لم يهدأ للمواطن السوري بال منذ بدأت الحرب في بلاده وسعى بكل ما أوتي إلى التغلب على قسوة الحياة التي خلّفتها معارك طاحنة أكلت الأخضر واليابس، وابتكر من العدم أساليب للتعايش مع الوضع الراهن رغم صعوبته وتحدياته، ومع كل تحد كان بقاؤه حياً عنواناً يستحق الوقوف عنده فلم يقف في وجهه لا برد ولا حر.
ورغم تمني السوريين أن يكون الشتاء المقبل معتدلاً ومختلفاً عن طقس العام الماضي القارس والاستثنائي بدرجات حرارة متدنية. لكن التقديرات تشير إلى عكس ذلك، إذ توقع خبراء الأرصاد الجوية أن طقس شتاء 2023 في سوريا سيكون أكثر برودة من الموسم الماضي.
وفي ظل ارتفاع سعر المازوت، الذي وصل الليتر الواحد منه إلى ما يعادل دولارين، يقف السوريون متأهبين لحل معضلة التدفئة.
أزمة السوريين لم تتوقف عند حدود توافر مادة المازوت وزيادة سعرها، بل امتدت لتصل إلى معظم وسائل التدفئة، من الحطب إلى التمز، مروراً بمادة الغاز غير المتوافرة إلا بأسعار توصف بالخرافية، إضافة إلى الكهرباء التي تزداد ساعات تقنينها في الشتاء، فبماذا سيتدفأ السوريون هذا العام؟
حسن الإدارة يؤمن المازوت
يقف عماد خارج منزله منتظراً وصول دفعة 200 ليتر من المازوت كان طلبها سابقاً من أحد التجار، إذ تمتع أهل هذه البلاد خلال سنوات حياتهم الماضية بميزة تخزين المازوت قبل حلول فصل الشتاء بوفرة، لكن الأزمات التي عاشوها وغلاء الأسعار المتكرر كسرا هذه العادة، وأصبح من الصعب الاستمرار بهذا التقليد الاجتماعي المشترك.
وعند سؤال عماد عن كيفية تأمين مبلغ تعبئة هذه المادة، قال "لديّ سيارة خاصة، قمت بتأجيرها خلال فترة الصيف مع قدوم المغتربين إلى البلد، وبذلك ادخرت مبلغاً أدفعه مقابل المازوت لأوفر الدفء به لأولادي"، وبلغ سعر هذه الكمية نحو 1400000 سورية ما يعادل نحو 300 دولار.
وعن تبعات استمرار صعود سعر المحروقات في سوريا، يؤكد بعض المتخصصين الاقتصاديين أن "هذا الارتفاع ربما يسد بعض العجز في المشتقات النفطية الناتج من ارتفاع سعر الكلفة عن سعر المبيع، لكن في الوقت ذاته يؤدي إلى رفع معدلات التضخم، وغلاء أسعار جميع السلع، وتدني أكبر للقدرة الشرائية لليرة، والنتيجة خسائر على مستوى الاقتصاد الكلي".
خطط استراتيجية للتدفئة
في وقت تعيش أوروبا أزمة الطاقة مع حلول فصل الشتاء، يستطيع المواطن الأوروبي الباحث عن حلول اللجوء إلى طرق وأساليب السوري في التغلب على البرد القارس، فهذا الضيف الثقيل كل عام دفع المواطنين إلى التفكير في كل السبل، وتجريب كل الخطط التكتيكية والاستراتيجية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
واعتمد بعض السوريين استراتيجية إشعال المدفأة ساعات محددة خلال اليوم، خصوصاً عند اشتداد البرد ومحاولة استغلال وقت الكهرباء عند وجودها المرهون بساعات التقنين المستمرة، بسبب الضغط والاشتعال الدوري لخزانات الكهرباء وتوصيلاتها.
أما الخطة البديلة فهي البقاء وقت ذروة البرد في الفراش، ملتحفين بعدد من الأغطية، وفي حال أشرقت الشمس خلال اليوم يتبع الجميع أشعتها بحثاً عن الدفء.
أما مادة الغاز فحكايتها مشابهة للمازوت، إذ من المتوقع أن يرتفع سعر أسطوانة الغاز الواحدة في السوق السوداء إلى 40 دولاراً، في حين أنها تصل إلى المواطن السوري عبر البطاقة الذكية، لكن بدور منظم بسعر 13 ألف ليرة (2.5 دولار)، إلا أن ذلك من الممكن أن يستغرق فترة زمنية طويلة ربما تصل إلى ثلاثة أشهر، فلا بد أيضاً من بديل.
في القرى الحلول أوسع
هذه حال فصل الشتاء في المدن السورية، أما في القرى الداخلية والجبلية، فيختلف الوضع بعض الشيء، خصوصاً في ظل توافر الحطب الذي يتهافت المواطنون على شرائه أو قطعه بشكل جائر.
لكن الحطب أصبح سعره مرتفعاً أيضاً، إذ وصل سعر الطن إلى 800 ألف ليرة (150 دولاراً). ومن المرجح أن يزيد على ذلك عند بداية فصل الشتاء بشكل رسمي وزيادة الطلب عليه.
ففي إحدى القرى السورية يعمل لؤي نجاراً بمنطقة زراعية، وإلى جانبه نهر ليس عميقاً، وفيه عدد من الأشجار التي تنمو في المياه، "آتي كل يوم إلى هنا بين الساعة والساعتين، أعمل على تمشيق الأغصان وترتيبها وبعدها أحملها أو أجرها إلى منشرتي لتقطيعها، وأتدفأ بها أنا وعائلتي".
وعما إذا كان هذا الحطب يكفيه، أكد لؤي "بالطبع لا فهذا حطب خفيف، ولا يدفئ في أيام الشتاء القارس فنحتاج إلى حطب شجر الزيتون والسنديان والزنزلخت وغيرها".
العودة إلى "التمز"
أما في المدن الساحلية التي تعتبر دافئة بالنسبة إلى بقية مناطق سوريا، التي تميل إلى الطقس شبه الصحراوي الجاف والجبلي القاسي، فاعتاد أهلها طقسها الدافئ، ولم يكن يجد كثيرون مبرراً لوجود مدفأة مازوت أو حطب في المنزل، إلا مدفأة صغيرة تعمل على الكهرباء، أو الغاز في حال انخفضت درجات الحرارة عن معدلها.
لكن، العام الماضي عاشت هذه الفئة للمرة الأولى منذ سنوات طوال البرد القارس، وقالت علياء "كنا نجلس وباب الشرفة مفتوح طوال اليوم لغاية الساعة الخامسة مساء فنغلقه، إذ إن المدينة دافئة، واعتدنا هذا الطقس، لكن العام الماضي اضطررنا إلى دفع ثمن أسطوانة الغاز أضعافاً مضاعفة لكي نشعر بالدفء".
وقديماً، كان يلجأ أهل المدن الساحلية السورية إلى التدفئة بمادة "التمز" (العرجوم)، وهي مادة مصنوعة من لب الزيتون المكسّر، بحيث يوضع في منقل ويتم إحراقه مستفيدين من الحرارة الكبيرة التي يعطيها رغم الدخان المنبعث منه، وهذه العادة عادت اليوم مع البحث الدائم عن حلول للدفء.
ابتكارات موسمية للتدفئة
في جولة سريعة على مواقع التواصل الاجتماعي وعبر الأعوام الماضية، يجد الباحث حلولاً مبتكرة، وكلها تعد بالدفء، وتكاد العروض هذا العام تكون في أوجها، وكأنه بازار مفتوح، لكن من دون ضمانات، فبعضها يعمل على جميع أنواع النفط، وبعضها على الكهرباء وأنواع كثيرة ازدحمت بها السوق السورية.
أما العرض الأهم الذي انتشر هذا العام، فهو "صوبيا السبيرتو" التي تعمل على الكحول الإيثيلي أو ما يعرف بـ"السبيرتو الأبيض"، وصممت هذه "الصوبيا" على شكل نظيرتها المازوت، لكن بحجم أصغر، وكأنّ مصممها يبتغي خلق رابط من الحنين عند المواطن السوري ليقتني هذا الابتكار الجديد.
ووصل سعر هذه المدفأة إلى 350 ألف ليرة سورية (70 دولاراً)، والسبيرتو على حد قول التجار مادة متوافرة في السوق، لكن لا يعرف بالضبط كم يكفي الليتر الواحد هل لأيام عدة أو ساعات فوسيلة التدفئة هذه قيد التجربة، إضافة إلى ترقب وضع الطلب عليها الذي سيحدد هل يزداد سعرها أو يبقى على حاله.