على الرغم من أن القانون اللبناني يعطي الليرة قوة إبراء مطلقة، ويعاقب كل من يرفض تقاضي الليرة اللبنانية فوق أراضي البلاد، حيث تنص المادة 192 من قانون النقد والتسليف على عقوبة السجن من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات على كل من يمتنع عن قبول العملة اللبنانية، إلا أن الواقع مغاير تماماً، إذ بات الدولار يتمتع بقوة الإبراء المطلقة في الاقتصاد اللبناني الذي يجنح سريعاً إلى "الدولرة" الشاملة، والتي بدأت تجتاح أقساط المدارس والجامعات، الأمر الذي ينذر بأزمة اجتماعية خطيرة، في وقت لا تزال مداخيل المواطنين غير متوازنة مع المستحقات، ولعل أزمة موظفي القطاع العام، الذين دخلوا إضراباً شبه شامل، دليل على تداعيات الأزمة وخطورتها.
فبعد ثلاث سنوات على مسيرة الانهيار التاريخي التي يعيشها لبنان، باتت الأجور والسلع والخدمات مرتبطة بشكل شبه كامل بسعر الدولار الأميركي الذي يسجل تذبذبات مستمرة، دفعت التجار إلى تسعير البضائع بالدولار الأميركي وتقاضي ثمنها وفقاً لما يسجله سعر السوق السوداء، حتى بات المواطن يدفع نحو 75 في المئة من السلع والخدمات بالدولار، وحتى التجار وأصحاب المطاعم وقطاع الخدمات يسارعون إلى محلات الصرافة التي يتعاملون معها، للتعجيل بتحويل ما يتقاضونه من أموال بالليرة اللبنانية إلى الدولار قبل أن يتبدل سعر صرفها ويخسروا من قيمتها.
حتى المصرف المركزي، ومن أجل لجم تضخم حجم الليرة اللبنانية في الأسواق، بات يشجع المواطنين من خلال سلسلة تعاميم على تحويل ليراتهم إلى دولارات عبر منصة صيرفة، وبالتالي، اعتمد خيار "الدولرة" لضبط انهيار سعر صرف الليرة مقابل الدولار.
فوضى التسعير
وفي وقت تفرض المادة الخامسة من قانون حماية المستهلك "إعلان الثمن بالليرة اللبنانية بشكلٍ ظاهر بلصقه إما على السلعة أو على الرفّ المعروضة عليه"، لكن الأكثرية الساحقة من التجار رفعت الملصقات عن بضائعها واستبدلت بها رمز الاستجابة السريعة QR Code بسبب التقلبات المرتبطة بسعر صرف الدولار.
وأشار الخبير الاقتصادي وليد أبو سليمان إلى أن تأثيرات الأزمة الاقتصادية، وتقلبات وتعدد أسعار الصرف في البلاد، بالإضافة إلى انعدام الرقابة الرسمية من قبل السلطات اللبنانية، حولت القوانين إلى حبر على ورق، وأدت إلى فوضى في التسعير والتداول والتصريف، تصعب في ظلها المحاسبة، بخاصة أن الثمن بات يدفعه التجار والمؤسسات على شكل خسائر كبيرة من حسابهم، ولفت إلى أن السلطات اللبنانية نفسها كانت في مقدم من خرق هذه القوانين وخالفها ولم يقتصر الأمر على التجار أو المواطنين، وعمدت منذ ما قبل الأزمة إلى "دولرة" الاقتصاد اللبناني على حساب الليرة، مضيفاً أن الخطط والإجراءات الحكومية تتجه نحو مزيد من "دولرة" الاقتصاد، إذ يطرح أخيراً تعديل الرسوم الجمركية المعروف بـ"الدولار الجمركي"، بحيث ستتقاضى السلطة رسومها بالدولار أو وفق سعر صرفه على حركة الاستيراد والتصدير، ما يعني مزيداً من "الدولرة" في الأسواق، وارتفاعاً في الأسعار.
مواجهة الإفلاس
ومن مؤشرات تكريس الـ"دولرة" في مختلف الخدمات والسلع بما لا يتناسب مع الدخل القومي بالليرة اللبنانية، ما ظهرت ملامحه منذ قررت الحكومة، قبل أشهر، رفع الدعم عن استيراد المحروقات والأدوية والسلع الغذائية الأساسية باستثناء القمح، إضافة الى رفع كلفة الاتصالات والإنترنت بما لا يقل عن خمسة أضعاف بعد أن تم تحويل فواتير الهاتف إلى الدولار أو ما يعادله على سعر منصة صيرفة.
وبرر وزير الاتصالات جوني قرم اضطراره إلى اعتماد الـ"دولرة" إلى تراجع قيمة إيرادات شركات الاتصالات بنحو 20 مرة نتيجة انهيار سعر صرف العملة المحلية، وأصبح، بالتالي، مدخولها لا يتجاوز 70 مليون دولار، وأكثر من نصف هذا المبلغ يذهب لتوفير المازوت لتغذية نحو 2100 محطة كهربائية للاتصالات، كاشفاً عن أن المداخيل لم تعد كافية لإدارة القطاع.
وكانت معظم شركات التأمين، من أوائل القطاعات التي دخلت عالم "الدولرة" منذ بداية الأزمة، وأبلغت زبائنها بتسديد فواتيرهم حصراً بالدولار، بعد أن اعتمدت، فترة، المزج بين صيغة تقاضٍ بالليرة، وبررت شركات التأمين إصرارها على التعامل بالدولار بأن المستشفيات لم تعد تتقاضى أجورها من شركات التأمين إلا بالدولار، كذلك شركات السيارات وشركات التصليح، وأيضاً بالنسبة إلى التعويضات بمعظم أشكالها.
إلغاء الليرة اللبنانية
في هذا الإطار، كشف مدير المعهد اللبناني لدراسات السوق باتريك مارديني، عن أن سبب التضخم في لبنان هو انهيار سعر الصرف وليس ارتفاع سعر السلع، وبالتالي، الانتقال إلى "الدولرة" قد يلجم التضخم، لافتاً إلى أنها الحل لمواجهة التقلبات الحادة في سعر الصرف التي أنتجت مشاكل اقتصادية عدة، حتى باتت الليرة غير صالحة كوسيلة لقياس الأسعار ولا كوسيلة للتبادل التجاري، كما فقدت وظيفتها كعملة تخزين للقيمة، أي لا يمكن الاحتفاظ بها لوقت، لأنها سرعان ما ستفقد قيمتها.
وأكد أن "الدولرة" في هذه المرحلة الخيار الصائب، موضحاً أن الأسعار بالأساس "مدولرة"، وبرأيه، "السماح بالتسعير بالدولار كمرحلة أولى يرفع هذا الغشاء، ويُظهر أسعاراً أكثر حقيقية، ما من شأنه أن ينعكس استقراراً في الأسعار"، على أن تتبعها في المقابل "دولرة" أجور ورواتب الموظفين، للمحافظة على ما تبقى من قدرة شرائية للمواطن اللبناني.
أما بالنسبة إلى القطاع العام فيمكن أن تلحق به "الدولرة" من خلال فرض دفع الضرائب بالدولار، فبهذه الطريقة يمكن للدولة اللبنانية أن تحافظ على جزء من مدخولها الذي تراجع كثيراً مع انهيار سعر الصرف، وهذا ما يبرر عدم قدرة الدولة اليوم على الدفع لموظفيها، وعندها يتم سحب العملة اللبنانية من التداول، بحيث يصبح الدولار في متناول القطاعين العام والخاص، على أن يقدم المصرف المركزي كخطوة لاحقة على سحب الليرة من التداول بشرائها، وبالتالي "يتدولر" لبنان وتُلغى الليرة اللبنانية نهائياً، ويصبح الدولار هو العملة الرسمية في لبنان، إلى حين بدء السير بحلول للأزمات الاقتصادية والمالية التي نعانيها.
ووضح مارديني أن في سوق التداول نحو 40 ألف مليار ليرة على سعر صرف 25 ألف ليرة توازي 1.6 مليار دولار، بينما مصرف لبنان ضخ عبر منصة صيرفة عشرات الملايين، لذا يمكن بسهولة شراء الليرة وسحبها من السوق، أما في ما يتعلق بالليرة اللبنانية المودعة في المصارف والمقدرة بنحو 50 ألف مليار، فتساوي على سعر صرف 25 ألفاً نحو ملياري دولار، ما يعني أن المصرف المركزي يحتاج إلى ضخ من ثلاثة إلى أربعة مليارات دولار ليسحب الليرة اللبنانية من التداول وينهي التضخم ومعه الأزمة النقدية.
رهينة العملة الأجنبية
وعلى عكس مارديني، رأى المحلل الاقتصادي طالب سعد، أنه على الرغم من أن التعامل بالدولار يشكل عامل أمان للتجار، فإنه يزيد من الأعباء المعيشية 14 ضعفاً على المواطن، مشيراً إلى مدى خطورة "الدولرة" الشاملة على الاقتصاد، بخاصة أنها تضع البنك المركزي عاجزاً أمام اتخاذ قرارات تجعله قادراً على التحكم في السياسة النقدية وحاجات السوق، إذ تبقى الدولة رهينة للعملة الأجنبية بتحسنها أو تعثرها في الخارج، وأشار إلى أنه على الرغم من اعتبار البعض أن نظام "الدولرة" الشاملة أمر لا بد منه كخيار متاح، لا سيما في ظل حال انهيار الليرة المتصاعد، وذلك لمحاولة التخفيف من التضخم والتدهور، فقد حذر من التداعيات السلبية الناجمة عن "الدولرة"، والمتمثلة في عدم قدرة البنوك المركزية على التحكم في السياسة النقدية للدولة، وإمكانية إجراء تعديلات على المعروض النقدي وحاجات السوق من العملة، ما يؤدي إلى ضعف النمو الاقتصادي، معتبراً أن إعادة بناء النظام الاقتصادي على قاعدة تفعيل القطاعات الإنتاجية بهدف تقوية العملة، وإعادة الثقة بها، وتكوين نظام مصرفي جديد قائم على الثقة والمبادلات والتحويلات والاعتمادات، أمر ضروري لتحقيق النهوض الاقتصادي في البلد، إذ من الأفضل معالجة الموضوع من حيث مسبباته وليس نتائجه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولفت إلى أن سبب ارتفاع الاعتماد على الدولار في السوق بحكم الأمر الواقع، وفي ظل عجز كبير في ميزان المدفوعات وعدم دخول عملات أجنبية، توازن وتغذي حاجات السوق من العملة الأجنبية المطلوبة محلياً، لا سيما في بلد نسبة وارداته بحدود 80 في المئة من حاجاته، الأمر الذي سيؤدي إلى نتائج أكثر تعقيداً على المجتمع والاقتصاد في المديين المتوسط والبعيد.
سلبيات وإيجابيات
أما رئيس جمعية الصناعيين اللبنانيين سليم الزعني فرأى أن "الدولرة" بمفهومها الواسع لها سلبيات ولها إيجابيات، لذلك، المطلوب قبل اتخاذ أي إجراء في هذا الخصوص، وضع دراسة شاملة وواضحة للجميع، للصناعي والتاجر والمستهلك، إذ إن الجميع يعلمون أن الصناعي يشتري المواد الأولية والمحروقات بالدولار، وبالتالي فهو معرض للخسارة في ظل عدم استقرار الدولار في السوق. وأضاف أنه في حال حصلت "الدولرة" بطريقة علمية ومدروسة فهذا يؤمن ثبات الأسعار للبضائع في الأسواق، وبالتالي، تتأمن العدالة للصناعي والتاجر والمستهلك، لذلك "أعود وأكرر أن الدولرة يجب أن تدرس وتطبق بطريقة علمية وشفافة وعادلة".