Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

التشخيص والتجريد يتآلفان في أعمال الفنان رودي رحمة

 يبحث في معرضه الباريسي عن الزمن في أعماق الإنسان وذاكرة الصخور

 أفيش معرض رودي رحمة في باريس (خدمة المعرض)

ملخص

يقيم الرسام والنحات اللبناني رودي رحمة حالياً معرضاً في غاليري مودوس الباريسي (بلاس دي فوج ما بين الـ14 والـ25 من نوفمبر الجاري)، بعنوان "ازهرار الزمن" وبطله الإنسان. ولكن من هو الإنسان الذي يخاطبه الفنان من عمق المسافة التي يفتحها في أعماق النفس؟

لا يسع الناظر إلى أعمال النحات رودي رحمة أن يلتقط إلا بعضاً من خياله إلا من امتلك عين شاعر وعقل مفكر، كي يدرك رحابة الفضاء الذي يشغله بالتنقيب عن جذور الألم وينابيع الجمال، في ظل المآسي والأحداث التي تكتنف حياة الإنسان المعاصر. إلى كونه رساماً ونحاتاً، فإن رودي رحمة هو شاعر له عدة دواوين. أما لغته فهي لغة الطبيعة الناطقة بالحب والخيال، لغة الشجر والغيوم والصخر والتراب والهواء والينابيع، لغة فيها استعارات من مزيج الأنا والذاكرة والأرض والطفولة وهي متوهجة بالخيال. والخيال هو جذوة مستعرة يستمد منها الفنان تلك القدرة على إشعال الروح في قلب الجماد، وهو العين الداخلية التي تلهم وتعطي للرؤية مسارها إلى النور.

هل يصمد الجمال أمام عنف التاريخ؟ هو السؤال الكبير الذي يواجهه رودي رحمة وهو يقلب في إنتاجه الأخير صفحات العمر كي يستنبط منها فلسفة الحياة، وكأنه يطرح على نفسه أسئلة شائكة أيضاً متصلة بمسائل الفن نفسه: المنظور والأعماق والسطح والفضاء والخامات والمواد والألوان، رادماً الهوة التي تفصل بين اللوحة والمنحوتة. هذا الإنتاج شكل نواة معرضه الذي يقام حالياً داخل باريس في غاليري مودوس (بلاس دي فوج place des vosges ما بين الـ14 والـ25 من نوفمبر الجاري)، بعنوان "ازهرار الزمن" وبطله الإنسان.

بالخيال يحيا الإنسان

كثيراً ما يختلط الصخر بعظم الإنسان ولحمه حتى ليبدو أنه الرحم الأرضي الأول الذي ينبثق منه الكائن، ومنه يستيقظ وينهض ويمشي ويتحرك لفرط الاندماج بينهما. وهذا الاندماج العضوي والبنيوي شكل الوعي الأول على العالم في طفولة رودي رحمة ابن بشري في لبنان (من مواليد عام 1967)، وابن صخور وادي قاديشا ووداي قنوبين المقدس، وجار غابة الأرز الشامخة التي انطلقت منها أولى شرارات إزميله وهو يقدح الجذع الصلب للخشب كي يحيله إلى قامات من عنفوان الأرض وعطور حضاراتها وأمجادها. على رغم ذلك فإن إنسانه ليس طوباوياً بل هو الكائن بالمطلق، هو جمال المرأة وحضور الرجل بين النعومة والصلابة كما بين الحلم والحقيقة والشباب والكهولة والأرض والسماء، حيث الأقدار معلقة ومتأرجحة مثل تفاحة تتدلى من حبل على الشجرة وتوشك أن تقع.

إنه الإنسان بفضائله وخطاياه، كما ينظر إليه الفنان من عمقه الروحي والديني والقدري والغيبي المؤمن بالجحيم والنعيم. وهو المفطور منذ نشأته على حب الإنسان والطبيعة، على الدرب الذي مشى عليه من قبله مرشده الروحي ابن بلدته الكاتب والفيلسوف (صاحب كتاب النبي) جبران خليل جبران (1883- 1931)، فشاء منذ يفاعته أن يكون مثله شاعراً وفناناً في آن واحد. واستلهم في الفن قناعاته من علاقة الإنسان المتجذر بالأرض وموجودات الطبيعة الخالدة وكائناتها كمصدر للإلهام والوحي. وطرح مفاهيم جديدة للعلاقات الإنسانية من منظار يجمع بين الروح والجسد، كما بين الحقيقة والخيال في ابتغاء الجمال. وتميز كنحات متمكن، والتمكن الفني هو بمثابة البريق أي القيمة الفنية العليا، وبخاصة أنها متأتية من الدراسة والتعلم في موطن الصخر والرخام، في فلورنسا بإيطاليا حيث تخرج من أكاديمية سبينللي Spenelli متخصصاً في فن الفريسك والنحت، ومن بعدها في مسبك كوبرتان Coubertin لصب البرونز في باريس.

ومنذ أوائل التسعينيات أثبت رودي رحمة قدرته الفنية من خلال توجهاته الإنسانية التي تنشر المحبة والسمو والكبر من منظار قوة الإنسان وقدرته على تخطي الألم والظلم والمصاعب ونكبات الحروب، لذا مجَّده وأعطاه دوراً بطولياً. وفي هذا الخضم فإن فنه المتأصل في الأكاديمية والمستمد أبعاده الروحية من نشأته الدينية المسيحية، والمتمكن من دراساته التشريحية والجمالية للجسم الإنساني بقي يستأنس بالثوابت الجمالية للفنون الكلاسيكية، على رغم ارتباطه العميق بالمفاهيم الحداثية (خصوصاً الرمزية والسوريالية)، ساعياً إلى فتح النوافذ أمام تعدد الوسائط والخامات والتقنيات والألوان التي يتم من خلالها الدخول إلى مدراك "الفن البصري" في لغة المعاصرة.

وبالخيال استطاع رودي رحمة أن يفكك عالم الواقع ليستعير بعض مفرداته ويقذفها في الفضاء كي تحلق وتتجاور وتتقاطع، فتبدو عناصر متأتية من ارتطام الوعي باللا وعي، في استجلاء للغموض اللا نهائي للوجود الإنساني المندمج بالطبيعة. وفي أعماله الأخيرة التي يعرضها في باريس ثمة لوحات تمجد المرأة بحلة سوريالية مبهرة، وأخرى تدمج بين خامات عديدة ما بين تشخيص وتجريد، ونافر وغائر، ووضوح وضباب. أنواع من الملامس تعتمد على عجائن ثقيلة تستخدم عادة في النحت طُبقت على مساحات كبيرة من القماش بأحجام جدارية، كضربات متلاحقة مما يعطي لعجينة المادة الصخرية حركة تكسراتها وخشونة ملمسها ونسيجها الجيولوجي النافر والغائر، خصوصاً إذا تداخلت مع ألوان الداكن والفاتح.

الصخرة المتحركة

في منحوتاته يمشي الإنسان في الصخر ويعيش فيه ويرتبط، بسهولة مثل الماء والهواء والغيوم في عالم يتبدد ويتناثر. وفي ظل "الواقع المستحيل" أو الميتافيزيقية التي غلبت على أعمال رودي رحمة ثمة حركة نابعة من قوة اندفاع الأجسام بلا تردد، بتلقائية تنساق إلى فن لا يعرف الخمود بل مشتعل بالحياة. والحياة مثل موجة بين علو وهبوط في لجج مستمرة هي من مآزق الوجود. وتتفرد شخوصه بالتعبير عن تراكمات الذاكرة والأزمنة والأمكنة. لكأن الصرخات تموت في أفواههم الفاغرة وتضيع ملامحهم في رؤوسهم المتوغلة في أعماقها الصخرية، ولا يبقى منهم غير تقاسيم أجسادهم النافرة كي تدل على وجودهم. وفي هذه التجارب يتوارى التشخيص أحياناً إزاء نمو الكتل نمواً تصاعدياً ومتكرراً لكي يكتمل الشكل في قوامه التجريدي، مع تفخيم المادة (بودرة الرخام) التي تتيح لشتى التعبيرات أن تظهر، وبخاصة التكسرات الدقيقة والتدفقات الحركية. وكل ذلك من شأنه أن يمنح دينامية لا توفرها الخامات التقليدية في النحت، بما يوحي بصور الجليد وشلوح أشجار الأرز وطبقات الصخر والأمواج العاتية لحركة الزمن الذي تتفتح أوراقه مثل الزهر ورقة ورقة، تعصف بها دوامات الأعاصير. 

وتظل التجربة الجسدية مرتبطة بالحب والعناق والسفر ومشقة الحياة في الدروب الصاعدة نحو الأعالي، وهي تندرج ضمن نوع من التجريدية المكسوة ببعض الرموز والمفردات التشخيصية التي تحيل إلى مرجعيات تاريخية وأركيولوجية متصلة بالطبيعة. ثمة أشكال مسننة وطبقات تلو طبقات مثل عروش أو أمواج متراقصة. وعلينا أن نتبين في تلك المنحوتات ما يريد الفنان إبرازه لنا وما يريد أن يخفيه عنا في ربطه الواقع بالمجهول، إذ تلتقي الحركة العمودية بالحركة الأفقية، وتنبري المرأة بملمسها الناعم ملتحمة مع خشونة الصخر، وهي تكتسي بألوان الطبيعة الغسقية والبركانية الألوان المشبعة بالنار.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويستقي رودي رحمة فلسفته من تأملاته العميقة للطبيعة ومن ذكريات طفولته ووعيه المبكر ومشاهداته لبرد الشتاء وهبوب العواصف، والصخور المسننة بفعل الريح في وادي قنوبين، ومشهد معاطف الثلج التي تغطي الجبال في بشري وحكاية الرمل والطين، وأشجار الأرز التي تشربت من الأرض عطر قداستها وماءها وقوتها. "شجرة الأرز ذات الشلوح الأفقية شلح فوق شلح مثل سيف فوق سيف كما يقول الفنان، فالطبيعة ليست جامدة ولا واقفة، الطبيعة تمشي أفقياً. كمثل هذه الصخور الدهرية التي تضربها العاصفة ولا تتأثر". والعاصفة مصدر الحركة في صراع القوى بين الإنسان والطبيعة، ومصدر وحي للفنان الذي يرى العالم مضطرباً والإنسان مطعوناً بالألم بعيداً من عالم الاتزان والثبات، يمشي على الصعاب كمن يمشي على الحدود المسننة للصخور، وينبثق ويولد من بين أضلعها ليواجه العقبات وينهض ليقرأ صفحات الحياة.

ليس الإنسان وحده الذي يمشي بل هذا الصخر الذي ليس له عمر هو أيضاً يمشي كالريح. وفي هذا السياق التاريخي يبدو إنسان رودي رحمة في مشيته الصاخبة المحملة بأثقال الحياة، لكأنه ما بعد إنسان أمبرتو بوتشيوني Boccioni (المستقبلية - عصر السرعة والتخطي للزمن) وجياكوميتي (سوريالية ما بين الصورة والرمز)، أقرب ما يكون في أحماله وأثقاله إلى إنسان زادكين (البحار). غير أنه في حقيقة وجوده يعبر عن الإنسان اللبناني (في قناعات الفنان) الذي خرج من الصخر ولم ينحن ولم ينكسر، على رغم العواصف العاتية. اللبناني هو ابن التاريخ "ابن الدهر" وذاكرة الإنسان الفينيقي الذي خطا خطوة إلى الأمام في تاريخ الحضارة البشرية، فركب البحر مشرعاً مراكبه للعاصفة فاتحاً أبواب العالم. 

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة