لم يمنع وصفها بأنها القارة الأكثر ثراء بمواردها الطبيعية أفريقيا من أن تكون موطناً للفقر والاضطرابات السياسية والعنف الإثني والتناحر القبلي، وتترسخ هذه الحقيقة المتناقضة في جذور تكوين القارة السمراء، ويتشكل وفقاً لها حاضرها المليء بالانقلابات العسكرية والصراعات الحادة، ولا يمر الحديث عن هذا الحاضر من دون العودة إلى الاستعمار الأوروبي منذ عام 1870.
وشهد القرن الـ19 هرولة الأوروبيين إلى أفريقيا بعد إلغاء تجارة الرقيق في الولايات المتحدة عام 1807، إذ تحول التجار من غرب أفريقيا إلى الأسواق الأوروبية لتسويق الرقيق والموارد الطبيعية ومنها زيت النخيل الذي يطعم به الرقيق المرحلين إلى ليفربول وبريستول.
بدافع الثروات المتمثلة في مواردها الطبيعية والبشرية كان البحث عن الذهب والنحاس وزيت النخيل والكاكاو والعاج يسير جنباً إلى جنب مع البحث عن الرقيق، ونشطت التجارة في كل ذلك فكانت فاتحة الاستعمار الأوروبي الذي اتخذ ذرائع عدة على رأسها نشر الحضارة في القارة المتخلفة، وساعده في ذلك الممارسات البدائية لمجتمعات القارة والتنافس الإمبريالي للاستحواذ على الأراضي المكتشفة.
ومع أن مؤرخين قالوا إن كثافة سكان أفريقيا خلال الفترة ما بين عامي 8000 و5000 قبل الميلاد تدل على أن القارة مرت بأطوار حضارية معينة، فإن هذه الأطوار زالت بفعل دورة التطور الطبيعي للمجتمعات، ولم يكتب لها التدوين على عكس الحضارة الفرعونية في وادي النيل الذي فرض وجود سكانه على ضفاف النهر استعمال الكتابة بغرض تنسيق نظام الري الحيوي لبقائهم.
لفت إلى ذلك التاريخ الأدب الأفريقي في القرن الـ20 الذي تناول فترة الاستعمار وما بعدها، وهو ما برز بدقة في رواية "أشياء تتداعى" للنيجيري تشينوا أتشيبي التي صدرت عام 1958، وتحكي عن محارب ينتمي لمجتمع "الإيغبو" (جنوب شرقي نيجيريا) تنهار أحلامه وأسلوب الحياة القبلية التقليدية لمجتمعه مع الوجود الاستعماري البريطاني في نيجيريا.
الرواية جاءت كرد على الرواية الغربية "قلب الظلام" للكاتب جوزيف كونراد التي اتهمت بأنها شوهت المجتمع الأفريقي. وجدير بالذكر أن إثنية "الإيغبو" تقطن في منطقة أويل ريفرز جنوب شرقي نيجيريا، وهي المنطقة التي شهدت نشاط بيع زيت النخيل للمشترين الأوروبيين.
دوافع الغزو
شنت بريطانيا حملة ضد مملكة "الإدو" في غرب أفريقيا، وهي المملكة التي حلت محلها نيجيريا في التقسيم السياسي الحديث، بسبب الاعتقاد في الأساطير وممارسة طقوس تقديم القرابين البشرية، إذ تراق دماء بعض الأشخاص المختارين خلال طقوس دينية أو سحرية في مكان مقدس تقرباً لسلطة روحية عليا، ما شكل واقع الحياة الأفريقية آنئذ.
تم الاستيلاء على المنطقة من خلال ميناء غواتو، أحد مراكز تصدير الرقيق من غرب أفريقيا لصالح التجار الأوروبيين والأميركيين، وتعاقب على الميناء منذ أوائل القرن الـ15 البرتغاليون والبريطانيون ثم الفرنسيون. وكان أن أدت الحروب مع الدول الأخرى المصدرة للرقيق والثورات التي نشبت في أقاليم المنطقة التي كانت خاضعة لمملكة "الإدو" إلى تدهورها فغزاها البريطانيون عام 1897.
وعلى رغم ما يعتري المجتمعات الأفريقية من قلق الاستقرار والعنف القبلي والأساطير التي تسير دفة حياتهم، فإن لحقيقة الغزو البريطاني سبباً آخر كان أحد أهم دوافع الحملة البريطانية، وهو تأمين إنتاج زيت النخيل المدر للأرباح في غرب أفريقيا لصالح الشركات البريطانية، وتزامنت هذه الحملة مع بداية النهضة الصناعية الأوروبية في القرن الـ19، فأزال زيت النخيل مشكلة تزييت وحماية آليات التصنيع الأوروبية بإضافته إلى زيوت أخرى.
وتواصل الأمر على هذا المنوال، إذ ذكرت الإحصاءات أنه في ثلاثينيات القرن الماضي كانت غرب أفريقيا تصدر نحو 500 طن من منتجات النخيل سنوياً إلى بريطانيا. ومع أن هذا المنتج كان بإمكانه لعب دور رئيس في تنمية الاقتصادات الريفية في غرب أفريقيا، لكن سيطرة التجار المحليين والعمل لصالح الإدارة الاستعمارية لم يفيدا السكان المحليين من الثروة المستخرجة من هذه المادة الجاذبة التي حصلت على شعبية واسعة في ذلك الوقت. وبعد توقف تجارة الرقيق أصبحت الشركات البريطانية تستغل العمالة الأفريقية داخل القارة لاستخلاص المواد الخام وزيت النخيل.
هيمنة الشركات
في أغسطس (آب) الماضي أعلن رئيس وزراء بابوا غينيا الجديدة جيمس مارابيه تشكيل وزارات جديدة منها وزير لزيت النخيل، وهو المنصب الأول من نوعه في العالم وتقلده فرانسيس مانيك، بهدف تنمية الاقتصاد بوصف زيت النخيل من أهم الصادرات الزراعية في البلاد، ممثلاً في نحو 40 في المئة من إجمالي قيمة الصادرات الزراعية، تليه القهوة بنسبة 27 في المئة التي عين لها وزيراً أيضاً هو جو كولي.
وإضافة إلى بابوا غينيا الجديدة تمثل نيجيريا والكاميرون والسنغال وليبيريا وساحل العاج الدول الأفريقية ذات المزارع التقليدية التي حدثت فيها أخيراً "عمليات الاستيلاء على الأراضي" لتوسيع زراعة المحصول.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأوردت دورية "أبحاث التفاعل المتسلسلة" المهتمة بالسلع المتعلقة بإزالة الغابات الاستوائية بما في ذلك زيت النخيل وفول الصويا والكاكاو وغيرها من المنتجات، ضمن مخطط "مبادرة المناخ والغابات الدولية" (NICFI)، أنه "على الرغم من أن غرب ووسط أفريقيا مناطق واعدة لإنتاج زيت النخيل على نطاق واسع فإن دخول خمس شركات عالمية منها (ويلمار) و(أولام) وغيرهما في إنتاج زيت النخيل الصناعي في أفريقيا وما جلبه التنافس الدولي من أجل تحقيق مكاسب كبيرة أدى إلى حدوث تأثيرات اجتماعية وبيئية أججت عامل الاستيلاء على الأراضي المنتجة وسببت حوادث عنف".
وأضاف التقرير "تهيمن الشركات الدولية الخمس على ما يقدر بنحو 67 في المئة من المساحة المزروعة بزيت النخيل الصناعي باستثمارات أجنبية، وقد يقود توسعها المستمر إلى ظهور الأخطار بشكل أكبر في نيجيريا، إذ يأتي التوسع على حساب احتياطات الغابات الطبيعية للدولة".
ويتابع التقرير "كانت نيجيريا رائدة في سوق زيت النخيل العالمي في خمسينيات وستينيات القرن الماضي كأكبر منتج عالمي له، لكنها أصبحت تحتل المرتبة الخامسة بسبب التركيز المتزايد على النفط كمصدر رئيس للإيرادات، فضلاً عن قضايا حيازة الأراضي التي تنطوي على مشكلات ونزاعات مجتمعية عنيفة، وغياب مجلس تسويق زيت النخيل، والتدفقات غير المشروعة للزيت عبر الحدود، والافتقار إلى التمويل الميسر".
انتعاش الطلب
بفضل الاهتمام العالمي بزيت النخيل باعتباره أكثر السلع الزراعية إثارة للجدل في القرن الـ21، ثم الاهتمام الأفريقي في غرب القارة بهذا المنتج الزراعي كعنصر مشترك يمتد عبر حزام خط الاستواء من غرب أفريقيا وصولاً إلى جنوب شرقي آسيا نحو إندونيسيا أكبر مصدر لزيت النخيل على مستوى العالم وأجزاء من البرازيل، انتعشت استخداماته في صناعة المواد الغذائية التجارية في أجزاء أخرى من العالم بسبب انخفاض كلفته وأضراره الصحية عند تكريره لأغراض قلي الطعام.
تقول الباحثة في "هيئة البحوث الزراعية" بالسودان آمال إدريس "يعد زيت النخيل مكوناً مهماً في المطبخ الأفريقي خصوصاً بغرب القارة، وأصبح يدخل في أطعمة سلاسل المطاعم العالمية والمخبوزات والحلويات، فضلاً عن استعمال النوع المستخلص الأحمر النقي في الصناعات الطبية ومستحضرات التجميل والمواد الفنية وزيوت الطقوس الدينية والأصبغة".
ووفقاً لتحذير "الاتحاد الدولي للحفاظ على الطبيعة" فإن "إزالة الغابات الاستوائية من أجل مزارع زيت النخيل يهدد ما يقرب من 200 نوع من الكائنات، بما في ذلك إنسان الغاب والنمور وفيلة الغابات الأفريقية".
وتوضح إدريس "على الرغم من فوائده، فإن الطلب العالي على زيت النخيل في الاستخدامات الغذائية والطبية وكوقود حيوي أدى إلى زيادة زراعته، ولهذا الغرض يزال الغطاء النباتي للمساحات الزراعية الأخرى لأن زراعته تتطلب توفير مساحات واسعة، ويتم حرق الغابات الأخرى مما يؤدي إلى تلوث البيئة والتربة والماء والهواء بسبب دخان الحرائق، فضلاً عن فقدان التنوع البيولوجي بوجود محصول نقدي واحد في مساحة كبيرة يفترض أن تقوم على التنوع البيئي، وليس ذلك فحسب بل وتتعرض بعض الحيوانات التي تتخذ من هذه الغابات موطناً لها إلى التشرد".
تصوير اختزالي
تعد القارة الأفريقية واعدة لتوسعة إنتاج زيت النخيل بسبب قربها من الأسواق العالمية مقارنة بمزارع شرق آسيا، ثم المناخ الملائم والمساحات الكبيرة من الأراضي الصالحة للزراعة، لكن يتطلب ذلك إدارة هذه الأراضي بدل التغول على الغابات، والتشديد على حماية البيئة والموازنة بين المكاسب والآثار الاجتماعية الناتجة من النزاع حول الأراضي.
وإضافة إلى هشاشة الدول الأفريقية فإن انعدام الأمن في حيازة الأراضي وصعوبات الاستحواذ والصراعات الإثنية والإرهاب، تؤخر خطط توسع الإنتاج في بلدان مثل نيجيريا.
ومع التحديات الداخلية تبرز التحديات الخارجية في محاولة هيمنة الشركات الأجنبية على زيت النخيل وتحقيق ربحية عالية لا تذهب إلى معالجة أزمات مجتمعات هذه الدول المتجذرة، وربما تظل أفريقيا على رغم هذا وكما صورها أتشيبي "مكان مظلم يسكنه شعب بدائي متحجر".