عادت قضية الأموال الليبية المجمدة في الخارج من جديد إلى واجهة الأحداث السياسية في ليبيا، مثيرةً الجدل حول مصيرها. وتتوزع تلك الأموال التي تذهب تقارير محلية ودولية إلى تقديرها بما يناهز أو يتجاوز الـ200 مليار دولار، على دول عدة في كل القارات، وكانت جُمدت بناءً على قرار لجنة منبثقة من مجلس الأمن الدولي، وفق القرار رقم 1970 الصادر عام 2011 بشأن ليبيا، على خلفية أحداث الانتفاضة ضد نظام معمر القذافي.
وطفت إلى السطح مجدداً قضية الأموال الليبية بعد تجدد دعوات جدية إلى تعويض القتلى الذين سقطوا على يد الجيش الجمهوري الإيرلندي، من خلال عوائد الضرائب على الأصول الليبية المجمدة والتي تصل إلى ملايين الجنيهات الإسترلينية.
وجاء في التقرير الذي نشرته شبكة "بي بي سي" باللغة الإنجليزية، أنه تم خلال السنوات الثلاث الماضية جمع 17 مليون جنيه استرليني من الضرائب المفروضة على بعض الأصول الليبية المجمدة، والتي تتم حالياً المطالبة بدفعها كتعويضات لقتلى سقطوا على يد الجيش الجمهوري الإيرلندي.
وبموجب القرار الصادر عن مجلس الأمن في سبتمبر (أيلول) 2011، فإن تجميد الأموال الليبية يشمل استثمارات في شركات ومصارف أوروبية كبيرة، إضافة إلى ودائع وأسهم وسندات تشمل مئات البنوك والشركات، وبشكل رئيسي أموال "صندوق الاستثمارات الليبي" الذي تأسس عام 2006 ضمن مشروع "ليبيا الغد" الذي كان يديره نجل القذافي، سيف الإسلام، لإدارة واستثمار فوائض العوائد النفطية الليبية.
واستثمر هذا الصندوق في عهد القذافي، أكثر من 70 مليار دولار، غالبيتها في شركات وبنوك إيطالية وبريطانية وبلجيكية وألمانية، من بينها "فيات لصناعة السيارات" و"ايني للطاقة" و"باير الألمانية للكيماويات" و"بنك يونيكريدت الإيطالي" و"البنك الملكي الاسكتلندي" و"بنك يوروكلير" البلجيكي و"دويتشه بنك" الألماني. ويوجد في البنوك البلجيكية وحدها 18 مليار دولار منها، بينما تقدر تقارير دولية الأموال العائدة للقذافي وعائلته والمقربين منه بحوالى 70 مليار دولار إضافية في الخارج، أما احتياطات البنك المركزي الليبي فتقدر بنحو 40 مليار دولار، قسم كبير منها في الخارج.
مساعٍ بريطانية لاستغلال الأموال
وليست هذه المرة الأولى التي يدور فيها جدل حول الأموال الليبية المجمدة في بريطانيا، ففي شهر أكتوبر (تشرين الأول) من العام الماضي سعت بريطانيا إلى إصدار تشريع يمنحها الحق في استغلال جزء من الأموال الليبية المجمدة لتعويض القتلى الذين سقطوا على يد الجيش الجمهوري الإيرلندي، مستندةً إلى اعتراف القذافي بدعم الجيش الجمهوري بالمال والسلاح في ثمانينيات القرن الماضي.
واستند مَن يقف وراء مشروع القانون في البرلمان البريطاني، إلى أن القذافي زوّد الجيش الجمهوري الإيرلندي بالأسلحة خلال الصراع الذي استمر 30 سنة في إيرلندا الشمالية، وسقط فيه 3600 قتيل وأُصيب آلاف آخرون، إلا أن القضية أُغلقت بعد احتجاج ليبي شديد على هذه الإجراءات من الحكومة البريطانية.
وتقدّر مؤسسة الاستثمار الليبية أرصدتها المجمدة في بريطانيا بنحو 9.5 مليار جنيه (12.25 مليار دولار).
حجم الاستثمارات في الخارج
وعن حجم الاستثمارات والأموال الليبية في الخارج، قال الاقتصادي الليبي سليمان الشحومي، إن "الغطاء الذي يجمع الاستثمارات الليبية في الخارج والداخل هي المؤسسة الليبية للاستثمار، والتي تُقدَّر قيمة أصولها بـ 64 مليار دولار، وتتبعها حوالى 550 شركة، كما تشمل أرصدة نقدية مجمّدة تشكل حوالى 50 في المئة من قيمة الأصول، والباقي موجود على شكل استثمارات طويلة الأمد في عدد من المؤسسات الليبية. ويأتي 50 في المئة من هذه الاستثمارات بشكل صناديق ومحافظ استثمارية تابعة للشركة الليبية للاستثمارات الخارجية تقوم باستثمارات في مختلف المجالات، وهي أقدم المؤسسات الاستثمارية خارج ليبيا، والمحفظة الاستثمارية الليبية الأفريقية. أما النصف الآخر فتديره المؤسسة بنفسها، وهو عبارة عن أرصدة نقدية وودائع لدى بنوك أجنبية واستثمارات في سندات وأدوات استثمارية ذات عوائد ثابتة، وتواجه المؤسسة الليبية للاستثمار صعوبات في إدارة هذه الأرصدة بسب استمرار الحظر الدولي عليها.
المال السائب عرضة للسرقة
وفي ظل ما تعيشه ليبيا من صراعات خلقت وضعاً سياسياً هشاً وحكومات عدة تتنازع على الشرعية وضعف قدرة الأجهزة الرقابية، أصبحت الأموال الليبية المجمدة في الخارج عرضةً للتلاعب والاستهداف من أطراف محلية وخارجية عدة، ما جعل مصير بعضها مجهولاً. وكشفت تقارير لجنة مجلس الأمن الدولي المعنية بالشأن الليبي، تفاصيل تؤكد أن هذه الأموال تعرضت لـ "تآكل" من دون تحديد هوية المسؤولين عن ذلك.
وأوضح التقرير أن "الرئيس التنفيذي للمؤسسة الليبية للاستثمار السابق حسن بوهادي، أعلن أن للمؤسسة أصولاً مجمدة تبلغ قيمتها 65 مليار دولار، إلا أن اللجنة تأكدت إثر مشاورات أجرتها مع عدد من الدول الأعضاء، ومديري الأموال، والموظفين السابقين في المؤسسة الليبية للاستثمار من أن مجموع أصول المؤسسة، بما في ذلك أصول الشركات التابعة لها، يبلغ 67 مليار دولار.
وأقرّ رئيس مجلس إدارة المؤسسة بأن "هذا المبلغ جرى تقييمه عام 2012، وأنه من الصعب تقييمه في الحالة الراهنة. وفي الواقع كانت لجنة مجلس الأمن المعنية بالشأن الليبي أفادت بأن مجموع الأصول كان يبلغ 56 بليون دولار، فيما أقرت المؤسسة الليبية للاستثمار، أخيراً بأن الأصول المجمدة لا تتجاوز الـ43 مليار دولار. ويثير تضارب قيمة هذه الأموال شكوكاً حول مصيرها وحقيقة التصرف فيها، الأمر الذي يُعتبر خرقاً للعقوبات الدولية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبيّن أحد تقارير رويترز أن وزارة الخارجية الأميركية أعلنت الإفراج عن مبلغ 1.5 مليار دولار لسداد قيمة المساعدات الإنسانية التي قدمتها وكالات الأمم المتحدة وللاستخدامات المدنية للطاقة والصحة والتعليم والغذاء.
كما أعلنت بريطانيا في أواخر أغسطس (آب) 2011 أن الأمم المتحدة وافقت على طلبها الإفراج عن 1.55 مليار دولار من الأموال الليبية المجمدة لديها. وأفرجت إيطاليا عن 350 مليون يورو من الأموال الليبية المجمدة في بنوكها، وكانت خطوة أولى تلتها خطوات مماثلة.
فضيحة بروكسل
سوء تفسير أم سوء نوايا؟
من جهتها، اعترفت المؤسسة الليبية للاستثمار بهذا الخرق لقرار مجلس الأمن، مرجعةً أسبابه إلى التفسير الخاطئ من بعض الدول لبعض بنود القرار المتعلقة تحديداً بفوائد الأموال المجمدة. وقالت إن "تجميد أصول المؤسسة تم بموجب نظام العقوبات الذي فرضه مجلس الأمن في بداية عام 2011 والذي عُدل في أواخر العام ذاته، متضمناً أحكاماً بشأن العوائد على الأصول المجمدة من فوائد وأرباح مستحقة وغيرها".
وقالت المؤسسة إن تفسير الدول لهذه الأحكام في قرار مجلس الأمن كان مختلفاً، فبعض الدول ومن بينها بريطانيا وبلجيكا وألمانيا وإيطاليا ولوكسمبورغ على سبيل المثال، فسرت القرار على أنه رفع للتجميد عن فوائد وأرباح الأصول المجمدة.
وكشفت المؤسسة أنه وكنتيجة لما سبق أصبحت الفوائد وغيرها من العوائد على الأرصدة المجمدة لدى مصرف "يوروكلير" البلجيكي تودَع في الحسابات المصرفية للمؤسسة الليبية للاستثمار في كل من لوكسمبورغ والمملكة المتحدة والبحرين.
وعلى الرغم من صعوبة الحصول على أرقام دقيقة في تقديرات الأصول والأموال الليبية في الخارج، إلا أن الممارسات التي اكتنفت التعامل معها تثير الشكوك. ويبقى ثابتاً أن ما تتعرض له هذه الأموال يشكّل تهديداً حقيقياً لمصيرها، ومؤشراً يثير تساؤلات تحمل شبهات وشكوك حول الأسباب الحقيقية التي دعت إلى تجميدها.