وصل تذبذب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بخصوص السياسة الخارجية لبلاده منذ العقد الماضي إلى أبعاد خطيرة، منها على سبيل المثال صورة الإحباط على الجبهة السورية إذ أصبحت السلطة السياسية التي ظلت معزولة عن الواقع لفترة طويلة عاجزة عن إنتاج رؤية سياسية.
تعتقد السياسة التركية أنها تستطيع إيجاد حلول للمشكلات الداخلية والخارجية الهائلة التي تسببت فيها بنفسها، ومع ذلك، ليست لديها خطة عقلانية ولا برنامج مقنع للقيام بذلك.
من ناحية أخرى، تحاول الحكومة التركية التعامل مع أكبر أزمة اقتصادية في تاريخها الحديث من خلال الإصرار على طروحات غير منطقية تشبه الادعاء بأن الأرض مسطحة.
لذلك، من الواضح أن أياماً صعبة للغاية تنتظر تركيا في المستقبل القريب.
ولا يسع المرء إلا أن يسأل نفسه: لماذا تعيش تركيا هذه "المغامرات" التي لا تبشر بالخير للمجتمع التركي؟
ما سبب الإصرار على تنفيذ سياسات شعبوية تستهلك كل طاقات البلاد؟
أفلا تدرك حكومة "حزب العدالة والتنمية" أن هذه السياسة المتبعة تلتهم من يلجأون إليها في نهاية المطاف؟
أعتقد أن أردوغان وطاقمه يعرفون الإجابة جيداً، لكنهم لا يريدون مواجهتها.
إن السياسة الخارجية للدول تقوم على هدف حماية المصالح الموضوعية العليا للأمة والبلد والدولة في الساحة الدولية، لكن إذا تم إلقاء السياسة الخارجية في الابتذال الأيديولوجي وتحويلها إلى أداة لحماية المصالح الشخصية الضيقة لسلطة سياسية، فإنها ستنحرف عن هدفها وتفقد موقعها فوق الحزبي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لسوء الحظ، تعطي حكومة "حزب العدالة والتنمية" الأولوية للمصالح السياسية الضيقة والذاتية، إنها تثير مشاعر الجماهير بالشعارات العاطفية وتدفعهم إلى عالم الوهم والخيال، وكأن هذا لم يكن كافياً، فهي تظن أنها ستحقق أهدافها من خلال سياسة الاستقطاب.
ومع ذلك، فإن كلفة ذلك على البلاد ستصل على المديين القصير والطويل إلى أبعاد لا يمكن التغلب عليها.
وإذا استمرت حكومة "حزب العدالة والتنمية" في تنفيذ السياسة الخارجية بالتصور الحالي، فإني أخشى أن تصبح يد تركيا ضعيفة جداً على الطاولات الدولية في المستقبل، إضافة إلى ذلك، يؤدي الإصرار على هذه السياسية إلى الاستسلام للشارع.
في مثل هذه الحال، تصبح مشاعر الناس في الشارع، وليس السياسيين، حاسمة في السياسة الخارجية وهذا يضيق مساحة البلاد للمناورة، وبالفعل ما تشهده تركيا الآن يعطي مظهراً وكأنها استنفدت جميع استراتيجياتها وأصبحت محشورة في الزاوية.
اتفاقية الحبوب ونشوة النصر
من ناحية أخرى، فإن حكومة "حزب العدالة والتنمية" مخمورة بانتصار "اتفاق الحبوب" الذي مكن روسيا وأوكرانيا من التوصل إلى اتفاق بشكل غير مباشر تحت إشراف الأمم المتحدة، فالحكومة تحاول تعزيز التصور بأنها هي المخطط الرئيس لهذا الاتفاق.
صحيح أنه لا يمكن الاستهانة بدور الحكومة التركية في التوصل إلى هذا الاتفاق، لكن يجب ألا ننسى أن المصالح المشتركة للطرفين جعلت الاتفاق ممكناً، ولذلك، فإن محاولات أردوغان لتسويق هذا "النصر" إلى العالم كسابقة للقوة الناعمة لتركيا أمر مبالغ فيه.ويمكن لقرائنا الكرام الأعزاء الذين يريدون مزيداً من التفاصيل حول هذا الموضوع إلقاء نظرة على مقالتي المنشورة على هذه الصفحة في 21 يوليو (تموز) بعنوان: "لماذا ستعالج أزمة شحن الحبوب الأوكرانية من خلال إسطنبول؟"، وبمجرد إلقاء نظرة عابرة على السياسة الخارجية للحكومة التركية في العقد الأخير، يمكن التعرف إلى مدى انجرافاتها الخطيرة جراء سياساتها اللامنطقية وكيف أنها اصطدمت بالجدار مرة تلو الأخرى.
وعندما نوجه انتباهنا إلى القضية السورية، يبدو أننا نواجه سؤالاً جوهرياً حول كيفية الخروج من المستنقع الذي وضعنا أنفسنا فيه، ناهيك عن تخبطنا في ملفات مثل العلاقات مع السعودية والإمارات العربية المتحدة ومصر وإسرائيل وقضية شرق المتوسط.
في أغسطس (آب) 2011، قال الرئيس أردوغان عندما كان رئيساً للوزراء: "سوريا هي قضيتنا الداخلية وسنفعل ما هو ضروري، لقد بلغ السيل الزبى ونفد صبرنا، ولهذا السبب سأرسل وزير الخارجية إلى سوريا يوم الثلاثاء"، لكننا فوجئنا في أغسطس عام 2022، أي يوم الجمعة الماضي، بتصريحه الأخير الذي قال فيه: "لا تهمنا هزيمة الأسد أو عدم هزيمته".
نعم، من الصعب أن يصدق العقل ذلك، ولكن هذا هو ما حصل بالفعل!
وما علينا إلا أن نتساءل: لماذا وفرت الحكومة التركية لمدة عشرة أعوام الحماية للتنظيمات الشبيهة بـ"داعش"؟ ولماذا نزح 14 مليون شخص؟
لماذا ترك 7 ملايين سوري منازلهم ولجأوا إلى تركيا؟
لمن ولماذا تم تكبد كل هذه النفقات؟
لماذا قتل عشرات الجنود الأتراك في سوريا؟
هناك إجابة واحدة فقط: السياسة الخارجية المتبعة.
حسناً، إذا كان من الممكن التصالح مع حكومة دمشق، وأنا من الذين يتساءلون منذ عشرة أعوام: لماذا نحارب في سوريا؟، فماذا سيكون وضع أفراد الميليشيات المسلحة البالغ عددهم 15000 وفقاً للأرقام الرسمية؟، لأنه بحسب المعلومات التي تلقيتها، اشترطت دمشق للمصالحة أن "يبقى 15 ألفاً في تركيا"، ففي الوضع الحالي، يمكن حتى لبشار الأسد أن يفرض شروطاً على أنقرة.
ونتيجة لذلك، لا تزال صدقيتنا وموثوقيتنا موضع تساؤل ويمكن للجميع أن يروا كيف أننا نتذبذب ونتأرجح.
ولا يبدو من المحتمل أن تتمكن تركيا المحاصرة تماماً في الاقتصاد والسياسة الداخلية والخارجية من الخروج من هذا المأزق العميق من دون أن تدفع حكومتها ثمناً باهظاً لسياساتها الخاطئة وأن تستجيب لشعبها الذي تتحمل مسؤوليته، لأن الأمر الوحيد الذي يطفئ شمعة ما يحدث الآن، هو التضخم وذلك موجود في تركيا في أعلى مستوياته.