القرار الحاسم للإدارة الأميركية بقيادة الرئيس الأسبق باراك أوباما بسحب جميع قواتها العسكرية من العراق مع نهاية عام 2011، جاء بالتزامن مع دخول الأوضاع في الدول العربية بحالة من الترقب والحذر الشديدين من تداعيات هذه الانتفاضات، والعمل بهدوء لقطع الطريق على توسعها إلى دول وساحات أخرى، والتعامل مع النتائج التي انتهت إليها هذه التحركات من تغيير في قيادات بعض هذه الدول، ودخول أخرى بما يشبه الحرب الأهلية.
قرار الانسحاب الأميركي من العراق لم يكن بعيداً من التفاهم مع النظام الإيراني، الذي استطاع حتى ذلك الوقت تثبيت وجوده ونفوذه على الساحة العراقية عبر حلفائه العراقيين المشاركين في العملية السياسية، ما سمح له بلعب دور مؤثر في صياغة الاتفاق الاستراتيجي الذي وقعته الولايات المتحدة مع الدولة العراقية.
في هذه المرحلة، كانت سوريا والنظام فيها، بما يمثله من حديقة خلفية للنظام في طهران، تدخل في دائرة الفوضى العسكرية والأمنية، التي وضعت النظام ورئيسه بشار الأسد في دائرة الانهيار المتسارع، ما دفع المرشد الأعلى ورأس النظام الإيراني إلى رفع مستوى التحدي الاستراتيجي، باعتبار ما تشهده سوريا هو حرب ضد إيران، وأن الدفاع عن دمشق هو دفاع عن طهران، وأن خسارة محافظة الأهواز الإيرانية بما تمثله من أهمية جيوسياسية وجيواقتصادية للنظام لن يكون تأثيرها السلبي في النظام كالتأثير الذي سينتج من خسارة سوريا وسقوطها، واصفاً الانتفاضة السورية حينها بالمؤامرة التي تستهدف محور المقاومة، في وقت كان يصر ويؤكد توصيف ما شهدته تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين بأنه "نهضة إسلامية".
كان لا بد للنظام من أداة لتنفيذ سياسته المنحازة إلى جانب قيادات العواصم الداخلة في "محور المصالح الإيرانية"، ولم تكن هذه الأداة سوى "قوة القدس" في قوات حرس الثورة بقيادة قاسم سليماني، ودورها في قيادة العلميات الخارجية للنظام والمسؤولة عن ترجمة الطموحات الإقليمية للنظام وتنظيم العلاقة مع أذرعه في المنطقة.
خلال هذه المرحلة التي يمكن القول إنها مرحلة التأسيس الفعلي والترجمة العملية لسيطرة المؤسسة العسكرية "قوة القدس" على مفاتيح العمل الدبلوماسي للنظام الإيراني، بعد محاولات متكررة ومستمرة من قبل مؤسسة الحرس لتحقيق هذا الهدف منذ بداية الثورة في سياق مساعي هذه المؤسسة لتكريس سياسة "تثوير" العلاقات الخارجية، واستخدام الإدارة الدبلوماسية لأداة مساعدة في توسيع دائرة ونفوذ الثورة الإسلامية عالمياً، في إطار تطبيق شعار "محاربة الاستكبار العالمي والدفاع عن المستضعفين"، كما نص الدستور في مقدمته على "نصرة جميع المستضعفين على المستكبرين".
ما بين المثالية الأيديولوجية التي برزت في بدايات الثورة وتأسيس نظامها الإسلامي، وبين تورط إيران في الصراعات مع محيطها الإقليمي، تراجعت أهمية شعار "نصرة المستضعفين" مع الإبقاء عليه في الجدل العقائدي لصالح سياسة الدفاع عن المصالح الاستراتيجية والجيوسياسية والجيواقتصادية لإيران، التي باتت تحدد شكل العلاقات وأبعادها التي تربطها مع المحيط الإقليمي والمجتمع الدولي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هيمنة المؤسسة العسكرية وقوة القدس تحديداً على الإدارة الدبلوماسية تمت ترجمتها من خلال تحكم هذه القوة بتعيين السفراء والمندوبين الدبلوماسيين لإيران في عديد من البعثات الدبلوماسية بالعواصم الدولية، خصوصاً العواصم التي تقع بنطاق دول غرب آسيا وتحديداً إقليم الشرق الأوسط.
عسكرة العلاقات الخارجية جاءت نتيجة قناعة النظام والمنظومة الحاكمة في تحويل النظام السياسي إلى إدارة تابعة ومنفذة لتوجهات التحالف بين المرشد الأعلى والمؤسسة العسكرية العقائدية التي يمثلها حرس الثورة، انطلاقاً من الرؤية أو العقيدة التي يتبناها هذا التحالف بأنه في معرض التهديد الدائم، وأن المرحلة وما تشهده دول الجوار من تحركات وانتفاضات شعبية تستهدف تقليم أضافر إيران وقطع أذرعها الإقليمية والخارجية تمهيداً لاستهداف النظام في الداخل.
وقد تعمقت هذه القناعة، أي قناعة استهداف النظام لدى قيادته ومؤسسته العسكرية، مع دخول أزمة البرنامج النووي في مرحلة متقدمة من التوتر، خصوصاً مع الولايات المتحدة الأميركية بقيادة الرئيس السابق دونالد ترمب، الذي ذهب إلى تصعيد وتشديد الحصار على النظام باستخدام سلاح العقوبات الاقتصادية وفرض العزلة السياسية والدبلوماسية على إيران بشكل واسع.
هذا الصراع المفتوح بين طهران والولايات المتحدة رفع من مستوى اعتماد النظام الإيراني على الدبلوماسية العسكرية في مواجهة واشنطن والدول الإقليمية، فزاد من تورطه في الأزمة السورية، إذ انتقل من مستوى تقديم الاستشارات إلى الانغماس المباشر، والاستعانة بأذرعه في الإقليم كحزب الله اللبناني وبعض الفصائل العراقية كحركة النجباء وكتائب حزب الله العراقي، إضافة إلى فتح جبهة استراتيجية على الساحة اليمنية، بما تمثله من تهديد لأمن الممرات المائية الاستراتيجية، والضغط على الخصم الإقليمي الأبرز السعودية، بعد أن دفع حليفه الحوثي للانقلاب على مخرجات حوار الرياض والتفاهمات الدولية.
هذه الاستراتيجية في استخدام النفوذ الخارجي لإبعاد التهديد وشبح الخوف عن الداخل، وضعت الدبلوماسية الإيرانية في قبضة قائد قوة القدس سليماني، الذي غلب دبلوماسية الميدان على دبلوماسية الحوار. فإنه لم يكن بعيداً من استراتيجية النظام الحقيقية في تحويل هذا النفوذ والدور إلى لاعب رئيس قادر على تحديد مسارات أية عملية تفاوض قد تحصل والتأثير في نتائجها، وهو ما ظهر جلياً في مسار المفاوضات السرية التي كانت تجري على أرض سلطنة عمان بين النظام الإيراني والولايات المتحدة وإدارة أوباما، التي انتهت عام 2013 إلى إعلان كسر الحرمة العقائدية على الحوار والتفاوض المباشر مع الشيطان الأكبر.