بعد انتهاء عمليات الغزو الأميركي للعراق (20 مارس/ آذار 2003، 1 مايو/ أيار 2003) بدأت الإدارة الأميركية إعداد خطط جديدة لسياساتها في تنفيذ مشروع الشرق الأوسط، فـأعلن الرئيس الأميركي جورج بوش مشروعاً لنشر الديمقراطية في المنطقة يكون- في نظره- منطلقاً للإصلاح السياسي فيها. وقال في إعلانه إن "الدول الغربية تقاعست لستين عاماً وتعايشت مع انعدام الحريات في الشرق الأوسط وأدى ذلك إلى الإخلال بأمننا، لأن الاستقرار لا يمكن الحصول عليه على حساب الحرية".
وضعت الإدارة الأميركية برامجها للمنطقة من دون التشاور مع الحكومات، وربطت معوناتها بمقياس يحدد صندوق الألفية على أساس الالتزام بمعايير ثابتة من بينها الحريات السياسية والشخصية، السيطرة على الفساد، حكم القانون، تعليم البنات، الإنفاق على التعليم، حقوق ملكية الأراضي، إدارة الموارد الطبيعية، السيطرة على التضخم، السياسات المالية. وكان التصور في واشنطن أن إنجاز مثل هذا المشروع سيفسح المجال لظهور قيادات جديدة تقود مرحلة ازدهار وتحديث. وهذا بدوره سيقود إلى محاربة التطرف ويجفف منابع الإرهاب.
جاء بدء عملي مع انطلاق هذا المشروع والخطط المرتبطة به، وبموجب تحقيق تقدم في تنفيذ البرامج المطلوبة يتم اختيار الدول المؤهلة للاستفادة من المساعدات الأميركية. كنت متحمساً للأمر وأرى في انضمام اليمن محفزاً لمحاربة الفساد وتعزيز الحريات الخاصة والعامة، خصوصاً حرية الصحافة التي تمثل أهمية قصوى للرقابة الشعبية علـى أداء الحكومة في ظل سيطرة حزب واحد على الغالبية الكاسحة في مجلس النواب. كان هذا الملف يشغل حيزاً من الوقت، وبدأت مراسلة مكتب الرئاسة في شأن تفاصيله، ولم أدرك أن حساسية الأجهزة الأمنية المفرطة تجاه الحريات ومكافحة الفساد كانت وظلت مرتفعة، وكان تناول هذه القضايا مثيراً للحنق والغضب ويجعل من يتعرضون لها في مواجهة سيل من التهم الجاهزة.
تعاملت مع الموقع الذي توليته من دون قيود الوظيفة ومن دون حذر تجاه زواري، فتحول مكتبي إلى ما يشبه الملتقى لكثيرين من الإعلاميين، خصوصاً المعارضين للنظام، وعدد من السياسيين المغضوب عليهم الذين كانوا يحسنون الظن بي وبقدرتي على مساعدتهم في بعض القضايا الخاصة... وفي الواقع فإني كنت أتوخى- من دون تكليف من أحد- العمل على الاقتراب من هذه المجموعة آملاً في معرفة واقعهم ومعاناتهم، وبذل الجهد للتخفيف من غضبهم تجاه الأوضاع. وكان مقيل باسندوة يجمعنا في أغلب الأيام.
خلال الفترة التي تلت عودة عدد من الأفراد الذين شاركوا في حرب أفغانستان ثم تفجيرات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 تزايدت الانتقادات الخارجية والداخلية تجاه الجهاز المركزي للأمن السياسي، وتداول روايات فساد بعض القائمين عليه وثرائهم غير المشروع، والكم الهائل من التقارير الدولية عن المخالفات القانونية وانتهاكات الحقوق الطبيعية للمعتقلين فيه. وبلغ الأمر الحديث العلني عن رعايتها أفراداً متهمين بالارتباط بعمليات إرهابية داخل البلاد وخارجها... ومن الواضح أن استمرار قياداته في مواقعها لفترة طويلة قد أصابها بالترهل.
لم يكن أمام علي عبدالله صالح خيار تغيير القيادات في الأمن السياسي وإحداث فراغ مفاجئ داخل أكثر الأجهزة الأمنية نفوذاً وانغماساً في كل المؤسسات، التي بلغت حد التحكم في إدارة الجامعة والترقيات داخلها. وهكذا جرى الإعلان عن تأسيس جهاز الأمن القومي وعين مدير مكتب رئاسة الجمهورية علي الأنسي رئيساً له وعمار صالح ابن أخ الرئيس وكيلاً... وبموجب قرار إنشائه كان من المفترض أن ينحصر نشاطه في مكافحة التجسس والإرهاب، والدراسات وتحليل المعلومات، والتنسيق مع وزارة الخارجية في النشاطات المرتبطة بأعمال السفارات في الخارج والبعثات الأجنبية المعتمدة. وفي الواقع كان عمار بحكم قرابته العائلية بصالح الرجل الأقوى داخل المؤسسة الجديدة، فتحول الجهاز الجديد إلى مصدر قوة ونفوذ بعيداً من الرقابة والنقد، وصار "الوكيل" صاحب نفوذ سياسي داخلي يتجاوز صلاحياته، وشكل شبكات علاقات خارجية واسعة، وكان الانضمام إلى الجهاز انتقائياً للغاية، لتفادي ما حدث سابقاً في "الأمن السياسي". بمرور الوقت أصبح قادراً على التدخل في أغلب التعيينات في المواقع العليا بالدولة، وبدأ بالاستحواذ على نفوذ الأمن السياسي داخل مؤسسات الدولة كافة.
لم أكن بحكم تكويني النفسي ونشأتي متقبلاً فكرة التعاون مع الأجهزة الأمنية خارج الحدود الرسمية لأن سمعتها- بسبب الممارسات التي رسخت في أذهان الناس- كانت سيئة إلى حد أن الارتباط بها يصبح مثيراً لشبهة فساد، وكنت أعتقد أن علاقتي المباشرة بالرئيس تمنحني حصانة ضد تقاريرهم. وظننت أنني غير مضطر إلى تشكيل علاقة خاصة مع الأمن للحصول على موقع أرفع أو ضمان استمرار في وظيفتي... ولربما بالغت في ثقتي بتقبل الرئيس لانتقاداتي العلنية التي كنت أصرح بها أمامه بحضور كثيرين أو داخل مكتبي في وزارة الخارجية أو خارجه، ولم أتفهم أن تأثير التقارير الأمنية لتحديد المواقف يكون دائماً أقوى في الواقع العملي.
تحول "الأمن القومي" تدريجاً إلى جهاز مثير للجدل، وتضخمت صلاحياته خارج قانون تأسيسه، وأصبح الحديث عنه ولو همساً مثيراً للقلق، وصار العاملون يشعرون بأنهم ذوي قوة ونفوذ، خصوصاً أن الاختيار للعمل فيه كان محصوراً في الغالب على مجموعة من الشباب المنتمين إلى أسر معروفة ويتمتع آباؤهم بثقة صالح، وعدد منهم يجيد اللغة الإنجليزية... وكان هذان العاملان مصدر تميز للجهاز الجديد عن العاملين بجهاز الأمن السياسي، وبدأت الحساسية تنشأ بين منتسبيهما، وكان جلياً عدم الانسجام والتنسيق لأن "الأمن السياسي" فقد سطوته بعد عقود من تصدر المشهد الأمني ثم تقلص دوره المؤثر في المجتمع.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
سارت أموري روتينية، ولم يكن هناك أي نشاط غير استقبال عدد من السفراء في حال غياب الوزير وانشغاله، أو التوقيع على مراسلات عادية، أو استقبال ضيوف أجانب لا يعلمون أن وكيل وزارة الخارجية، كما في بقية الوزارات لا سلطة له أبعد من تأمين راتبه وسيارة خاصة وسائق خاص... ولم يمنعني موقعي الرسمي من مواصلة حريتي في اختيار أصدقائي والدفاع عنهم قدر ما أستطيع وتشجيعهم على مواصلة انتقاداتهم الفساد المستشري والتسيب الإداري وتردي الخدمات. كنت أعلم أن عدداً من زواري في المكتب أو رفاقي في المقيل تحت سمع الأجهزة الأمنية وبصرها، ولم يكن ذلك مصدراً للقلق عندي، لكنه تسبب في مزيد من الشكوك حولي.
كان السفراء الغربيون الذين التقيهم في المكتب وخلال المناسبات الاجتماعية يبدون آراءهم صراحة في الأحداث الداخلية، وكانت اهتماماتهم تختلف بين الترويج الاقتصادي ومحاولة الحصول على صفقات تجارية ومتابعة المعلومات حول انتشار الجماعات الجهادية وبدايات النزاع في صعدة والنشاط السياسي. بالطبع كان الدبلوماسيون الأميركيون هم الأكثر حضوراً في متابعة ومراقبة الأوضاع، وكانت زياراتهم لا تتوقف على الرغم من المحاذير الأمنية التي كانت تستدعي مرافقة أمنية يمنية وأميركية في كل تنقلاتهم، وكان حضورهم يسبب إزعاجاً للأجهزة الأمنية لأنهم كانوا يطرحون بحرية تامة كل ملاحظاتهم حول ما يدور على الساحة في مجالات حقوق الإنسان والحريات الصحافية والفساد، وكان انتشار الأسلحة الصغيرة والخفيفة مصدر قلق شديد لهم يعبرون عنه في كل لقاءاتهم مع المسؤولين، ومثل الإرهاب القضية الأكثر إلحاحاً وتتبع عناصره والتحقيق مع المعتقلين بتهم إرهابية، توطدت علاقاتي مع أعضاء البعثة الأميركية بالذات، وكنت راغباً في استغلالها لتوضيح ما يدور بصراحة مطلقة، وشرح حقيقة الأوضاع لأنني على قناعة كاملة بأن مهمة العاملين في وزارة الخارجية ليست تزييف الوقائع بل شرح أسبابها والسعي لوضعها في إطارها الصحيح بعيداً من التسريبات والتأويلات لأن الكذب يضع الدبلوماسي في حرج يفقد معه ثقة واحترام محاوريه، خصوصاً إذا كانوا على علم بالوقائع والتفاصيل.
في اللقاء الأول لي مع سفير غربي حضرت دبلوماسية تعمل في مكتب الوزير لكتابة المحضر، وطلبت منها عرض النسخة قبل إرسالها إلى مكتب الرئاسة وفق ما كان معمولاً به... لاحظت أنها أضافت فقرات نسبتها إلي، فوجهتها بحذف الفقرة كاملة، وفوجئت أن أخبرتني أن تلك الفقرة كانت تضاف إلى كل المراسلات حتى إذا لم يتم تناولها في أي لقاء. وجهتها إني لن أوقع على أي محضر تضاف فيه قضايا لم يتم بحثها.
في حادثة أخرى التقيت عدداً من السفراء الغربيين لحثهم على تخفيف لهجة تحذير السفر إلى اليمن لأنه يحرم البلاد من مورد مهم للاقتصاد... أرسل المكتب الخبر بفحوى ما دار. في صباح اليوم التالي نشر الخبر في الصحف الرسمية بتفاصيل تناقض ما حصل، حين اتصلت بالمسؤولين للاعتراض، قال لي أحدهم (نحن أدرى بما يجوز نشره).
(للحديث بقية)