لعله الشاعر الأكثر حضوراً في الجزء الرومانسي من ذاكرة الإريتريين، بخاصة الناطقين بلغة التقرايت، فما إن تأتي سيرة العشق إلا وحضر اسم الشاعر والفنان إدريس ود أمير (1920- 1964) باعتباره رمزاً للشعر والفن الغزلي، كما أن حياته تمثل تجسيداً للتضحيات التي يسدد "العشاق الكبار" كلفها الباهظة فقط لأنهم صرحوا بحبهم وتغنوا بحبيباتهم في مجتمع لم يكن يحفل كثيراً بشعور كهذا.
يقول أحمد الحاج (المهتم بتراث التقرايت) في حديثه إلى "اندبندنت عربية" إن "مجتمع التقرايت لم يكن يرحب كثيراً بالرجل الذي يكشف عن حبه بشكل صريح ويتغزل بحبيبته، بل إن ذلك قد يؤدي إلى نوع من الحرمانية، بحيث يستحيل السماح له بالزواج منها".
إلا أن تلك الأعراف في الوقت ذاته كانت تخلد العاشق الولهان عبر ترديد أغانيه وقصائده وكان عليه أن يختار بين أن يخفي شعوره بغرض تحقيق أمنية الارتباط بمن يحب، أو أن يقبل بحقيقة أنه أحد ضحايا الحب ورموزه ويبقى خالداً في الذاكرة، واختار "ود أمير" أن يبقى في ذاكرة الإريتريين ودول الجوار، لا سيما السودان حيث لا يزال الفنانون في القطرين يؤدون أغانيه ويعتبرونه شاعراً وملحناً فذاً بعد مضي أكثر من ستة عقود على رحيله.
عاش عاشقاً ومات عازباً
يقول الشاعر والفنان الإريتري محمود لوبينت إن إدريس إبراهيم ود أمير من مواليد قرية عايلت وتعود أصوله لبيت النائب بضاحية حرقيقو التي تقع على بعد ثمانية كيلومترات من ميناء مصوع على البحر الأحمر.
وفي إفادته لـ"اندبندنت عربية" عن مصادر تأثره، يضيف لوبينت أن "والده كان شاعراً وبدأ بتقليده ونظم بعضاً من أشعاره على نمطها كنوع من إكمال المعنى"، وتابع "كان ود أمير يرتجل الشعر سواء في الأعراس أو الجلسات ويؤديه بشكل سلس وتتميز قصائده بالوضوح في المعنى والبساطة في الوصف من دون أن تعوزها البلاغة اللغوية المطعمة بالصور الجمالية الأخاذة، فضلاً عن الجرأة في التناول".
كان شعره من السهل الممتنع الذي يتسرب بتلقائية وبساطة، وعلى رغم الجرأة التي تميز بها، يؤكد لوبينت أنه "تميز أيضاً بعفة اللسان ورقي المفردة التي يختارها بعناية بالغة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويحكى أن الشاعر حرص على إخفاء اسم حبيبته حتى يظفر بها وظل يتغنى بها في القرى والحضر من دون أن يكشف عن شخصيتها، إلى أن حضر إحدى السهرات في مدينة مصوع حيث كان يغني في جلسة خاصة ولأن السهرة امتدت لوقت طويل، حدث ما لم يكن يتوقعه فانفجر أحد الفوانيس (مصابيح السهرة حينها petromax) نتيجة الحرارة العالية، مصدراً صوتاً عالياً يشبه صوت الانفجار، فصرخ الفنان قائلاً "أنتِ فدى قلبي يا آمنة بنت علي" ليكشف من دون أن يعي عن اسم حبيبته الذي لطالما لفه بغيم من الغموض في أشعاره وأغانيه.
وكانت تلك الواقعة هي بداية معرفة الناس بحبيبة الشاعر الولهان، الأمر الذي دفعه لاحقاً إلى التصريح باسمها في إحدى القصائد وذلك إيذاناً بقبول قدره كعاشق شجاع يتحمل مسؤولية تصريحه، بالتالي يسدد كلف ذلك القدر، فنظم عدداً من الأبيات تؤكد عزوفه عن الارتباط بأي فتاة أخرى وعاش عاشقاً وفياً ومات عازباً بعد زواج محبوبته.
كطائر مكسور الجناح
لم تكن قصة "ود أمير" كقصص الحب المتخيلة التي عاشها أقرانه في تلك الفترة، عندما كان الشاعر يكابد قدر الحب من طرف واحد، بل تبادل فيها العاشقان الشعور ذاته، ويوثق لتلك العلاقة في بعض قصائده، مبيناً أن حبيبته كانت تزوره خفية وهو نزيل مستشفى "قرار" حاملة له الغذاء والسجائر، إلا أن افتضاح سر العلاقة حال دون ارتباطهما، كما فرض على الحبيبة سياج عائلي كي لا تقابله، مما دفعه إلى نظم تلك الأبيات، "أبلغوا أشواقي يا من تقصدون دارها/ فقد سدت الأبواب دوني ودونها/ أنا العاشق الذي يبحث عن براح/ وهي كطائر مكسور الجناح/ وهل ثمة عصفور يطير دون جناح".
ولعل أكثر ما يميز شعره هو اعتداده الكبير بنفسه، وفي الوقت ذاته لا يكف عن التصريح بهشاشة قلبه، فهو من ناحية يرفض قيود المجتمع التي تفرض شروطاً قاسية على المحب، ومن ناحية أخرى ينصاع طوعاً لبعض الشروط المتعلقة بعدم جواز طرق الأبواب المغلقة أمامه، ففي أحد الأبيات يصف حاله بعد زواج حبيبته من رجل يسكن في قرية ليست بعيدة، قائلاً "ها هي نار دارها موقدة غير بعيدة من هنا/ ولولا أن الأمر معيب لسكنت أمامها".
أغان خالدة
ويوثق أحمد الحاج أن هناك ما لا يقل عن خمس قصائد ملحونة مسجلة في ذاكرة الإريتريين تعود لهذا الشاعر الذي لا تتوافر أي تسجيلات صوتية له حتى الآن، قائلاً "على رغم أن الشاعر عاش في منطقة حضرية وجاب معظم ربوع البلد وغنى في الأفراح والمناسبات وذاع صيته، إلا أنه لم يسجل أي شريط صوتي، بحسب علمي، ويعود ذلك لكونه مغنياً شعبياً، يؤدي أغانيه بشكل ارتجالي في المناسبات الخاصة أكثر منه فناناً مكرساً أو منضماً إلى فرقة موسيقية".
بينما يؤكد محمود لوبينت أنه "سجل شريطاً يضم أربع أغنيات وبعض الأعيان كانوا يملكون نسخاً من هذا الشريط" ويضيف "ثمة سردية أخرى تقول إن فناناً أميركياً زار إريتريا وسجل لود أمير بعض أغانيه ووعده بإرسال الشريط الصوتي عند عودته إلى أميركا بعد معالجتها تقنياً، لكنه لم يفعل".
كما ينقل لوبينت عن الفنان الإريتري الراحل رمضان قبري الذي أقام مع ود أمير بعد انتقاله إلى السعودية أنه "سجل أربع أغنيات في شريط صوتي، كما كتب لاحقاً أغنية جديدة عن وضع الغربة ومفارقاتها أثناء وجوده في مدينة الرياض قبل أن يذهب إلى الكويت عام 1964 ويتوفى في العام ذاته هناك".
ويسرد أن ثمة نبوءة أطلقها في إحدى أغنياته توقع فيها أن يموت غريباً في بلاد أخرى، بعيداً من سماء حبيبته، وهذا ما حدث بالفعل".
ست قصائد وبحر واحد
والمؤكد أن هناك نحو ستة ألحان تنسب إلى ود أمير وجميع تلك القصائد مكتوبة على بحر واحد، مما يسهل أداءها بيسر، ويعيب لوبينت على الفنانين الإريتريين الذين يؤدون قصائد ود أمير "فهم لا يبذلون الجهد الكافي لمعرفة تفاصيل كل قصيدة، بحيث يجتزئون أبياتاً معينة من قصيدة ما ويضمونها إلى قصيدة أخرى ويؤدونها وكأنها أغنية واحدة"، كما يلاحظ أن "هناك من يحيد بعض الكلمات، بما لا يتناسب وروح القصيدة الأصلية لتخرج الأغنية بشكل لا يعبر عن وحدة القصيدة والفكرة، بالتالي الأغنية".
ويرى لوبينت أن "قصائد ود أمير تكشف عن بعد روحي صوفي وتأثره بالطريقة الختمية التي كانت سائدة في مدينة مصوع وإريتريا عموماً، وكان يتبع معظم مسلموها الطريقة الصوفية الختمية (الميرغنية)"، مشيراً إلى بيت شعري يتوسل من خلاله ود أمير للإمام الميرغني الذي يصفه باللبيب، طالباً عونه في تحقيق أمنية الارتباط بحبيبته.
كما يتضرع في أحد الأبيات إلى الله، طالباً أن يجمعه بحبيبته كما "جمع يوسف بزليخة" ويقصد زوجة عزيز مصر (راعيل بنت رماييل وزليخة هو لقبها) التي راودت نبي الله يوسف عن نفسه.
ويؤكد لوبينت أن قصائد ود أمير لا يمكن اختزالها في الغزل فقط، إذ إنه طرق عوالم كثيرة وحفظ الإريتريون كثيراً من الحكم والأعراف من خلال قصائده التي تحرض على الاعتزاز بالذات وبقيمة الإنسان، فضلاً عن كتابته عن المنافي البعيدة وسؤال الاغتراب.