يرسخ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بين الحين والآخر الانطباع بتمسك نظامه بأيديولوجية العثمانية الجديدة التي أطلقها مع وصول حزب "العدالة والتنمية" التركي الحاكم إلى السلطة قبل عقدين من الزمن، على رغم تخليه عن رفاق الماضي ومنظري "العثمانية الجديدة" في سلطته، وأبرزهم الأكاديمي التركي وزير الخارجية ورئيس الوزراء الأسبق أحمد داوود أوغلو.
وفي قصره الرئاسي الجديد الذي يجمع بين طرازي العمارة العثماني والسلجوقي، ويحرسه جنود يرتدون الأزياء العثمانية، فاجأ الرئيس التركي نظيره الكوبي ميغيل دياز كانيل بهدية عثمانية عبارة عن رسالة بعثها رئيس كوبا توماس أسترادا بالما عام 1902 للسلطان العثماني عبدالحميد الثاني.
وكعادته في استحضار التاريخ العثماني في خطبه الحماسية قدم الرئيس التركي لنظيره الكوبي خلال زيارة رسمية إلى أنقرة خطاباً يتضمن الرد الذي بعثه سلطان الدولة العثمانية إلى كوبا في ذلك الحين، رداً على رسالة بالما التي تؤكد "نية جمهورية كوبا الحفاظ على علاقات الصداقة مع الدولة العثمانية".
الهدية القيمة
وجاء في الرسالة التي بعثها بالما للسلطان العثماني عبدالحميد الثاني، "يشرفني أن أبلغ سعادتكم بأنه تم إخلاء الأرض التي احتلتها الولايات المتحدة الأميركية وتأسيس جمهورية كوبا ظهر يوم الـ 20 من مايو (أيار) 1902، وإنني توليت السلطة التنفيذية الممنوحة لي بموجب الدستور الكوبي، وأعلن باسم الشعب الكوبي عزم جمهورية كوبا الصامد الحفاظ على العلاقات الصادقة والودية مع جميع المجتمعات وبخاصة مع الدولة العثمانية، وأتمنى من الله عمراً مديداً وسعادة وعزاً وقوة بأصدق المشاعر لك أنت السلطان الأعلى، وأتمنى أن تكون دولتك في سلام ونظام".
وأعرب الرئيس الكوبي عن شكره لنظيره التركي إزاء الهدية القيمة، مشيراً إلى أنه لم ير هذه الوثيقة من قبل، وقال إنها "وثيقة تاريخية بالكامل".
ويقدم أردوغان عادة لزواره من الرؤساء والزعماء هدايا تذكارية تاريخية من الأرشيف العثماني الذي يضم وثائق من هذا القبيل، ومن بينها الرسائل الرسمية بين السلطان العثماني وغيره من قادة العالم في هذا العهد، والسجلات الخاصة بالدواوين الحكومية وغيرها.
وفي رسالة الرد من قبل تركيا العثمانية إلى كوبا قال عبدالحميد الثاني: "صديقنا النبيل رفيع المستوى والمحب والمجيد، تم استلام ودراسة رسالة الصداقة من قبلكم التي تتضمن تشكيل الحكومة الكوبية وتوليكم السلطة التنفيذية ورغبتك في بناء صداقة ونواياكم الحسنة التي ستقوي علاقات الصداقة بين الدولة العثمانية وكوبا وتبعث بالسعادة، وتمت كتابة وبعث رسالة الصداقة هذه مع الرغبة في أن يكون شخصكم العالي بنجاح دائم".
العثمانية الجديدة ولغة المصالح
وفي شأن دلالة حرص أردوغان على إهداء نظيره الكوبي هذا التذكار العثماني، قال المحلل السياسي التركي جواد غوك لـ "اندبندنت عربية"، إن الرئيس التركي يعمل دوماً على إحياء ما يسمى بـ "العثمانية الجديدة"، وتمثيل هذه الفكرة لأنها تمثل مصدر فخر للشارع التركي، وهو ما يعكس رغبة الرئيس التركي في مغازلة الشارع مجدداً بهذه الورقة مع اقتراب الانتخابات الرئاسية الصيف المقبل، فضلاً عن فتح أفق العلاقات التجارية مع كوبا التي تعاني حالياً العقوبات الاقتصادية الأميركية، مما يمهد لأنقرة دوراً في تعويض هذه القيود التجارية من أجل تنشيط التجارة الخارجية لتركيا وتحسين العلاقات الاقتصادية والسياسية مع مختلف الأطراف للاستفادة من ذلك مع قرب الانتخابات، لا سيما وأن المعارضة التركية تستغل القطيعة الدبلوماسية والتوترات بين أنقرة وبعض الدول لتوجيه سهام النقد لحكومة "حزب العدالة والتنمية" التي تفتخر بالعثمانية، لكن هذا "لا يفيد في سياستنا الخارجية"، على حد وصفه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأوضح غوك أن أردوغان سعى إلى إيجاد أية أرضية مشتركة بينه وبين الرئيس الكوبي، حتى ولو كانت مسألة تاريخية توضح ارتباط العلاقات بين البلدين بقواسم مشتركة، وهو ما تؤكده دوماً تركيا في علاقاتها الخارجية.
وخلال مؤتمر صحافي في ختام زيارة زعيم كوبا الشيوعية إلى تركيا العضو في حلف شمال الأطلسي (ناتو)، وصف أردوغان الزيارة بأنها "نقطة تحول في العلاقات الثنائية".
وجاءت زيارة الرئيس الكوبي ضمن جولة تشمل الصين وروسيا والجزائر وتركيا.
مناكفة الولايات المتحدة
بدوره رأى الباحث المتخصص في الشأن التركي كرم سعيد أن الرئيس التركي سعى كعادته إلى استغلال رمزية "العثمانية وتأكيد عالمية الدور التركي من منظور حزب العدالة والتنمية عبر استعادة أمجاد الأمبراطورية العثمانية، وتأكيد أنها دولة قادرة على التأثير في محيطها الإقليمي، وأيضاً لها روابط تاريخية وأنصار في كل مناطق العالم، وهي مساع لم تنقطع منذ عقدين لاستعادة أمجاد الأمبراطورية العثمانية".
وبينما ذكر الرئيس التركي أن العقوبات الأميركية ضد كوبا تعرقل تجارة بلاده معها، فإن هناك دوافع مشتركة بين تركيا وكوبا للتقارب في الوقت الراهن وفق سعيد، الذي يعتقد أن أنقرة ترد حالياً على الرفض الأميركي للعملية العسكرية التركية الأخيرة في شمال سوريا، وبالتالي التقارب مع كوبا التي لا تزال خصماً للولايات المتحدة الأميركية وتُفرض عليها عقوبات من واشنطن، لتعزيز المصالح الاقتصادية بين البلدين وتعزيز الحضور التركي في الحديقة الخلفية للولايات المتحدة، ارتباطاً بالخلافات المتعددة بين الجانبين في سوريا وشمال العراق وشرق المتوسط وعلاقاتها مع إيران.
كما تسعى كوبا في المقابل إلى تعزيز علاقاتها مع عدد من القوى الإقليمية للتغلب على العزلة الأميركية والعقوبات الاقتصادية.
وشدد الرئيس الكوبي خلال مؤتمره الصحافي مع أردوغان على أهمية الزيارة التي تتزامن مع الذكرى الـ 70 لإقامة العلاقات الدبلوماسية، وأعرب عن تقديره لدعم "تركيا حكومة وشعباً لهافانا ضد الحصار الأميركي"، على حد وصفه.
وتابع الباحث في الشأن التركي أن "تركيا تسعى من خلال استقبال الرئيس الكوبي إلى توجيه رسائل مباشرة للقوى الغربية بأن هذه العلاقة استراتيجية تعزز موقعها في القارة اللاتينية، وتحركها في هذه القارة يمثل أحد بنود الأجندة السياسية لأردوغان، لأنها تمثل مؤشراً مهماً على التأثير في الشرق الأوسط، وكذلك بامتداد عالمي يصل إلى الحديقة الخلفية للولايات المتحدة."