لم يترك "حزب الله" مجالاً للشك بأنه سيبقى ممسكاً بورقة الفراغ الرئاسي في لبنان، بعد مجاهرة قيادته بأنها تسعى إلى الرئيس الذي "نريد"، وبعد أن أكد رئيس كتلة نواب الحزب محمد رعد الوجهة التي أعلنها أمينه العام حسن نصر الله، الجمعة 11 نوفمبر (تشرين الثاني)، بدعوته إلى رئيس لا يخضع لضغط الولايات المتحدة الأميركية ولا يخاف منها، فقد قال رعد، الأحد في 13 نوفمبر، بوضوح "يريدون رئيساً يأتي به الآخرون من خارج البلاد ليصبح رئيساً للبلاد، وهذا لن يكون بكل بساطة مهما طال الزمن".
لم يكن الوسط السياسي اللبناني في حاجة إلى تفسيرات كثيرة لهذا الكلام ولما قاله نصر الله قبله. فالنائب رعد ترجم المواصفات التي وضعها الأمين العام لـ"حزب الله" بإحالته الرأي العام في كلامه عن الرئاسة اللبنانية، إلى تجربتي الرئيسين السابقين للجمهورية إميل لحود وميشال عون كنموذجين تطمئن إليهما قيادة الحزب. وترجمة رعد جاءت كالآتي، "في مواجهة الاستحقاق الرئاسي نعرف من نريد ونتحرك من أجل أن يأتي إلى الرئاسة من نريد"، معتبراً أن "الشغور الرئاسي يصنعه عدم التفاهم على الرئيس اللائق بشعبنا المقاوم، وعندما يحصل هذا التفاهم، يكون هناك رئيس للجمهورية"، أي إن الرئيس "اللائق بالمقاومة" هو من يرشحه الحزب. وفي أحسن الأحوال هو من يلتزم مقاييس الحزب بكل أبعادها الخارجية والإقليمية، وتحالفه غير القابل للبحث، مع إيران.
جعجع والراعي يردان على "حزب الله"
وتجلى فهم خصوم "الحزب" للمجاهرة بما يريده، وللتوقعات بإطالة الفراغ الرئاسي الذي دخل أسبوعه الثالث، بمواقف عدة آخرها، الثلاثاء 14 نوفمبر، على لسان رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع تعليقاً على كلام رعد، في مقابلة مع قناة "الحرة"، إذ قال "هذا هو موقفهم الحقيقي، ودعكم من كل ما قالوه قبل ذلك. فالنائب رعد قال الحقيقة وبرافو عليه والترجمة الحقيقية لكلامه أنهم سيواصلون تعطيل الانتخابات الرئاسية حتى يتمكنوا من إيصال من يريدون".
ومن أبرز التعليقات الكثيرة المنتقدة لنصر الله ورعد، والتي توالت في الأيام الماضية، ما جاء على لسان البطريرك الماروني بشارة الراعي، إذ قال في عظته، الأحد 13 نوفمبر، "يتكلمون عن رئيس توافقي. الفكرة مرحب بها في المبدأ، شرط ألا تكون حقاً يراد به باطل، وشرط أن يتم اختيار رئيس حر يلتزم بقسمه والدستور". واعتبر الراعي أن "الرئيس التوافقي بمفهومنا هو صاحب موقف صلب من القضايا الأساسية، وصاحب خيارات سيادية لا يساوم عليها أمام الأقوياء والمستقوين، ولا أمام الضعفاء والمستضعفين، لا في الداخل ولا في الخارج".
أضاف، "ليس الرئيس التوافقي رئيساً ضعيفاً يدير الأزمة ويبتعد عن فتح الملفات الشائكة التي هي السبب الأساس للواقع الشاذ، ولا رئيس تحدٍ يفرضه فريقه على الآخرين تحت ستار التفاوض والحوار والتسويات والمساومات، أو يأتون ببديل يتبع سياسة الأصيل نفسها، فيتلاعبون به كخف الريشة، ويسيطرون على صلاحياته ومواقفه ويخرجونه عن ثوابت لبنان التاريخية ويدفعونه إلى رمي لبنان في لهيب المحاور". ومع أن الراعي لم يذكر "حزب الله" بالاسم، فإن الكلمة الأخيرة من هذا المقطع من عظته تشير إليه بوضوح.
قطع الطريق على الضغوط الخارجية أم استدراج عروض؟
بعض خصوم "الحزب" لم يفاجئهم موقفه على رغم احتفاظه بأسلوب التكتم طوال المرحلة الماضية من الحديث عن الاستحقاق الرئاسي، فلم يفصح في أي مرة عن مرشحه، مع أنه من المسلمات بأنه مع رئيس تيار "المردة" سليمان فرنجية. واكتفى بقيادة حلفائه في اعتماد الورقة البيضاء في التصويت خلال جلسات البرلمان الخمس التي انعقدت من أجل انتخاب الرئيس، في الدورة الأولى من الاقتراع التي تتطلب أكثرية الثلثين، لفوز أي مرشح، ثم بالانسحاب مع هؤلاء الحلفاء في الدورة الثانية التي تتطلب أكثرية النصف زائداً وأحداً، من أجل إفقاد الجلسة نصابها منعاً لتكتل خصومه لإنجاح المرشح الذي يرفضه، النائب ميشال معوض. وعززت المواقف الأخيرة للحزب القناعة بأنه يريد فرنجية، الذي سعى إلى إقناع حليفه الآخر رئيس "التيار الوطني الحر" النائب جبران باسيل المعارض لهذا الخيار به.
من عادة "الحزب" أن يترك أوراقه في مثل هذه الحالات مستورة، لا سيما أنه لم ينجح في إقناع باسيل بالانضمام إلى خياره، ما طرح السؤال حول أسباب مجاهرته بنوعية الرئيس الذي يريد من جهة، وبما يشبه الاعتراف بأنه "مهما طال الزمن" لن يسمح بانتخاب إلا "من نريد"، بالتالي بإطالة الفراغ إلى أجل غير مسمى، من جهة أخرى.
التفسير الوحيد لدى خصوم "الحزب" أن ظروف المواجهة الإقليمية والدولية التي تخوضها إيران دفعته إلى التناغم مع مقتضيات إمساكها بأوراقها في المنطقة، ومن ضمنها الفراغ الرئاسي في لبنان، بعد أن اجتمعت قوى دولية وإقليمية على رفض تكرار تجربة الرئيس عون كحليف وثيق لـ"الحزب"، لأنها عززت نفوذ طهران لبنانياً.
ولا يملك خصوم الدور الإيراني في لبنان جواباً واضحاً عما إذا كان المقصود من تصعيد "حزب الله" حيال الاستحقاق الرئاسي، هو مقابل التعاون الأميركي – الفرنسي - السعودي منذ شهرين على رفض مرشح من القوى الحليفة له، وأن مقابل تهيؤ خصومه اللبنانيين للإتيان برئيس خارج دائرة نفوذ الحزب، أم أن طهران ترمي إلى استخدام لبنان في ظرف دقيق يمر فيه البلد الذي تجهد الدول الغربية إلى منع انهياره الكامل، من أجل استدراج عروض التفاوض معها. فطهران تجيد لعبة المقايضات في الملفات الشائكة. فالرعاية الغربية والعربية لأزمة لبنان شملت التحضير لضغوط خارجية لإنهاء الفراغ الرئاسي. والاستنتاج المنطقي وفقاً لهذه القراءة أن "الحزب يستبق تصاعد هذه الضغوط بالإفصاح عن شروطه بلا مواربة".
التصعيد في لبنان رداً على الدعم الغربي للاحتجاجات
ويميل بعض الوسط السياسي إلى تصنيف تصعيد "الحزب" على أنه أبعد من موضوع الاستحقاق الرئاسي اللبناني، وفي سياق الرد الإيراني على تصاعد المواقف الغربية، الأميركية أولاً، والأوروبية ثانياً، ليس فقط برفض اشتراطها الرفع المسبق للعقوبات عنها قبل التوصل للاتفاق على النووي الذي تجمدت المفاوضات حوله، منذ شهر مايو (أيار) الماضي، بل أيضاً بسبب تنامي التضامن الغربي مع الاحتجاجات الشعبية والشبابية في الداخل الإيراني التي دخلت أسبوعها السادس. فبعد أن تعاطت إدارة الرئيس جو بايدن معها بنوع من الحياد، أو بشيء من الحياد، أخذت تجاهر بتأييدها ودعمها إعلامياً وسياسياً، فيما تقول القيادة الإيرانية إن واشنطن تقف وراءها.
بل إن دول أوروبا أخذت تطور تعاطفها مع ما أصبحت تعتبره ثورة الإيرانيين على استبداد النظام، مما خلق دينامية مواجهة غربية إيرانية متنامية، جرت طهران إلى ردود فعل متوترة، ازدادت خطورتها مع اتهامها بأخذ مواطنين أوروبيين، ولا سيما الفرنسيين السبعة الذين اعتقلتهم على أراضيها في الأيام الأخيرة، كرهائن لابتزاز حكوماتهم. وإضافة إلى العقوبات التي فرضتها واشنطن على مسؤولين إيرانيين متهمين بقمع الاحتجاجات النسائية والشعبية على نظام الملالي، يتهيأ الاتحاد الأوروبي لفرض عقوبات على طهران، بناءً على طلب فرنسا، وسط تقارير أن الرئيس إيمانويل ماكرون يعيد النظر بسياسة الانفتاح على طهران، بعد الخيبات التي مني بها جراء عدم تجاوبها مع محاولاته لدفع القيادة الإيرانية للعودة إلى طاولة فيينا، وإلى الحصول منها على تسهيل للحلول في لبنان.
واستقبل ماكرون، الجمعة، على هامش منتدى للسلام في باريس أربع ناشطات إيرانيات. وأشاد بـ"الثورة التي يقدنها" في بلادهن، فردت الخارجية الإيرانية بالتنديد بلقائه مع ناشطات في المعارضة، ووصفت تصريحاته بأنها "مدعاة للأسف والعار"، لكن ماكرون بقي على موقفه ووجه رسالة إلى الشعب الإيراني في مقابلة مع إذاعة "فرانس إنتر"، قال فيها "إن عليه ألا ينسى أبداً أنه لا يقاتل فقط من أجله، بل من أجل ما يجمعنا، من أجل قيم هي في صلب جمهوريتنا"، وهو موقف مبدئي متقدم.
الرهائن الفرنسيون و"الابتزاز"
وسبقته وزيرة الخارجية الفرنسية كاترين كولونا بالقول في مقابلة صحافية إن "النظام يريد إقناع الآخرين بأن حركة الاحتجاجات مرتبط بالخارج، لكن هذا خطأ. إنها حركة عميقة والنساء لسن وحدهن وهن يتطلعن إلى مجتمع منفتح وحر. ويجب دعم تطلعاتهن كما فعل الرئيس"، مذكرة بأنه "استنكر القمع العنيف للمتظاهرين السلميين". وكشفت عن أن فرنسا طلبت من الاتحاد الأوروبي إقرار عقوبات جديدة تتناول 30 من المسؤولين عن عملية القمع. وقالت كولونا إن في محادثتها الهاتفية "الطويلة والصعبة" مع نظيرها الإيراني حسين أمير عبداللهيان التزم باحترام حق المواطنين الفرنسيين الموقوفين لدى طهران بالحماية القنصلية. ورأت أنه "إذا كان هدف طهران هو الابتزاز، فإنه لن ينجح، لأنها طريقة سيئة في التعاطي مع فرنسا". وسبق كل ذلك بيان فرنسي - بريطاني يندد بقمع التظاهرات في إيران، ثم إعلان ألمانيا عن نية فرض عقوبات أوروبية على مسؤولين إيرانيين.
روبرت مالي: يتهمون الدول بدلاً من تغيير سياستهم
وجديد الموقف الأميركي من طهران ما قاله المبعوث الأميركي الخاص إليها روبرت مالي المعروف بميوله نحو أولوية عقد اتفاق مع الجانب الإيراني، خلال لقاء مع عدد من الصحافيين في باريس في 14 نوفمبر، أثناء مروره فيها لتنسيق الموقف حيال إيران، حيث أشار إلى "انفصال" الأخيرة عن جزء واسع من المجتمع الدولي وندد بالقمع الممنهج للمتظاهرين، وبامتناع طهران عن العودة إلى طاولة التفاوض "حيث الدبلوماسية ما زالت ممكنة". ورداً على سؤال حول تأثير هذا الانفصال على الأوضاع في الدول التي لطهران نفوذ فيها، وتحديداً العراق واليمن وسوريا ولبنان، قال مالي "قد يكون مبكراً أن نتحدث عن ذلك، لكننا نساند سيادة هذه الدول في وجه تدخلات إيران". وأوضح أنه راجع الانتقادات التي يسوقها المسؤولون الإيرانيون حيال فرنسا وألمانيا والولايات المتحدة، والتي استدعوا سفراءها "وهم يتهمون هذه الدول بدلاً من تغيير سياستهم وفهم ما يجري في شارعهم. بإمكانهم التصويب على هذه الدول وتحميل مسؤولية ما يحصل لأميركا وفرنسا وإسرائيل، لكن بصراحة، لا يمكن للولايات المتحدة أن تفعل شيئاً، حتى لو أرادت، في الإيحاء بهذه الدرجة من الجرأة عند الذين يخرجون إلى الشارع. الأمر ناتج عن غضب عميق يحمل على التظاهر".
في اختصار يبدو أن انتفاضة الشعب الإيراني افتتحت مرحلة جديدة من الضغوط والضغوط المتبادلة، لها انعكاساتها داخل عديد من الدول، ومنها لبنان، خلال ظرف حساس، حيث تعمل طهران على فك طوق العزلة عنها عبر تعقيد الأزمات الإقليمية كي يجري التفاوض معها، وفق شروطها، بينما ليس هناك بصيص أمل للخروج من المراوحة في لبنان قبل اكتمال المشهد الإقليمي. فطهران لن تترك ساحته في وقت تجري إعادة تكوين السلطة فيه.