حال لم يعد محرماً استخدام السلاح النووي. ولعل الرد من خلال شن حرب تقليدية هو الأقل سوءاً بين الخيارات الثلاثة المتاحة باعتباره سبيلاً لتفادي خطر اللجوء إلى الخيار الأضعف أو الخيار الأقوى.
التنافس على الخطر
لم يول صناع السياسة الأميركيون على امتداد العقود الثلاثة الأخيرة إلا القليل من الاهتمام للديناميكيات المحتملة لأي تصعيد نووي. وعلى خلاف اليوم، كانت هذه القضية في صلب الجدل الاستراتيجي خلال الحرب الباردة. ففي ذلك الوقت، كان حلف شمال الأطلسي هو من اعتمد من حيث المبدأ على خيار التصعيد المقصود، بدءاً من الاستعمال المحدود لأسلحة نووية تكتيكية، كوسيلة لإيقاف الغزو الروسي. وكانت هذه الاستراتيجية مثيرة للجدل، غير أنه تم تبنيها لأن الغرب اعتقد أن قواته التقليدية أدنى قوة من قوات حلف وارسو. أما اليوم، ومع الانقلاب الذي حدث في ميزان القوى منذ الحرب الباردة، جنحت العقيدة الروسية الحالية المتمثلة في "التصعيد للتخفيف من حدة التصعيد" إلى تقليد مفهوم "الاستجابة المرنة" الذي انتهجه حلف الناتو خلال الحرب الباردة.
روّج الناتو لسياسة الاستجابة المرنة، على صعيد خطابه، إلا أن الفكرة لم تكن دائماً راسخة متينة من الناحية الاستراتيجية. فخطط الطوارئ الفعلية التي تمخض عنها هذا المفهوم لم تحظَ بالإجماع على الإطلاق، لأنه وبكل بساطة، إن استخدام الأسلحة النووية من شأنه توليد تراشق من نوع العين بالعين قد يصل إلى ذروته في حرب غير محدودة تنذر بنتائج مشؤومة. وكما لفت جي. مايكل ليغ، وهو مشارك سابق في مجموعة التخطيط النووي التابعة للناتو، في دراسة جرى إعدادها عام 1983 لمؤسسة راند، إلى أن المجموعة لم تكن قادرة على التوصل إلى اتفاق حول خيارات متابعة محددة تتعلق [بإجراءات ضرورية في مرحلة] ما بعد "الطلقة التجريبية" الرمزية الأولية لإحداث الأثر النفسي، وذلك بسبب الخوف من أن تجاريها موسكو أو حتى أن ترفع سقف الرهان [برد أعنف]. واليوم، نعقد الأمل على هذه المعضلة القديمة كي تردع موسكو عن إطلاق الشرارة النووية الأولى.
غير أن صناع السياسة في الناتو لا ينبغي أن يعولوا على قدرة موسكو على ممارسة ضبط النفس. فلدى بوتين مصالح أكثر على المحك في الحرب مما لدى أنصار أوكرانيا المدججين بالسلاح النووي، ويمكنه أن يراهن بشكل أكبر، وستكون واشنطن أقل استعداداً منه للمخاطرة الكبرى. قد يؤدي بوتين دور المجنون ويستعمل الصدمة النووية كمخاطرة مقبولة من أجل إنهاء الحرب بانتصار روسيا.
مستويات التصعيد
في الوقت الذي يواجه فيه حلف الشمال الأطلسي احتمال استخدام روسيا الأسلحة النووية، فإن السؤال الأول الذي يحتاج إلى إجابة هو ما إذا كان هذا الاحتمال سيشكل خطا أحمر حقيقيا بالنسبة للغرب. بعبارة أخرى، هل سيؤدي هجوم نووي روسي إلى تحول الناتو من مجرد الاكتفاء بتزويد أوكرانيا بالسلاح والعتاد إلى الانخراط مباشرة في القتال نفسه؟ إن الأساس المنطقي الروسي [لاستعمال] أسلحة نووية تكتيكية سيكون تخويف الناتو وإبعاده بحيث لا يتجاوز ذلك الخط [الأحمر] بقدر ما هو الضغط على أوكرانيا للاستسلام. وإذا لم يؤد عدد قليل من الأسلحة النووية الروسية إلى استفزاز الولايات المتحدة بحيث تتدخل في قتال مباشر، فسيكون لدى موسكو ضوء أخضر لاستعمال المزيد من هذه الأسلحة وسحق أوكرانيا بشكل سريع.
إذا انتقل التحدي من عالم الافتراض إلى الواقع الفعلي، فإن الدخول في حرب نووية يمكنه بسهولة أن يفاجئ الأميركيين كتجربة لا يريدون خوضها. ولهذا السبب، فإن هناك احتمالاً حقيقاً جداً بأن ينتهي صناع السياسة إلى اتخاذ الخيار الأضعف، وهو أن يرغي الغرب ويزبد في شأن الهمجية التي لا يمكن تصورها للفعل الروسي ويعمد إلى تطبيق أي عقوبات اقتصادية لم تستعمل بعد من دون القيام بأي خطوة مماثلة [للتصرف الروسي]. وهذا من شأنه أن يعطي إشارة بأن لدى موسكو الحرية المطلقة للقيام بما تريده عسكرياً، بما في ذلك استعمال المزيد من الأسلحة النووية للقضاء على الدفاعات الأوكرانية، وهو بشكل أساسي اعتراف بانتصار روسي. وبقدر ما يبدو الخضوع مخزياً بالنسبة إلى الصقور أولاً، يوم يحين الموعد جدياً، فهو سيكون الموقف المحبذ للأميركيين، لأنه سيؤدي إلى تجنب الخطر النهائي للانتحار الوطني.وفي مقابل هذا الخيار السريع يجب أن نضع المجازفات على المدى الطويل التي يمكن أن تتفاقم كسابقة تاريخية مفادها بأن الشروع في هجوم نووي يؤتي ثماره. وإذا كان الغرب لا يريد أن يتراجع، أو، والأهم من هذا، إذا أراد أن يردع بوتين عن المناورة النووية في المقام الأول، ينبغي على الحكومات أن تشير بأكبر قدر ممكن من الصدقية إلى أن الاستعمال الروسي للسلاح النووي من شأنه أن يستفز حلف الناتو بدل أن يخيفه.
يمكن لحرب نووية بسهولة أن تفاجئ الأميركيين باعتبارها تجربة لا يريدون خوضها.
وإذا قرر الناتو أن يرد بضربة بالنيابة عن أوكرانيا، فعندها سيثار المزيد من الأسئلة، عما إذا كان ينبغي أيضاً إطلاق أسلحة نووية، وإذا كان الأمر هكذا، فكيف سيتم ذلك. إن الفكرة الأكثر انتشاراً هي العين بالعين والسن بالسن، الهجوم النووي المضاد الذي يدمر أهدافاً روسية معادلة لتلك التي استهدفها الهجوم الروسي الأصلي، هذا هو الخيار الذي يبرز بشكل بديهي، بيد أنه غير جذاب لأنه يستدعي تراشقاً بطيء الحركة لا يمكن لأي طرف فيه أن يتوقف [عن التراشق]، وينتهي الأمر بالطرفين وقد تعرض كلاهما للتدمير.
وبدلاً من ذلك، يمكن لواشنطن أن ترد بضربات نووية على نطاق أوسع من الضربات الروسية التي تمت في البداية، مما يهدد بتكبيد موسكو خسائر غير متناسبة إذا حاولت أن تشن المزيد من الهجمات النووية المحدودة. يضم هذا الخيار الأثقل عدداً من المشكلات، إحداها هي أن استعمال الأسلحة النووية ضد القوات الروسية داخل أوكرانيا، سيتسبب في أضرار جانبية لعملائها أنفسهم. وهذه ليست مشكلة جديدة. فخلال الحرب الباردة، كان الخبراء الاستراتيجيون الذين ينتقدون الاعتماد على الأسلحة النووية التكتيكية لمواجهة القوات الروسية الغازية. يقولون "في ألمانيا لا تبعد البلدات عن بعضها بعضاً سوى اثنين من الكيلوطن [وحدة لقياس القوة التفجيرية لسلاح نووي تعادل قوة ألف طن من مادة تي أن تي] فحسب". واستعمال الأسلحة النووية ضد أهداف داخل روسيا من شأنه أن يزيد من خطر إشعال شرارة حرب غير محدودة.
تكمن المشكلة الثانية في تبادل الضربات النووية التكتيكية وهذا سيصب في مصلحة روسيا لأنها تملك أسلحة نووية تكتيكية أكثر مما لدى الولايات المتحدة. وسيتطلب عدم التناسق هذا من صناع السياسة الأميركيين أن يلجأوا بشكل عاجل إلى ما يسمى القوى الاستراتيجية (الصواريخ العابرة للقارات أو القاذفات) من أجل الاحتفاظ بالتفوق على الخصم. وهذا بدوره، من شأنه أن ينطوي على المجازفة بإطلاق العنان للدمار الشامل المتبادل لبلدي القوتين الرئيستين. هكذا فإن الضربات المتبادلة من نوع العين بالعين وخيارات الانتقام غير المتناسبة تفرض مجازفات عالية الخطورة.
وسيكون الخيار الأقل خطورة هو الرد على الهجوم النووي من خلال شن حملة جوية بالذخائر التقليدية الموجهة فقط ضد أهداف عسكرية روسية وحشد قوات برية من أجل نشرها المحتمل للقتال في أوكرانيا. وسيقترن ذلك بإعلانيين عامين قويين. أولاً، يجب أن يشدد صناع السياسة في حلف الناتو على أن التكنولوجيا الدقيقة الجديدة تجعل الأسلحة النووية التكتيكية غير ضرورية لتوجيه ضربات مؤثرة للأهداف التي جرت العادة أن تعتبر عرضة للاستهداف فقط بأسلحة الدمار الشامل العشوائية، وذلك من أجل تخفيف [تأثير] الآراء التي تعتبر هذا الرد بمستواه المنخفض خياراً ضعيفاً. وهذا من شأنه أن يؤطر لجوء روسيا إلى ضربات نووية كدليل إضافي ليس فقط على وحشيتها بل أيضاً على تخلفها العسكري. ولن يؤدي الدخول المباشر في الحرب على المستوى التقليدي إلى تبديد الذعر في الغرب. إلا أن هذا يعني أن روسيا ستواجه احتمال القتال ضد حلف الناتو المتفوق عليها بشكل كبير في مجال القوى غير النووية، والمدعوم بقدرة انتقامية نووية، والذي سيكون من غير المرجح أن يبقى مقيداً إذا وجهت موسكو ضرباتها النووية ضد الولايات المتحدة بدلاً من القوات الأوكرانية. والرسالة المهمة الثانية التي ينبغي التأكيد عليها ستكون أن أي استعمال روسي لاحق لأسلحة نووية من شأنه أن يثير انتقاماً نووياً أميركياً.
هذا الخيار التقليدي بالكاد يعتبر جذاباً. فالحرب المباشرة التي تبدأ على أي مستوى بين قوتين عظميين تكون محفوفة بخطر التصعيد إلى دمار شامل. وإن استراتيجية من هذا النوع ستبدو أكثر ضعفاً من الانتقام بالمثل كما ستزيد من استماتة الروس تجنباً للهزيمة بدلاً من أن تخفف منها، بالتالي تترك دافعهم الأصلي للتصعيد قائماً جنباً إلى جنب مع احتمال أنهم سيضاعفون الجهود ويستعملون المزيد حتى من الأسلحة النووية. وهذا من شأنه أن يجعل من الضروري الجمع بين استجابة حلف الناتو العسكرية وعرض لشروط تسوية ستتضمن العدد الممكن من التنازلات الشكلية من أجل إعطاء روسيا [فرصة] التظاهر إلى حد ما بالتوصل إلى سلام بشرف. إن الحسنة الرئيسة للخيار التقليدي هي ببساطة أنه لن ينطوي على المخاطرة كما هي الحال مع الخيارين، الأضعف الذي يتمثل في عمل لا شيء أو الأقوى النووي.
معضلة الغرب
في حال حدوث تفجير نووي روسي، سيكون هناك هدفان متناقضان لدى حلف الناتو. فمن جهة، سيرغب التحالف في إبطال أي فائدة استراتيجية يمكن أن تكسبها موسكو من التفجير، ومن جهة ثانية، سيريد الحلف أن يتفادى مزيداً من التصعيد. وتؤكد هذه المعضلة الضرورة الواضحة لتعظيم مثبطات توجه موسكو إلى استعمال سلاح نووي في المقام الأول.
وللوصول إلى هذه الغاية، لا ينبغي بحلف الناتو فقط أن يدفع بتهديدات قابلة للتصديق بالانتقام، بل يجب عليه أيضاً أن يحشد الدعم من أطراف أخرى يريد بوتين أن يمنعها من الانضمام إلى المعارضة الغربية. لقد ارتفعت معنويات موسكو حتى الآن بسبب رفض الصين والهند ودول أخرى المشاركة بشكل كامل في حملة العقوبات الاقتصادية التي فرضها الغرب. إلا أن لدى هؤلاء المحايدين مصلحة في الحفاظ على المحرمات النووية. ومن الممكن إقناعهم بإعلان أن تعاونهم الاقتصادي المستمر مع روسيا مشروط بامتناعها عن استعمال الأسلحة النووية. وكإعلان عن احتمال لا يزال افتراضياً حتى الآن، يمكن للدول المحايدة أن ترى في هذا بادرة قليلة التكلفة، وطريقة لوضع حد لمضايقات الغرب وإحراجه لها، من خلال معالجة وضع لا يتوقعون حدوثه.
ستبقي واشنطن على الدوام التهديدات والاستراتيجية المعلنة غامضة بما فيه الكفاية لتوفير مرونة وأبواب للهروب. مع ذلك، فإن أي تلويح آخر من قبل بوتين باللجوء إلى الأسلحة النووية ينبغي أن يحفز على التذكير البسيط والقوي في الوقت نفسه من جانب واشنطن بما يعرفه بوتين، ولكنه قد يقنع نفسه بخلاف ذلك بأن الغرب قد نسي أن روسيا معرضة تماماً لانتقام نووي، وكما قالت أجيال من المفكرين وممارسي [العمل في مجال ذي صلة] في الجانبين مراراً وتكراراً ليس في الحرب النووية من منتصر.
ريتشارد ك. بيتس أستاذ في دراسات الحرب والسلام في جامعة كولومبيا، وهو زميل مساعد في مجلس العلاقات الخارجية.
مترجم من فورين أفيرز
4 يوليو (تموز) 2022