اختيار عنوان "بار ليالينا" (دار الشروق) لرواية ليس إلا مغامرة لا يقوى عليها سوى كاتب له رصيد، كأحمد الفخراني الذي ينتقي مفردات مألوفة من الواقع ونماذج إنسانية حياتية، ثم يعمل على إزالة كل الطبقات الظاهرية السطحية ليكشف عن التراكمات النفسية والاجتماعية التي قولبتها واعتاد نظرنا عليها، حتى إننا لم نعد نتساءل عن طبيعتها، فقد فعل ذلك مثلاً في رواية "إخضاع الكلب" (2021)، فجعلنا نفهم دوافع هارون في محاولته إخضاع الكلب، وبالقدر نفسه لم نتمكن من قبول قسوته الباردة. إلا أننا نشعر براحة وبأن ضميرنا يقبع مستريحاً، لأن إخضاع الكلب لم يتم نسبه في العنوان لفاعل بعينه، وهو ما يحمي القارئ من التورط في هذا الفعل الوضيع، لكن الضمير المتصل "نا" في ليالينا التي تعمل كمضاف إليه للكلمة التي تسبقها، يطرح إشكالية مبكرة: من هي جماعة المتكلمين؟ لا أحاول قراءة عتبات النص، لكن العنوان ظل بمثابة سؤال لم يقدم له النص إجابة، أو بالأحرى عمد إلى المراوغة تاركاً للقارئ مساحة كافية يقدم فيها تفسيراته.
رفاق المقهى
نوح الرحيمي ليس إلا "كومبارس" يجتمع برفاقه في مقهى بعرة المعروف، هامشي، مهمش، غير مرئي، لكن الحبكة والبناء يحولانه إلى الشخصية المركزية، ينتصر الشكل للمضمون فيمنح "الرجل الصغير" دوراً كبيراً: الدور الذي ظل الرحيمي يحلم به ولم ينله. وبظهور نديم الصبان الصحافي الذي يتفضل على الهامشيين ليمنحهم صوتاً في مجلة "نخبوية"، يدرك الرحيمي أن حلمه على وشك التحقق، وأن شركة "الصمت الرهيب" ستتحول إلى صوت مدو في عالم الفن. الرحيمي الذي لا يعرف عن المركز شيئاً يظن أن الهامش هو العالم وهو ما يمنح سخرية الصبان من الأفلام الصامتة التي أنتجها الرحيمي مع رفاقه، بمثابة صفعة إفاقة. تتحول سخرية الصبان إلى ما يشبه العامل المنشط للحبكة بأكملها، فالرحيمي لا يتصور أن كل ما حلم به انتهى بضحك فج وقاس لدى الصبان. وفي سعيه المحموم إلى الحصول على الاعتراف بوجوده، يدخل الرحيمي بار "ليالينا" لنلتقي بالكبار والكبيرات، من الكتاب والفنانين والشعراء والناشطين والأكاديميين... الذين لا عمل لهم (ولهن) سوى طحن الكلام وإعادة تدويره والثرثرة عن "الصغار" (وليس فوق النيل)، وهو ما يرسخ شعورهم أنهم "الكبار". بالمواجهة بين الرحيمي المتنكر والكبار في البار تتشكل الجدلية التي لا تنتهي ولن تنتهي، حتى إن الفخراني لجأ في النهاية إلى حلول المسرح الإغريقي، فكان الاختفاء داخل مرآة الحقيقة هو السبيل إلى الخلاص.
تحولت هذه المواجهة إلى ما يشبه الكرنفال "الباختيني" (الناقد باختين)، فما بين تنكر الرحيمي وأحاديثه الجوفاء كالطبل (صفحة ونصف الصفحة مثلاً عن فكرة أن الأرض مسطحة وليست كروية)، وتعالي الكبار وازدواجية معاييرهم، يتحول البار وبعض الأماكن في القاهرة إلى مساحة للشد والجذب، السخرية والغضب، الضحك والبكاء، الصدق والكذب، الاستسلام والتحدي... المركز والهامش، لكن الكرنفال عند باختين له شروط أهمها أن كل الأطراف (المؤدي والمتفرج) تعرف أن ما يحدث ليس إلا تمثيلاً، لكن الرحيمي لا يعرف ذلك، بل يصدق بكل جوارحه، حتى إنه يقف عند قبر الكواكبي عارياً كما طلب منه الكبار. عند هذه النقطة المفصلية ندرك أن الكبار ليسوا كباراً، فهم لم يسخروا من الرجل الصغير فقط، بل وبشكل مفارق، وربما من دون وعي، سخروا من اسم الكواكبي ودلالته أيضاً، هو الذي كتب عن "طبائع الاستبداد" وربما ما مر في خاطره كان النموذج المشابه لهم.
نهاية الكرنفال
بنهاية الكرنفال -حيث يتحول البار إلى مستنقع- ينتقم نوح الرحيمي من الكبار، إذ يضعهم في مواجهة حقيقتهم أمام المرآة. من لا يقبل الحقيقة يغرق في المستنقع (مثل يسري الحلو)، ومن يقبل يختفي في المرآة. وفي حين أن هذه النهاية كانت تقنية فنية ضرورية كي لا يتحول السرد إلى نص مفتوح، إلا أنها أيضاً تضيف إلى الخطاب الروائي المفهوم الذي سعى الفخراني إلى رسمه بكل الوسائل المتاحة. فالنهاية تحمل طبقات من المعاني وعديداً من الدلالات، بداية من المرآة وانتهاء بالمستنقع، وما بينهما قرار القبول أو الرفض. في حالة القبول يختفي الشخص، وفي حال الرفض عليه أن يبقى في الوحل. بهذه الاستعارة لا يعود نوح الرحيمي الرجل الصغير، بل يكتسب بعداً إنسانياً يجعله يخرج من النموذج المصمت، ليصبح ذاتاً فاعلة، بخاصة أنه الشخصية المركزية في الرواية التي منحها الكاتب كل التفاصيل لتقاوم قولبة النموذج.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يلتقي مع نوح في ذلك، نعمات -صاحبة البار- وقد تكون المقابل الأنثوي لنوح. فهي أيضاً ليست سوى أحد الصغار، فقد قضت حياتها في أوهام التعلق بطبقة الكبار أملاً في الحصول على اعتراف يدفعها إلى أعلى السلم الطبقي، لكن الكبار لم يمنحوها سوى الهامش الذي قررت أن تتعالى عليه عبر تعمد تشويه نطقها للعربية، للإيحاء بأنها ليست مصرية، لكن الكاتب منحها أيضاً مساحة (وزوجها فؤاد المر) تمكنها من قبول الحقيقة في النهاية والاختفاء داخل المرآة طواعية.
يموج الأدب -وبخاصة الروسي- بتيمة الرجل الصغير، لكن البراعة تتعلق بالقدرة على مد الجسور بين هذا المفهوم الفلسفي وخيوط الواقع عبر التخييل. وعناوين الأفلام وصوت وردة الجزائرية الذي يستمع له نوح وفؤاد المر، إضافة إلى الاستعارات والمجازات الممتدة عبر المرايا والوحل والصمت والثرثرة والأقنعة والتنكر والبار ذاته كمجسم صغير للروح النخبوية المنعزلة التي تمتص هواء المدينة. ويبقى نوح الرحيمي نموذجاً مختلفاً، لأنه ببساطة يعرف منذ البداية أنه صغير وهو أمر غير مألوف في هذا النموذج. وبناء على هذه المعرفة والمواجهة التي وقعت مبكراً في النص، يطرح السؤال مرة أخرى: على من يعود الضمير "نا" في ليالينا؟ هل يتضمن هذا الجمع نوحاً أم أن البار هو المركز العطن الذي لفظ نوحاً، فعاد نوح ليغرقه في "الطوفان" وينجو بمفرده على السفينة؟ وإذا كانت كلمة يسري الحلو "يا للحماقة" هي الإعلان عن نهاية النص، فمن المقصود بها؟ هل يقصد نفسه أم من اتبعوا نوحاً واختفوا في المرآة، باعتبار أن ذلك هو باب النجاة الوحيد من الطوفان؟ أم يقصد ما فعله نوح بشكل انتقامي؟ أياً يكن ما يقصده الحلو، فقد أثبت أنه الأحمق بالتأكيد حيث "أشعل سيجاراً وهمياً، زفر الدخان غير المرئي، راقب تبدده في الهواء، قائلاً، يا للحماقة"، هذا في إصراره على الادعاء حتى في مواجهة الطوفان.