لا تقتصر أهمية الثقافة الشعبية على وراثة الأجيال والعادات والتقاليد والأغاني وطقوس الأفراح والأتراح، لكنها تشكل رافداً رئيساً في معرفة التاريخ، وفهم التحولات الاجتماعية والاقتصادية في المجتمع الفلسطيني.
وحملت الأغاني التراثية في فلسطين التي تعود إلى أكثر من 180 عاماً صورة "محايدة" للواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي السائد خلال حقب تاريخية متعددة في تاريخ فلسطين.
وتؤرخ تلك الأغاني لفلسطين منذ حملة إبراهيم باشا على بلاد الشام عام 1831، ونهاية حقبة الحكم العثماني في فلسطين، وفترة الانتداب البريطاني.
مرآة للواقع
وتعكس الأغاني التي كانت النسوة يرددنها في الحمامات العامة وحفلات الأعراس، صورة عن الواقع الاجتماعي والاقتصادي الذي أرسته تلك الحقب وتأثيراتها في البنى الاجتماعية والثقافية والسياسية في مدينة الخليل جنوب الضفة الغربية.
يقول الباحث الاجتماعي أحمد الحرباوي "نتجت الأغاني من معاناة حقيقية، وهي بعيدة للغاية من الكتابات المؤدلجة المنمقة الصادرة عن تيارات فكرية متناحرة، تمجد فترات تاريخية محددة وتشيطنها تيارات أخرى".
ومنذ عامين، يعكف الحرباوي على جمع تلك الأغاني عبر الاستماع إلى سيدات فلسطينيات من كبار السن في مدينة الخليل، ويوضح أن تلك الأغاني "عكست ملامح مهمة عن تفاعل الفرد مع محيطه في الزمن بشكل عفوي وحقيقي وصادق".
ويشير الحرباوي إلى زخامة الأغنية الشعبية لدى كبار السن، لكنه عبر عن أسفه من انقراضها، بسبب الإهمال وقلة الدراسات بشأنها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكانت نسوة مدينة الخليل تغنين تلك الأغاني في حمامات المدينة في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي وأربعينياته، لكن تلك الحمامات بدأت بالتوقف التدريجي مع احتلال إسرائيل للضفة الغربية عام 1967.
وما زالت الحاجة وجيهة قنيبي تتذكر كلمات أغنية "شرق الراعي يا صبية... طولي جرار القمح... غيمة المسا غربية... غزيها يشق الصبح"، إذ كانت تغنيها مع النسوة.
وتشير كلمات الأغنية إلى تحول طريق تجارة مدينة الخيل من الغرب إلى الشرق، بسبب تمركز قوات إبراهيم باشا غرب المدينة، عقب هجمات دامية متبادلة بين الطرفين.
وكان التجار آنذاك يسلكون الطريق من الخليل باتجاه الكرك شرقاً ثم شمالاً باتجاه جبل العرب وسهل حوران في سوريا، إضافة إلى جنوب لبنان.
ونتج من تلك التجارة علاقات متبادلة بين أطرافها، بحيث يصدر أهالي الخليل العنب ومنتوجاته والأغنام، وويستوردون القمح وبذوره للزراعة الشتوية، إضافة إلى دودة القز لزراعة الحرير.
السفر برلك
وتتذكر الحاجة فاطمة دنديس أغنية "السفر برلك" التي تشير إلى مرحلة التجنيد الإجباري الذي كانت الدولة العثمانية تفرضه على أهالي بلاد الشام ومن ضمنهم فلسطين.
وتقول كلمات تلك الأغنية التراثية "يلي ساقوا ولفك على السفر بلك... شو بتنفعك غوايش الذهب... فزي لعند الخواجا، قبل ما ينفق ويبيع العنب... يلي ساقوا ولفك على السفر برلك، لا بينفعك باشا ولا مختار... قومي لعند الخواجا، قبل ما الدركي يجيب أجلك".
وتشير الكلمات العامية إلى النتائج السلبية للتجنيد الإلزامي للشبان وتداعياته الاقتصادية والاجتماعية على العائلات الفلسطينية. ويتضح من تلك الكلمات وجود قانون لدفع الفدية للتخلص من التجنيد الذي ألغي عام 1909.
وتحث كلمات الأغنية نساء الخليل على بيع ذهبهن في مقابل إلغاء تجنيد أزواجهن (شو بينفعك غوايش الذهب)، والحث على الاستعجال في ذلك (قبل ما يستوي العنب وينفق).
وأدى التجنيد الإجباري إلى تراجع الاقتصاد في مدينة الخليل بسبب خلو المدينة تقريباً من الأيدي العاملة في قطاعات الزراعة وصناعة الزخارف والزجاج ودباغة الجلود. ويتضح من كلمات الأغنية أن النسوة كن يرهن ذهبهن لدى المرابين اليهود بهدف الحصول على الأموال اللازمة لدفع الفدية.
وتشير كلمات أغنية "يا مدعسة قطوفك بكعباب الحنة... عين الأفندي ما بترحم تعب... ما تشمري على الرمانة ليغار من العنب" إلى ظاهرة الإقطاع في مدينة الخليل.
كما تدلل تلك الكلمات على "حال الذل" التي كانت تعانيها نسوة الخليل خلال عملية جني محصول العنب، ومن ثم عصره من أجل إنتاج الدبس أو النبيذ الخاص، وإلى انتشار إلى التحرش الجنسي حينها.
لكن كلمات تلك الأغنية تشير إلى عدم ترسخ ظاهرة الأسياد والعبيد في مدينة الخليل، وإلى عمل تلك النسوة في مرازع الإقطاعيين في مواسم قطف العنب فقط.
ومن بين الأغاني التراثية تلك التي كانت تردد في بيت العروس قبل الزفاف، وتقول كلماتها "يا أم العروسة الغالية ما تندهي... إحنا جينا لحالنا متفرحي... لا تفتحي شبابك غبر عسكر... لا تفردي سجادك.. إتمهلي يا أم الكمام القصيرة لا تعتبي... صوت الحبايب بلا العزومة بتسمعي... احنا جينا للعونة.. راح العسكر احنا جينا للمونة".
وكانت نساء مدينة الخليل يغنين هذه الكلمات خلال التحضير لجهاز العروس، حيث تشعل الشموع ويرقص بها، في عادة توارثها أهالي المدينة من أيام الحكم الفاطمي.
وتشير كلمات الأغنية إلى التماسك الاجتماعي في المدينة حيث تساعد نسوة المدينة عائلة العروس في تحضير جهازها، وإلى انعدام الانسجام مع الجنود العثمانيين (راح العسكر).