لعل من أظرف ما يحدث بالنسبة إلى قاعة أوبرا "لا سكالا" هو محاولة البعض البحث عن كلمات في لغات أخرى لترجمة الاسم. والمشكلة هنا هي أن هذا البعض يسهى عن باله أن الكلمة لا تترجم لأنها في أصلها اسم علم. وتحديداً اسم ملكة من ملوك إيطاليا القدامى كانت كنيسة باسمها تشغل المكان الذي بنيت فيه الأوبرا ومن هنا تم التوافق على اسم لا سكالا الذي حملته منذ عام 1778.
ولا سكالا اليوم تعتبر إضافة إلى كونها أشهر قاعة للأوبرا في العالم، واحدة من القاعات الرئيسية المخصصة لهذا الفن في إيطاليا إلى جانب "تياترو سان كارلو" في ميلانو نفسها وقاعة "الفينيتشي" في البندقية. واللافت أن روما العاصمة نفسها وعلى رغم كثرة عدد مسارحها وصروحها الفنية المرموقة تشعر بنقصان شديد تجاه المدينتين المتميزتين باحتوائهما على تلك الصالات. ومن الناحية التاريخية لا بد من الإشارة هنا إلى أن هذه القاعة إنما بنيت في وقت قياسي بأمر أرشيدوقة النمسا ماريا تيريزا إثر الحريق الذي أتى على قاعة كبيرة أخرى كانت ميلانو تفخر بها هي المعروفة بقاعة الدوق. فلما احترقت أعلنت الأرشيدوقة النمساوية التي كان بلدها يسيطر على شمال إيطاليا ويتحكم بتوجيه حياتها الفنية، أنها تريد إنجاز بديلتها خلال سنتين لا أكثر. وهي مهمة تنطح لإنجازها واحد من كبار معماريي إيطاليا في ذلك الحين جوزيبي بيرماريني الذي تمكن من الالتزام بالتاريخ المحدد ليتم الافتتاح يوم 3 أغسطس (آب) من عام 1778 تحديداً بحضور الأرشيدوق النمساوي فرديناند. ولقد قدم في الافتتاح الصاخب عملان كبيران هما أوبرا "التعرف إلى أوروبا" (خطف أوروبا) لسالياري الذي لا شك يتذكره كل الذين شاهدوا فيلم "أماديوس" لميلوش فورمان بوصفه، في الفيلم، المنافس الإيطالي لموتسارت وراوي حكايته معه ومتهم نفسه بالتسبب في موت الشاب العبقري. وذلك إضافة إلى باليه "أبولو بلاكاتو" لجوزيبي كانتزياني. ومنذ ذلك اليوم تواصلت العروض الأهم في تاريخ الأوبرا العالمية في تلك القاعة مرتبطة باسمها. وخلال العقود التالية وحتى ظهور فيردي وأوبراته الكبرى التي أعطت لا سكالا اندفاعة بالغة القوة جاعلة منه الممر الضروري لأي نجاح أوبرالي حتى على الصعيد العالمي، قد تعجز أية لائحة أو حتى أي عرض تاريخي عن متابعة الأعمال الشامخة التي كانت لا سكالا منطلقها.
حكاية فيردي مع "عايدة"
ومع ذلك علينا ألا ننسى أن من بين الملايين الذين يزورون هذا الصرح سنوياً إنما يفعل الغالبية منهم لمجرد زيارة المبنى الذي اشتغل عليه مشيّده بدأب يكاد يكون صوفيا خاصة أن السلطات النمساوية وانطلاقاً من كونها تعتبر نفسها سيدة البلاد، إنما أرادت أن تترك عليه بصماته تيمناً بسعيها لتشجيع الأوبرا الإيطالية التي وحتى قبل ظهور موتسارت، تبدو دائماً أشبه باستعراض ينتمي إلى "الكوميديا ديل آرتي". ونعرف كم أن موتسارت خاض من الصراع وعانى من الانتكاسات قبل أن يفرض منطقه في إبداع "الأوبرا سيريا" وفي مقدمتها "دون جيوفاني". غير أن هذا كله إنما كان قبل الانتفاضة التي تمخض عنها ظهور لا سكالا بالطبع. وعلى هذا النحو في الوقت الذي كان يمكننا فيه أن نتخيل ما كان من شأن لا سكالا أن تكونه بالنسبة إلى موتسارت، نعرف أنها كانته لاحقاً وبشكل خاص بالنسبة إلى فيردي، الذي نعرف أنه قد قدم معظم أعماله الأوبرالية الكبرى في لا سكالا قبل أن تنتقل إلى أي مكان آخر. بل حتى أوبراه الأكثر شهرة في العالم وهي "عايدة" التي كانت قد كتبت ولُحّنت أصلاً لتفتتح قاعة الأوبرا الخديوية في القاهرة والتي أقيمت خصيصاً مشابهة لعمران لا سكالا إلى حد كبير، وذلك لمناسبة الاحتفالات المصرية والعالمية الضخمة بشق قناة السويس. انتهى أمرها إلى أن تُقدم للمرة الأولى في لا سكالا لدواع تقنية كما سيقول. ولم يخف فيردي على أية حال سروره لذلك!
كلهم مروا من هناك
ومهما يكن من أمر فيردي وأمر "عايدة" لا بد من القول إنه لم يكن الموسيقي الإيطالي الكبير الوحيد الذي ارتبط اسمه باسم لا سكالا. ولقد شهد هذا المسرح طوال تاريخه في نهايات القرن التاسع عشر تطوراً كبيراً في حضور الأوبرا الإيطالية في الحياة الاجتماعية في ميلانو ولكن كذلك اندفاع مدن إيطالية أخرى لمحاكاة تلك النجاحات. ولكن لا سكالا ظلت فريدة ومتميزة ولا سيما في عهد أحد كبار مديريها دومينيكو سيماروزا، وهو الإداري ومحب الموسيقى الذي استقبلت لا سكالا بمبادرات منه عدداً من أهم أوبرات مؤلفين من طينة روسيني الذي قدم فيها العروض الأولى لتحفته "تركي في إيطاليا" وثنى على ذلك عام 1827 بعرض "القرصان" كما كانت الحال حين قدم فينشنزو بلليني أوبرا "نورما" (1831). ومع ذلك، كان على لا سكالا في ذلك الحين أن تعاني من منافسة لها شديدة في اجتذاب أعمال من قبل قاعات أخرى في ميلانو نفسها مثل "تياترو كاركاتو" و"تياترو دال فارمي" بل راحت الأمور تتفاقم بشكل سيء وعلى الأقل حتى ظهور فيردي الذي كانت له كما أشرنا عبوراً أعلاه، اليد الطولى في إعادة نجاحات لا سكالا إلى سابق عهدها. ولكن منذ انتصارات فيردي تلك لم يعد في إمكان أية قوة في العالم أن تدفع ذلك الصرح إلى التراجع عن مكانته، إذ حتى وإن كان فيردي قد تخلى هو نفسه عن المكان لفترة، فإن لا سكالا واصلت طريقها على رغم انتكاسة من هنا وأخرى من هناك. وقد تكون واحدة من الانتكاسات الكبرى قد تمثلت في الفشل المدوي الذي كان من نصيب أوبرا "مدام باترفلاي" لبوتشيني التي لم تعجب أحداً حين قدمت في عرض افتتاحي يوم 17 فبراير (شباط) 1904 بعد رحيل ملحنها. لكن هذا حدث في زمن متأخر جداً كانت لا سكالا قد باتت عنده أيقونة لا تهزم. بل إن فردي نفسه بكل عظمته ومكانته كان قد عاد صاغراً إلى حظيرتها ليقدم "عايدة" (1872) و"عطيل" (1887) و"فالستاف" (1893).
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
السياسة مرت من هنا
وإذ قدمت لا سكالا هذه الأعمال وهؤلاء المبدعين من دون أن تنسى فاغنر الذي استضافت أعمالاً كثيرة له لم يفتها في الوقت نفسه ولا سيما مع إطلالة القرن العشرين أن تعطي فرصاً هامة للباليه وغيره من العروض الراقصة الأخرى. وهكذا إذ ارتبطت بها في ذلك القرن مغنيتان كبيرتان من مغنيات القرن العشرين وهما طبعاً ماريا كالاس وريناتا تيبالدي، شهدت خشبته رقصاً لا ينسى من مايا بليستسكايا ورودولف نورييف وسيلفي غييم وكارلا فرتشي ومارغو فونتين. بيد أن الأمور لم تكن دائماً وردية كما قد يوحي هذا الوصف. فخلال النصف الأول من القرن العشرين شهدت لا سكالا تفجير مبناها من جراء الحرب عام 1943 ولكن سرعان ما تمكنت إدارته من إعادة بنائه وافتتاحه من جديد في عام 1946. وهو أغلق مرة جديدة عند بدايات القرن الواحد والعشرين ليفتتح من جديد عام 2004. غير أن السياسة لم تكن كل الوقت بعيدة عن لا سكالا. ولا سيما عند ظهور الفاشية بكل قوتها وجبروتها عند بداية سنوات الثلاثين وكان القائد الأوركسترالي الكبير آرتورو توسكانيني يتولى قيادة موسيقيي لا سكالا منذ عام 1898 ليتخلى عن ذلك في عام 1929 حين منعت السلطات تقديم أوبرا فاغنر "أساطين الغناء من نورمبرغ" لأسباب سياسية، فما كان منه إلا أن استقال ليرحل من فوره إلى أميركا تاركاً ذكرى رائعة لثلاثة عقود حرك خلالها عصاه الساحرة في أجواء لا سكالا. غير أن الفراغ الذي تركه برحيله الاحتجاجي سيملأه تباعاً قادة كبار من أمثال هربرت فون كارايان، ولورين مازل، وكلاوديو أبادو، وريكاردو موتي، الذي عاش أهل لا سكالا على أعصابهم حتى استقال عام 2005 بعد حركات اجتماعية انتفضت ضده ولكن ليس لأسباب موسيقية أو فنية.