عاد لوي فردينان سيلين إلى واجهة الأحداث الأدبية الفرنسية بقوة خلال السنوات الأخيرة بعد سنوات طويلة من الحظر المعلن أو غير المعلن، وسنوات أخرى من اللامبالاة والتجاهل. واليوم يبدو وكأنه لا مر في النازية المعلنة ولا في سنوات سجن ومنفى، بل وكأنه اعتبر دائماً واحداً من كبار الكتاب الفرنسيين، وكأنه كان دائماً روائي القرن العشرين بامتياز. ويتواكب هذا مع استذكار رواياته الكبرى التي لم تنافسها سوى روايات مارسيل بروست على عرش الكتابة الفرنسية خلال النصف الأول من القرن العشرين، كما يتواكب مع تناسي نصوصه العديدة الأخرى التي كانت نازية الهوى والهوية وبدت دائماً الأكثر ذاتية في مساره الكتابي، ليعتبر أكثر ذاتية في كتبه تلك، مع أنه في حقيقة أمره أكثر ذاتية بكثير في روايتيه الكبيرتين "سفر إلى آخر الليل" و"الموت بالتقسيط"، ولا سيما في هذه الأخيرة كما سنرى بعد سطور.
الراوي وأناه الآخر
"أنا لم أمارس مهنة الطب أبداً في حياتي" هذا ما يخبرنا به راوي "الموت بالتقسيط" منذ الصفحة الأولى من هذه الرواية، مستطرداً أنه، كي يعوض عن هذا الاختيار الذي أربكه وأقلقه، ها هو ذا ينصرف الآن إلى كتابة رواية عنوانها "أسطورة الملك كروغولد"... وأنه أطلع رفاقه على ما كتبه من الرواية لكنه لم ينل رضاء من قبلهم. ترى أفلا يعطينا هذا الكلام انطباعاً بأننا إنما نقرأ سيرة للكاتب نفسه: فالراوي اسمه كذلك فردينان، مثل الكاتب، وهو مثله طبيب لكنه يفضل ممارسة الكتابة. وهو كذلك في سنه. ليس ثمة غموض في هذا، بل لن يكون هناك غموض على الإطلاق، إذ نعرف أن سيلين، في نهاية الأمر، لم يكتب إلا عن نفسه، ولا سيما في روايتيه الكبيرتين. ومهما يكن في الأمر، فإن "الموت بالتقسيط" هي سيرة حياة لبطلها وراويها فردينان، منذ ولادته حتى اليوم الذي يقرر فيه أن ينخرط في الجيش، لكن بطلنا هنا ليس بطلاً بأي معنى من المعاني، هو بالأحرى بطل – مضاد، ومنذ صفوف الدراسة. فهو إذا كان قد حصل شهادة الدراسة الثانوية في فرنسا، لن يعود بأية شهادة من سنوات دراسته في لندن. وهذا كله، وكما يخبرنا هو نفسه، يجعله على الدوام غير واثق بذاته.
نصاب في لندن
إذاً، في هذه الرواية التي نشرها سيلين في عام 1936، أي بعد أربع سنوات من نشره "سفر إلى آخر الليل"، والنجاح الكبير الذي حققته هذه الأخيرة. يتابع الكاتب مسار حياة فردينان الذي ولد في زقاق سوق ريفية في مدينة شوازول الفرنسية، ثم ارتحل إلى إنجلترا حيث حاول متابعة دراسته عاملاً في المخازن الكبرى، ومشتغلاً لحين مساعداً لمخترع سنكتشف ويكتشف أنه نصاب. بعد ذلك يعود فردينان إلى باريس، عودة يصفها لنا الكاتب -بلسان بطله الراوي طبعاً- بطريقة تقرب من أسلوب الأفلام الهزلية، ولا سيما مشاهد عبور المانش، والحياة الصاخبة ليلاً في ساحة الكونكورد الباريسية. والحقيقة أن "الموت بالتقسيط" مؤلفة كلها من مثل هذه المشاهد، المزدحمة باللقاءات والسهرات والحوارات، إنما دون أن يحدث ما هو استثنائي، إلى درجة أن القارئ قد ينتهي به الأمر ذات لحظة إلى أن يتساءل: ولكن ما دخلي أنا في كل ما يحدث هنا؟ ومثل هذا القارئ كانت حال نقاد تلك السنوات من الذين بعد أن كانوا أطروا بشكل استثنائي على "سفر آخر الليل" ها هم أولاء يتراجعون اليوم، منصرفين عن أي تعليق جدي على هذه الرواية الجديدة، وبخاصة أن سيلين نفسه كان خلال تلك المرحلة قد بدأ يظهر علامات مناصرة للفكر النازي ويبوح بإعجاب غير محدود بهتلر، معلناً أنه (أي سيلين) -يفضل السلام على الحرب- وكانت أجراس الحرب قد بدأت تقرع - حتى وإن كان في العام الذي صدرت فيه الرواية قد سافر إلى لينينغراد ليعاين بأم عينه "ذلك المجتمع الجديد الذي يبنيه السوفيات". كان هذا كله يبدو مختلطاً لديه مبعداً إياه، في نظر عديد من النقاد، عن "النقاء الأدبي" الذي كان التصق باسمه في روايته الأولى.
انتحار الحبيبة والعالم
غير أن "الموت بالتقسيط" عرفت كيف تعيش على رغم الآراء السلبية، إذ بالتدرج، ومع السوداوية التي راحت تطغى على الذهنيات الفرنسية، التي كانت المستقبلة الأولى لهذه الرواية بالطبع، وجد معلقون آخرون أنها واحدة من أكثر الروايات تماشياً مع تلك السوداوية: فهنا، من فصل إلى فصل، تغوص الرواية في نوع من الانهيار المتصاعد. كل شيء هنا يتدهور: من دراسة فردينان وفشله فيها، إلى العلاقة بين أبويه. وصولاً إلى نورا، الفتاة الإنجليزية التي بعد أن كانت قد أقامت علاقة مع فردينان، تنتحر تاركة إياه في ارتباك وحيرة من أمره مسلماً بأن الدمار مصير كل ما له علاقة به، لكن انتحار نورا لن يكون الوحيد الذي سيطاول فردينان برشاشه، إذ ها هو ذا، لاحقاً، كورتيال دي بيريار، رجل العلم غريب الأطوار الذي بعد أن تنفجر آلة كان يشتغل عليها، يقدم على الانتحار هو الآخر. وهذا ما يدفع إلى القول إن كل التغيرات الكبرى التي تحدث في الرواية في حياة فردينان إنما هي محكومة بمبدأ الفشل.
إشارات نادرة
ومع هذا لن يحاول الراوي أبداً أن يعزو أي فشل يكون من نصيبه إلى أية عوامل خارجية. فهو لا يتذرع بأحداث العالم وتطوراتها لكي يبرر أو حتى يفسر، بل إن الاشارات المزروعة في الرواية والمتعلقة بـ"أحداث الخارج الكبرى، تبدو نادرة هنا: هناك طبعاً إشارة إلى المعرض الدولي الذي أقيم في عام 1900، وهناك بعد ذلك إشارة إلى أول الباصات التي خدمت خط مادلين – باستيل، في باريس (وكان ظهورها حدثاً تاريخياً كبيراً في تاريخ العاصمة الفرنسية)، وهناك إشارة واضحة إلى ما اقترفته عصابة بونو الشهيرة في عام 1912، وكيف تم القضاء عليها. عدا عن هذه الاشارات "التاريخية الحديثة" القليلة، إلى الزمان، نجد أن سيلين يهتم أكثر بالحديث عن المكان. فالأمكنة في روايته تتكاثر، ودائماً من دون تحديد واضح لتاريخ إقامة فردينان فيها أو مروره بها: واللافت هنا أن الأماكن الإنجليزية تبدو أكثر تنوعاً وحضوراً: من فولكسفون إلى روتشستر مروراً ببرايتون. وفي المقابل إذا كان ثمة مكان باريسي يركز عليه الكاتب أكثر ما يركز فإن هذا المكان، ويدعى بيريزيناس، لا وجود له في الواقع. كل ما في الأمر أنه نسخة من ممر شوازيل في باريس وعالمه المؤلف من صغار البائعين والمارة الدائمين.
اليوم قد يكون من حق الناقد أن يتساءل: حين جعل سيلين لـ"الموت بالتقسيط" كل هذه السوداوية، هل تراه كان يعبر عن رؤيته الخاصة لذلك الزمن، أم عن تلك الذهنية العامة التي كانت سائدة في فرنسا، وربما في أوروبا كلها في ذلك الحين؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
سيلين ضد الجبهة الشعبية
تصعب الإجابة بوضوح عن هذا السؤال، ومع ذلك، عشية الزهو الذي ساد فرنسا في عام 1936، مع مجيء "الجبهة الشعبية" اليسارية إلى الحكم وما أعطته من أمل للشعب الصغير والمعدمين والتقدميين، وكان يسود في هذا البلد جو من التشاؤم، ناتج عما حدث، في الأقل، منذ اندلاع الحرب العالمية الأولى وأهوالها، متضافراً مع حنين إلى سنوات ما قبل الحرب، تلك السنوات التي كانت تعرف بالعصر الذهبي ولا سيما في باريس. وبالنسبة إلى سيلين كان هذا لا بد أن يخلق ذلك التشاؤم الذي وسم روايته، بل أكثر من التشاؤم: فالموت والشر وكل أنواع العيوب وضروب الانتقام، وتدهور الشرط الإنساني، أمام بؤس الوضع الاقتصادي العام، كان هذا كله ماثلاً أمام ناظريه، في سنوات كتابته للرواية (1932-1936)، فأسقطه على سنوات أحداثها، جاعلاً من كل تلك الانهيارات قلب الرواية وموضوعها، بحيث لا يعود "بطله" الشاب فردينان، سوى مرآة لما يحدث. والطريف أن ذلك المناخ التشاؤمي كان وراء الاستقبال السيئ الذي استقبلت به "الموت بالتقسيط"، إلى درجة أن الناشر اضطر أمام مواقف النقاد والقراء المشمئزة من الرواية إلى إصدار نص عنونه "دفاعاً عن الموت بالتقسيط"، أشار فيه إلى ما أثارته الرواية من "ملل" لدى القراء، مذكراً بما حدث قبل ذلك بعقود لرواية "القاتل" لإميل زولا، مستنتجاً أنه كما كان مصير رواية زولا أن تعود إلى الحياة متألقة بعد سنوات من الاستقبال السيئ الذي كان لها، فإن رواية سيلين ستنعم يوماً باستقبال جيد. ويبدو أن الناشر كان محقاً، حيث نعرف اليوم أن "الموت بالتقسيط" تعتبر، إلى جانب "سفر إلى آخر الليل"، واحدة من أفضل كتب لوي فردينان سيلين (1894-1961).